وقوله: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا روى عبد الرزاق عن ابن عباس - ا - في قوله: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا قال الخادم، والمرأة، والبيت."
الله قال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء، ولم يقل: جعلكم أنبياء، ولما ذكر الملك قال: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا فلماذا فرق بينهما؟
هذا التفريق جعل أهل العلم يحملون المعنى على بعض المحامل، وإن كانت على خلاف الظاهر المتبادر، فبعضهم يقول هو على تقدير حذف حرف الجر، وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا: أي: جعل منكم ملوكاً، وقالوا: لأنه من المعلوم أنهم ليسوا جميعاً ملوكاً، وإنما فيهم الملوك.
ومن أهل العلم من يقول: إن النبوة لا يمكن أن تنسب إلى غير من اتصف بذلك، وتفضل الله عليه بها، أي أنه لا يمكن أن تقول لقوم نبي من الأنبياء: أنتم أنبياء، أما الملك فيمكن أن يضاف إلى القوم، وإن لم يكن الواحد منهم كذلك، كما تقول قرابة الملك مثلاً: نحن الملوك، أي قد يقولون هذا، ولا يكون ذلك معيباً في كلام العرب، يعني أن وجه قولهم: نحن الملوك صحيح في اللغة، وكذلك أيضاً يمكن أن يضاف إلى القوم، أو القبيلة، فيقال: القبيلة الفلانية هم الملوك، أي أن الملوك منهم، ويكون ذلك عزاً، وظهوراً لهذه القبيلة، فعلى هذا يكون إضافة الملك إلى بني إسرائيل بهذا الاعتبار، وقد قيل بهذا الاعتبار، وأنهم وصفوا بأنهم ملوك بظهورهم، وما لهم مما أعطاهم الله من الإمكانات، والقدر، والتصرف الذي هو حقيقة الملك، فالمقصود أنه يمكن أن يفسر بهذا، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: أي أنهم ملكوا أنفسهم بعد أن كانوا مملوكين لفرعون يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، أي يستخدم النساء في الخدمة، ويبقي الرجال من أجل أن يقوموا بالأعمال المهينة التي يتنزه عنها الفراعنة، ولهذا أمر الله تعالى موسى، وهارون ﷺ أن يأتيا فرعون، ويقولا له: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [سورة طـه:47] يعني خلِّ بيننا، وبين بني إسرائيل، ولذلك لما أرادوا الخروج إلى الشام خرجوا مستخفين، فتبعهم فرعون، ولم يتركهم إلا أن الله نجاهم منه، فملكوا أنفسهم بعد أن كانوا مملوكين فوصفوا بهذا، وهذا على أحد أقوال أهل العلم، وقيل: إن الواحد منهم صار لا يُدخَل عليه إلا بإذن، فبهذا الاعتبار قيل لهم: ملوك، وهذا القول فيه بعد - والله تعالى أعلم -.
وبعضهم يقول: أي أنه يملك خادماً، وزوجة، وعنده ربما ما يكفيه من قوته، أو نحوه، فهو بهذا الاعتبار يكون ملكاً، كما جاء في بعض الآثار، ووردت بعض الأحاديث التي تدل على أن من ملك مثل هذه الأشياء فكأنما حيزت له الدنيا[1]، كما صح أيضاً عن بعض الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص لما سأله رجل، وقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له: هل لك زوجة؟ فقال: نعم، قال له: هل لك مسكن؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء! فقال: ولي خادم، قال: فأنت إذاً من الملوك.
وقد قال كثير من السلف: إن المراد بالآية: وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا أي أن الواحد منهم له محل يسكنه، وله خادم، ومن كان كذلك فإنه يقال له: ملك.
وجاء عن ابن عباس: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة، والخادم، والدار سمي ملكاً، يعني أن هذا اصطلاح عندهم، أو عُرف بينهم، والخطاب في الآية موجه إليهم: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا [سورة المائدة:20].
ولعل الظاهر المتبادر من المعنى - والله تعالى أعلم - أن الله - تبارك، وتعالى - يمتن عليهم بأن جعل فيهم النبوة، وجعل فيهم الملْك، فكان لهم الظهور من بين سائر الأمم، ولا يعني هذا أن كل واحد منهم يكون ملكاً، وإنما المعنى أنهم كانوا ظاهرين، كما قال تعالى: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ [سورة غافر:29] فهذا الرجل المؤمن خاطب قومه بقوله: لَكُمُ الْمُلْكُ، وإن لم يكن كل واحد منهم ملكاً، ولهذا يمكن أن يخاطب العرب بهذا، أو يوصفون به حينما امتن الله عليهم بالإسلام، فكان لهم الظهور، فبعد أن كانوا يلقبون بذباب الصحراء صاروا ملوكاً بهذا الاعتبار - والله اعلم -.
وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ."
الأمر كما قال "الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ"، ولا حاجة للتكلف في تفسير قوله تعالى: وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] فهي كقوله : وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:122] أي على عالمي زمانهم، ولا يعني أنهم أفضل من هذه الأمة؛ لأن الله بعد ذلك لعنهم، وطردهم، وقطعهم في الأرض أمماً، ومقتهم، فهذه الأمة أشرف، وأكمل لكن في عالم زمانهم من اليونان، أو الرومان، أو سائر الأمم المكذِّبة كان هؤلاء - بنو إسرائيل - أشرف، وأكمل ففيهم الأنبياء، وفيهم أهل الإيمان، ثم بعد ذلك صار الأمر كما قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] فبعد أن كانت النبوة في بني إسرائيل انتقلت إلى هذه الأمة، فقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32] هم هذه الأمة بطوائفها الثلاث، قال تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [سورة فاطر:32].
على كل حال وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:] يدخل فيه هذا، ويدخل فيه غيره مما أعطاهم الله فهو ظللهم بالغمام، وأنزل عليهم المن، والسلوى، وفرَق بهم البحر، وأعطاهم أموراً كثيرة لم يُعطِها أحداً من عالمي زمانهم.
وقوله: وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20] يعني عالمي زمانكم، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان، والقبط، وسائر أصناف بني آدم كما قال: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الجاثية:16]، وقال تعالى إخباراً عن موسى لما قالوا: يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الأعراف:138-140]، والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم، وأفضل عند الله، وأكمل شريعة، وأقوم منهاجاً، وأكرم نبياً، وأعظم ملكاً، وأغزر أرزاقاً، وأكثر أموالاً، وأولاداً، وأوسع مملكة، وأدوم عزاً، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143]، وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة، وشرفها، وكرمها عند الله عند قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ من سورة آل عمران [سورة آل عمران:110].
- سيأتي ذكره، وتخريجه.
- أخرجه الترمذي في كتاب الزهد – باب 34 حديث رقم (2346) (ج 4 / ص 574)، وابن ماجه في كتاب الزهد - باب القناعة (4141) (ج 2 / ص 1387)، والبخاري في الأدب المفرد (300) (ص 112)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6042).