الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا۟ ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِى كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا۟ عَلَىٰٓ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا۟ خَٰسِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى لبني إسرائيل على الجهاد، والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب لما ارتحل هو، وبنوه، وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف ، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها، وتملكوها، فأمرهم رسول الله موسى بالدخول إليها، وبقتال أعدائهم، وبشرهم بالنصرة، والظفر عليهم، فنكلوا، وعصوا، وخالفوا أمره، فعوقبوا بالذهاب في التيه، والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى، فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ [سورة المائدة:21] أي المطهرة.
وقوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] أي التي، وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل ."

فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: إنها كانت موطناً لهم قبل خروجهم إلى مصر في زمان يوسف ﷺ، والمعروف أن يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - كان في البادية - بادية الشام، أو بادية فلسطين -، ولهذا قال يوسف ﷺ: وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ [سورة يوسف:100]، ويمكن أن يراجع كلام أهل العلم في ذلك الموضع، وعلى كل حال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مؤرخ.
وقوله هنا: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ [سورة المائدة:21] قال: أي المطهرة، وبعضهم يقول: أي المباركة، وعلى كل حال كل ذلك يصدق عليها، وإن كان المتبادر في معنى لفظة التقديس هو التطهير، يقال: يُقدِّس كذا بمعني يطهره، وينزهه، وما أشبه ذلك، ومنه أُخذ معنى التعظيم؛ لأنك إذا قدست شخصاً بأن نزهته، وطهرته، فمعنى ذلك أنك عظمته، وذلك من باب الملازمة  -والله تعالى أعلم -.
وهذه الأرض بعضهم يقول: إنها الشام، وهو كقول من قال: إنها دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن، ومنهم من يخص ذلك بدمشق، ومنهم من يقول: أريحا، ومنهم من يقول: الطور، وما حوله، ومنهم يقول: من العريش بمصر إلى الفرات في العراق، وهذا الذي يدَّعيه اليهود اليوم، فإن الخطوط التي في علمهم فيها خطان أزرقان بينهما النجمة، أحد الخطين يرمز إلى النيل، والآخر يرمز إلى الفرات، ومن أناشيدهم في كل صباح التي ينشدها حتى الطلاب في المدارس: حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل، ولا أظنهم يصلون إلى هذا، بل لا أظنهم يتجاوزون ما هم فيه بشيء يذكر؛ لدلالة النصوص على ذلك، وإن كانت ليست دلالة نصية صريحة، لكن كون النبي ﷺ يقول عن آخر الزمان: أنتم شرقي النهر يعني الأردن وهم غربيه[1] فهذه حدود كما هي الآن تقريباً، والعلم عند الله على كل حال.
قوله تعالى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] فحينما كانوا على دين صحيح كتبها الله لهم، واستطاعوا أن يدخلوها بعد حين، وعامة أنبياء بني إسرائيل كانوا فيها - أعني في بلاد الشام -، فالذين ينازعونهم، ويجادلونهم من العرب، ويقولون: نحن أحق بهذا، ولنرجع إلى التاريخ، فهؤلاء مساكين، فالمسألة ليست بهذه الصورة؛ لأن المسألة لو كانت مسألة عرب فالعرب ذباب الصحراء كانوا في جزيرة العرب، وإنما الذي دخلها هو الإسلام، وليس العرب، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
فلما كذّب هؤلاء اليهود الرسل، وقتلوا من قتلوا منهم مقتهم الله ، وسلط عليهم خلقه يسومونهم الخسف، والذل، وشُردوا في الأرض، فأورث الله الكتاب لهذه الأمة، وأورثهم أيضاً الأرض فدخلها المسلمون فاتحين، فهم أحق بها، وأولى، وأجدر، وهكذا ينبغي أن ينظر إلى هذه القضايا، أي أنها بلاد لا تختص لا بالفلسطينيين، ولا بالعرب، وإنما الإسلام هو الذي دخلها، وهو الذي رفع من شأن هؤلاء العرب فتحولوا إلى فاتحين، وإلا فلو جئنا نجادل في قضية العرب، وما العرب فالعرب كانوا في الجزيرة، ونواحي الجزيرة، فكيف وصلوا إلى المغرب؟ وهكذا الشام كانت بيد الروم، وكلٌّ سيقول: نحن قبل، ونحن قبل، ونرجع إلى عهد آدم ﷺ، وهذا غير صحيح.
"وقوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] أي: التي، وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم."

هذا تفسير للكَتْب، فقوله: كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يعني، وُعِد بها من آمن منكم، أو هو تفسير من فسر الكتب بمعنى أنه كتبها لكم: أي أمركم بدخولها، كما نقول: كتب الله علينا الصيام، وكتب علينا الصلاة، أي أمرنا بذلك، وليست هذه الكتابة كونية تقتضي وقوع المراد، وإنما هو شيء أمرهم الله به فتلكئوا عن ذلك، وهابوا الجبارين، ولم يفعلوا، ولو كان كتبها الله لهم في الأزل كتابة قدرية كونية لتحقق ذلك لا محالة سواء دخلوا عليهم الباب، أو لم يدخلوا عليهم الباب، سواء كانوا قصدوهم، أو لم يقصدوهم.
"وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ أي: ولا تنكلوا عن الجهاد فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
  1. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (21191) (ج 10 / ص 286)، وابن سعد في الطبقات (ج 7 / ص 422)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4656 ).

مرات الإستماع: 0

"الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة: 21] أرض بيت المقدس، وقيل: الطور، وقيل: دمشق."

الأرض المقدسة التقديس يعني التطهير مع التعظيم، يعني تقول: هذا مقدس، فهو يدل على الطهارة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: 30] فالتقديس يعني التطهير، والتنزيه، وزيادة، ليس مجرد التطهير، القدوس السلام، ما معنى القدوس؟ بعضهم قال: الطاهر من كل عيب، والسلام السالم من كل عيب، وبعضهم قال: هذا في الزمن الماضي، وهذا في الحاضر، والمستقبل، لكن كلمة التقديس تدل على تطهيرٍ مع تعظيم، مقرون بتعظيم - والله تعالى أعلم -.

فالأرض المقدسة مطهرة معظمة كما قال الواحدي[1] باعتبار أنها طُهرت مثلاً من الشرك.

وبعضهم يقول: الأرض المقدسة يعني المباركة، يعني: أرض بيت المقدس، وهذا المروي عن ابن عباس، والسدي، وابن زيد، والضحاك، واختاره ابن كثير[2] ومن المعاصرين الشنقيطي[3] وأيضًا الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[4].

وبعضهم ذكر معنى أعم من هذا، مثل الطاهر بن عاشور قال: "هي فلسطين"[5].

وبعضهم يقول: بأنها أريح، يقول: وقيل الطور يعني، وما حوله، طور ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة: 21] بالطور، وقيل: دمشق، وهذا قال به الواحدي[6].

وبعضهم يقول: دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن، يعني كأنه يقول: الشام؛ ولهذا صرح بعضهم فقال: الشام هي الشام.

وبعضهم يقول: ما بين العريش إلى الفرات الأرض المقدسة، تعلمون أن هؤلاء اليهود الأنشودة التي يرددونها كل صباح في طلاب المدارس:

حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل.

ولذلك يقولون: بأن الشعار الموجود في العلم الخطين الأزرقين الفرات، والنيل، وبينهما نجمة داوود، هذه مملكتهم، مملكة داوود كما يزعمون - نسأل الله أن يخيبهم، ويخيب آمالهم -.

إذن المشهور أن الأرض المقدسة التي أمروا بدخولها هي بيت المقدس، فوجدوا فيها الجبارين ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] أنها بيت المقدس - والله تعالى أعلم -.

"الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] أي: قضى أن تكون لكم."

بعضهم يقول: إنه قضى ذلك على لسان يعقوب، أن ذلك كان على لسان يعقوب، يعني أنها تكون موروثة لمن آمن منهم، وهذا قاله ابن كثير - رحمه الله -[7].

مداخلة: المراد هنا القضاء القدري؟

الشيخ: يُحتمل، هؤلاء لم يدخلوها، لكن صار لهم دخول بعد ذلك بعد موسى - عليه الصلاة، والسلام - لما أبوا، وحُرمت عليهم أربعين سنة دخلوا بعد ذلك، فيكون الكَتْبُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] فتحقق ذلك الدخول ليس بشيءٍ ثابتٍ لهم، ولذلك جاء بختنصر، وخرب بيت المقدس، وأخذ خيار بني إسرائيل إلى العراق كما هو معلوم، وحصل لها خرابٌ آخر أيضًا.

ويحتمل أن الكتب هنا كتبٌ شرعي، الكتب يأتي بمعنى هذا، وهذا، فقوله - تبارك، وتعالى - : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ [المجادلة: 21] هذا كتبٌ قدري كوني كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة: 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ونحو ذلك هذا كتبٌ شرعي فالكتب يأتي بمعنى هذا، وهذا، فيحتمل هنا أن يكون الكتب شرعي، بمعنى أن الله : كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] يعني أمركم، وألزمكم بدخولها، فأمرهم موسى  - عليه الصلاة، والسلام - أن يدخلوا أرض الجبارين فامتنعوا، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة: 24].

كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] فهذا يحتمل باعتبار أنهم امتنعوا، فكونه كتبًا شرعيًّا لا يلزم من تحقق الوقوع، وحمله على هذا كأنه - والله أعلم - أقرب، لكن هذا القول - بأنه لو قلنا بأن الاحتمال الآخر كتبٌ قدري يكون قد تحقق مقتضاه - يعني لا يلزم منه الدوام، والاستمرار بدليل الواقع، والتاريخ، أنهم أُخرجوا منها مرارًا، ولم يكن لهم فيها بقاء، لو كان كتبًا قدريا لم يتحول، وهذا واضح، يعني يرد أن المراد به الكتب الدائم الثابت الأزلي القدري، هذا لابد أن يتحقق، فإما أن نقول: بأنه تحقق مقتضاه حينما دخلوه، ولا يلزم منه الدوام؛ لأن الواقع يدل على ذلك، والله يقول: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] قال لهم ذلك على لسان موسى - عليه الصلاة، والسلام - الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] صرح بعض أهل العلم أن المراد بذلك: أن الأمر به كأمرنا بالصلاة، والزكاة، يعني يكون الكَتْبُ شرعيا، وهذا كأنه أقرب - والله تعالى أعلم - مع الاحتمال الآخر، لكن الاحتمال بينت محمله الاحتمال الآخر وارد، لكن يكون محمله على ما ذكرت - والله أعلم -.

"وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: 21] يحتمل أن يريد الارتداد عن الدين، والطاعة، والرجوع إلى الطريق الذي جاءوا منه، فإنه رُوي أنه لما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها، وهمّوا أن يقدموا على أنفسهم رئيسًا، ويرجعوا إلى مصر."

يعني يُأمرون أحدهم، ويرجعون إلى مصر مرةً أخرى - نسأل الله العافية - للاستعباد، والقهر، والذل الذي كانوا فيه، والنفوس التي نشأت على الذل، وألفته لربما عز عليها مفارقته - نسأل الله العافية -.

وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: 21] يعني لا تنكلوا عن جهادهم، وترجعوا القهقرى، فتخسروا دنياكم بما يفوتكم من النصر على الأعداء، وفتح البلاد، وتخسروا آخرتكم مما يفوتكم من الثواب، وما تستحقون من العقاب، لا تنكلوا يعني لا ترجعوا عن جهاد هؤلاء وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: 21] يعني بالرجوع عن جهادهم، وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[8] يعني ليس المقصود الرجوع عن الدين في أصله، وإنما وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: 21] فتنكلوا عن جهاد عدوكم، والرجوع وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: 21] رجوع على الأدبار يُقال للمنهزم، والناكص، ونحو ذلك؛ لأن المنهزم يولي دبره وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال: 16] ولهذا يقولون: بأن المنهزم يُصاب في قفاه، والمقدم الشجاع يصاب في مقدم جسده، وقد جاء عن ابن الزبير أنه تمثل لما أصابه حجر المنجنيق، ووجد حرارة الدم على قدميه أنه تمثل بهذا البيت:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدم[9].

فالمنهزم يسيل دمه على عاقبيه، والعقب مؤخر الرجل، بخلاف الشجاع فتقطر دمائه على قدميه وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: 21].

  1.  الوجيز للواحدي (ص: 314).
  2.  تفسير ابن كثير (1/273).
  3.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (1/111).
  4.  تفسير السعدي (ص: 227).
  5.  التحرير، والتنوير (6/162).
  6. التفسير الوسيط للواحدي (2/172).
  7.  تفسير ابن كثير (3/75).
  8. المصدر السابق.
  9. انظر: شرح ديوان الحماسة (ص: 146)، ونهاية الأرب في فنون الأدب (21/140)، والوساطة بين المتنبي، وخصومه، ونقد شعره (ص: 382).