وقوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] أي التي، وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل ."
فالحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا يقول: إنها كانت موطناً لهم قبل خروجهم إلى مصر في زمان يوسف ﷺ، والمعروف أن يعقوب - عليه الصلاة، والسلام - كان في البادية - بادية الشام، أو بادية فلسطين -، ولهذا قال يوسف ﷺ: وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ [سورة يوسف:100]، ويمكن أن يراجع كلام أهل العلم في ذلك الموضع، وعلى كل حال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - مؤرخ.
وقوله هنا: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ [سورة المائدة:21] قال: أي المطهرة، وبعضهم يقول: أي المباركة، وعلى كل حال كل ذلك يصدق عليها، وإن كان المتبادر في معنى لفظة التقديس هو التطهير، يقال: يُقدِّس كذا بمعني يطهره، وينزهه، وما أشبه ذلك، ومنه أُخذ معنى التعظيم؛ لأنك إذا قدست شخصاً بأن نزهته، وطهرته، فمعنى ذلك أنك عظمته، وذلك من باب الملازمة -والله تعالى أعلم -.
وهذه الأرض بعضهم يقول: إنها الشام، وهو كقول من قال: إنها دمشق، وفلسطين، وبعض الأردن، ومنهم من يخص ذلك بدمشق، ومنهم من يقول: أريحا، ومنهم من يقول: الطور، وما حوله، ومنهم يقول: من العريش بمصر إلى الفرات في العراق، وهذا الذي يدَّعيه اليهود اليوم، فإن الخطوط التي في علمهم فيها خطان أزرقان بينهما النجمة، أحد الخطين يرمز إلى النيل، والآخر يرمز إلى الفرات، ومن أناشيدهم في كل صباح التي ينشدها حتى الطلاب في المدارس: حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل، ولا أظنهم يصلون إلى هذا، بل لا أظنهم يتجاوزون ما هم فيه بشيء يذكر؛ لدلالة النصوص على ذلك، وإن كانت ليست دلالة نصية صريحة، لكن كون النبي ﷺ يقول عن آخر الزمان: أنتم شرقي النهر يعني الأردن وهم غربيه[1] فهذه حدود كما هي الآن تقريباً، والعلم عند الله على كل حال.
قوله تعالى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21] فحينما كانوا على دين صحيح كتبها الله لهم، واستطاعوا أن يدخلوها بعد حين، وعامة أنبياء بني إسرائيل كانوا فيها - أعني في بلاد الشام -، فالذين ينازعونهم، ويجادلونهم من العرب، ويقولون: نحن أحق بهذا، ولنرجع إلى التاريخ، فهؤلاء مساكين، فالمسألة ليست بهذه الصورة؛ لأن المسألة لو كانت مسألة عرب فالعرب ذباب الصحراء كانوا في جزيرة العرب، وإنما الذي دخلها هو الإسلام، وليس العرب، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
فلما كذّب هؤلاء اليهود الرسل، وقتلوا من قتلوا منهم مقتهم الله ، وسلط عليهم خلقه يسومونهم الخسف، والذل، وشُردوا في الأرض، فأورث الله الكتاب لهذه الأمة، وأورثهم أيضاً الأرض فدخلها المسلمون فاتحين، فهم أحق بها، وأولى، وأجدر، وهكذا ينبغي أن ينظر إلى هذه القضايا، أي أنها بلاد لا تختص لا بالفلسطينيين، ولا بالعرب، وإنما الإسلام هو الذي دخلها، وهو الذي رفع من شأن هؤلاء العرب فتحولوا إلى فاتحين، وإلا فلو جئنا نجادل في قضية العرب، وما العرب فالعرب كانوا في الجزيرة، ونواحي الجزيرة، فكيف وصلوا إلى المغرب؟ وهكذا الشام كانت بيد الروم، وكلٌّ سيقول: نحن قبل، ونحن قبل، ونرجع إلى عهد آدم ﷺ، وهذا غير صحيح.
هذا تفسير للكَتْب، فقوله: كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ يعني، وُعِد بها من آمن منكم، أو هو تفسير من فسر الكتب بمعنى أنه كتبها لكم: أي أمركم بدخولها، كما نقول: كتب الله علينا الصيام، وكتب علينا الصلاة، أي أمرنا بذلك، وليست هذه الكتابة كونية تقتضي وقوع المراد، وإنما هو شيء أمرهم الله به فتلكئوا عن ذلك، وهابوا الجبارين، ولم يفعلوا، ولو كان كتبها الله لهم في الأزل كتابة قدرية كونية لتحقق ذلك لا محالة سواء دخلوا عليهم الباب، أو لم يدخلوا عليهم الباب، سواء كانوا قصدوهم، أو لم يقصدوهم.
- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (21191) (ج 10 / ص 286)، وابن سعد في الطبقات (ج 7 / ص 422)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4656 ).