الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
قَالُوا۟ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا۟ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا۟ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [سورة المائدة:21-22] أي: اعتذروا بأن في هذه البلدة - التي أمرتنا بدخولها، وقتال أهلها - قوماً جبارين أي: ذوي خلَقٍ هائلة، وقوى شديدة، وإنا لا نقدر على مقاومتهم، ولا مصاولتهم، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها دخلناها، وإلا فلا طاقة لنا بهم."

هذا تفسير جيد للجبارين دون الاشتغال بتحديدهم، وإنما ذكر صفة هؤلاء بأنهم بهذه المثابة، وإن كان بعضهم يقول: هم بقية من قوم عاد، وبعضهم يقول: هم من ولد عيص بن إسحاق، وبعضهم يقول: هم من الروم، لكن ليس هناك دليل يحدد شيئاً من هذا، ويذكر المفسرون، وبعض المؤرخين في أخبارهم أشياء عجيبة جداً هي من كلام بني إسرائيل، على تفسير الاثني عشر نقيباً بأنهم الذين اختارهم الله من أسباط بني إسرائيل لينظروا في أمر الجبارين - على هذا القول، وهذا كله مأخوذ من بني إسرائيل، وقد مضى - يقولون: إنهم ذهبوا لينظروا فلما رأوهم بحالة من الخلق عجيبة، ويقولون: إنهم دخلوا في بستان رجل من الجبارين، فدخل بستانه، فرأى آثارهم، فتتبعها فصار يلتقطهم الواحد بعد الواحد، ويضعهم في سلة الفاكهة حتى أتى عليهم جميعاً، ثم ذهب بهم، ونثرهم بين يدي الملك، فقال لهم الملك: قد رأيتم من أمرنا ما رأيتم، فاذهبوا إلى صاحبكم فأبلغوه، فيقولون: إنهم جاءوا إلى موسى، وأخبروه، وأنه استكتمهم هذا؛ لئلا يفت في أعضاد بني إسرائيل، وأن الرجل منهم صار يكلم صاحبه، ويكلم قريبه، يكلم خاصته بما رأى فخانوه إلا رجلان، وهما من ذكر الله ، قال: رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا [سورة المائدة:23] فبعضهم يقول: أي يخافون من الجبارين، وبعضهم يقول: يخافون الله، فالحاصل أنهم رجلان ممن شاهد الجبارين فلم يخبروا، ولم يفشوا، وهذا الكلام كله مبني على الإسرائيليات، وكذلك يذكرون في أوصاف الجبارين أشياء عجيبة، وعلى كل حال الجبار هو كما وصف ابن كثير - رحمه الله - هنا، كما يقال الجبار للعاتي، أو من يجبر الناس على ما يريد، فهو بمعنى الإكراه على هذا، وبعضهم يرجعه إلى جبر العظم فهو المصلح لأمر نفسه بهذا الاعتبار، ولكن لما كان ذلك، ولو على حساب الآخرين إذا كانت مصلحته تقتضي هذا فاستعمل بهذا الاعتبار إلى كل من يجر إلى نفسه نفعاً، ولو أضر بغيره، وهذا فيه بعد، لكن كلمة جبار أصلاً حينما نأتي إليها في اللغة، فهي تدل على عدة معان، ومن ذلك أنها تطلق على الطويل فيقال: نخلة جبارة، وتطلق على المصلح لغيره، ومنه جبر العظم، فالله يجبر الضعيف، ويجبر القلوب المنكسرة، ويقويها، ويطلق كما هو المتبادر على شديد البطش، والبأس، والقوة، والجبروت، وهذا معناه الأكثر استعمالاً، والأشهر، وهؤلاء بهذه الصفة أصحاب خلق عظيم، وقوة شديدة، لكن ما هم بهذه الصورة التي تذكر في الإسرائيليات، بأن يأخذ اثني عشر رجلاً في سلة فاكهة، فهذه مبالغات.

مرات الإستماع: 0

"قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة: 22] هم العمالقة. قالَ رَجُلانِ [المائدة: 23] هما يوشع، وكالب." 

قبل ذلك قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة: 22] قال: هم العمالقة، جبارين يعني أقوياء عظام الأجسام.

وبعضهم يقول: لطولهم قيل لهم ذلك، والجبار يقال: للقهار، يطلق على المتكبر المتعالي عن قبول الحق، والمتسلط، والذي يكثر القتل، قال له: جبار، ويقال للعاتي من يجبر الناس على ما يريد، قالوا: فهو من الإكراه على هذا.

وبعضهم يقول: هو من جبر العظم، فهو المصلح لأمر نفسه، لكن هذا لا يصلح هنا، هذا يصلح في اسم الله الجبار، الجبار في اسم الله لا يتأتى المعاني التي تُذكر فيه هنا في قوله: جَبَّارِينَ [المائدة: 22] فهنا بمعنى العتو، والتعالي عن الحق.

وبعضهم قال: من قتل رجلين فهو جبار رجلين فأكثر، أخذًا من قوله: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا [القصص: 19] لكن قد لا يكون بهذا الفهم الذي فهمه من قال بذلك.

وأما في اسم الله - تبارك، وتعالى - الجبار، فهو يأتي أيضًا بمعنى جبر الكسير، جبر العظم، يجبر القلوب الضعيفة، القلوب المنكسرة، تقول: اللهم اجبر كسرنا، اللهم اجبر ضعفنا، ونحو ذلك هذا لا إشكال في اسم الله ويقال أيضًا لمن يوصف بالطول، ولهذا يقال: نخله جبارة إذا كانت لا تنالها الأيدي، فهذه المعاني في الجبار، فالله - تبارك، وتعالى - هو العالي على خلقه، وهو القهار، وهو أيضًا الذي يجبر الكسير، والضعيف، ونحو ذلك، لكن هنا لا يتأتى هذا المعنى، ولا يذكر في هذا المقام، لكن هؤلاء يقولون: إذا كان مصلح لأمر نفسه فهو يقال لكل من جر لنفسه نفعًا بالحق، أو بالباطل، لكن قد لا يخلو هذا من تكلف.

والمعنى المتبادر للجبار هو ما ذُكر من القهر، ونحو ذلك، والتكبر، والتعالي على الحق.

وبعضهم يقول: هؤلاء الجبارين كانوا من بقية قوم عاد.

وبعضهم يقول: من ولد عيص بن إسحاق.

وبعضهم يقول: كانوا من الروم - فالله أعلم - وتُذكر إسرائيليات في خبرهم فيها مبالغات ظاهرة لا يصح قبولها، يعني على سبيل المثال من ذلك يقولون: إن الذين بعثهم موسى - عليه الصلاة، والسلام - دخلوا بستانًا فوجدوا أحد الجبارين صاحب البستان يعني معه سلة فيها فاكهة، فأخذ الوفد هؤلاء - المجموعة - ووضعهم في السلة سلة الفاكهة، وذهب بهم إلى ملكهم، ووضعهم بين يديه، يعني صار الرجال بمنزلة الذر أمام هؤلاء، لكن هذا الكلام غير معقول، هذه مبالغات لا يمكن أن تصدق.

وهنا قوله: قالَ رَجُلانِ [المائدة: 23] هما يوشع، وكالب، يوشع هذا جاء عن ابن عباس - ا - ومجاهد، وعكرمة، وعطية، والسدي، والربيع[1] وهم يقولون: بأن بني إسرائيل دخلوا المدينة المقدسة بعد موسى - عليه الصلاة، والسلام - وهارون مع يوشع بن نون.

"يَخافُونَ [المائدة: 23] أي: يخافون الله، وقيل: يخافون الجبارين."

قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة: 23] يعني أنهم يخافون الله، وأن قوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة: 23] صفة مدح لهذين الرجلين، وليس المقصود أنهم يخافون الجبارين، فإن هؤلاء يقولون: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة: 23] كيف يخافون الجبارين، ويقولون مثل هذا الكلام؟

قيل: يخافون الجبارين، وبعضهم يقول: إنهم يخافون يعني من ضعف بني إسرائيل، وقيل: بأن الواو عائدة إلى بني إسرائيل قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ [المائدة: 23] يعني من الموصوفين بالخوف الذي هم من بني إسرائيل، يعني كأنه يقول: قال رجلان من بني إسرائيل، لا يكون وصفًا للرجلين الخوف، وإنما من جملة أهل الخوف من القوم الموصوفين بالخوف، لكن ليس هذا هو المتبادر، وفي قراءةٍ غير متواترة لبعض السلف كمجاهد، وسعيد بن جبير، يُخافون، يعني: قال رجلان ممن يُخافون، يعني من لهم مهابة، ومنزلة يخافهم الناس، ويجلونهم، ولكن هذا بعيد، والمقصود يخافون، وهذه القراءة الشاذة لا عبرة بها، وهي هنا لا تفسر القراءة المتواترة من الذين يخافون الله - تبارك، وتعالى -.

"ولكن الله أنعم عليهما بالصبر، والثبوت؛ لصدق إيمانهما."

يعني أنعم عليهما بالصبر، والثبوت، الثبات يعني لصدق إيمانهما كذلك الشجاعة، واليقين الخوف من الله - تبارك، وتعالى - وحده، وحسن النظر، وحصافة الرأي، وما أشبه ذلك.

"ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23] أي: باب المدينة."

وبعضهم جوز أن يُراد مدخل الأرض المقدسة ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23] يعني المسالك إلى أرضهم، كأنه نظر إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] هذا أوسع من المدينة التي عليها سور له أبواب، هذا قاله ابن عاشور يعني مداخل الأرض المقدسة[2] يعني ليس هناك باب حقيقي، مع أن هذا خلاف الظاهر ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23] فالمفسرون عامة يعني أغلب المفسرين يحملونه على المشهور المتعارف الأرض المقدسة ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23] يعني باب الأرض المقدسة حيث المدن كان عليها أسوار في ذلك الحين، وإلى عهدٍ قريب، وله أبواب، يقول: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة: 23] باب المدينة - والله أعلم -.

فيه حاشية رقم واحد في الكلام على قوله: وَلا تَرْتَدُّوا [المائدة: 21] قال: فإنه رُوي أنه لما أمرهم موسى - عليه الصلاة، والسلام - دخول الأرض المقدسة، خافوا من الجبارين الذين فيها إلى آخره كاتب أخرجه البيهقي إلى آخره، هذا التخريج ليس لهذه الرواية، فاضربوا على الرقم، واحد هذا لا يرتبط بها إطلاقًا، فهذه الحاشية لا ترتبط به، إنما ترتبط بما سيأتي. 

  1. تفسير ابن كثير (3/ 77).
  2. انظر: التحرير والتنوير (24/ 71).