الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُرِيَهُۥ كَيْفَ يُوَٰرِى سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَٰوَيْلَتَىٰٓ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَٰرِىَ سَوْءَةَ أَخِى ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [سورة المائدة:31] قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة : لما مات الغلام تركه بالعراء، ولا يعلم كيف يدفن، فبعث الله غرابين أخوين، فاقتتلا، فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له، ثم حثا عليه، فلما رآه قال: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي [سورة المائدة:31].
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - قال: جاء غراب إلى غراب ميت، فحثا عليه من التراب حتى، واراه، فقال الذي قتل أخاه: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي [سورة المائدة:31].
وقوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [سورة المائدة:31] قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران."

كثير من أهل العلم يقولون: إن هذا الندم لم يكن توبة، وإنما لما رأى أن هذا الغراب أحسن حالاً منه، ومعرفة ندم -والله أعلم -.
وبالنسبة للدخول في مثل هذه التفاصيل لا دليل عليها، ثم إن في الرواية التي قبل قليل، والتي فيها أن إبليس جاء إلى حواء، وقال لها: إن قابيل قتل هابيل، قالت: وما القتل؟ قال: لا يأكل، ولا يشرب، هذا يناقض القرآن إذ كيف لا يعرفون القتل، والقاتل نفسه حينما كان يخاطب أخاه قال له: لَأَقْتُلَنَّكَ [سورة المائدة:27] فرد عليه إجابة عنه: لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ [سورة المائدة:28] فهذا يدل على أنهم يعرفون القتل، ثم إن الله قد علم آدم الأسماء كلها، وإذا كان هابيل، وقابيل لا يعرفون القتل فمن أين عرفوا أن هذا يقال له قتل، فهذا من كذب بني إسرائيل؛ لأنه كلام متناقض، والقرآن يكذبه.
"وقد ورد في الحديث أن النبي ﷺ قال: ما ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي، وقطيعة الرحم[1] وقد اجتمع في فعل قابيل هذا، وهذا، فإنا لله، وإنا إليه راجعون."
  1. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب - باب في النهى عن البغي (4904) (ج 4 / ص 427)، والترمذي في كتاب صفة القيامة، والرقائق، والورع عن رسول الله ﷺ – باب - 57 – (2511) (ج 4 / ص 664)، وابن ماجه في كتاب الزهد - باب البغي (4211) (ج 2 / ص 1408)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5704).

مرات الإستماع: 0

"فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا [المائدة: 31] الآية: رُوي أن غرابين اقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث عن التراب، ويواري الميت، وقيل: بل كان غرابًا واحدًا يبحث، ويلقي التراب على هابيل."

يقول: رُوي أن غرابين هذا كله يعني متلقى - والله أعلم - عن بني إسرائيل، لكن هو مرويٌ عن جماعةٍ من السلف، جاء عن ابن عباس - ا - عن طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - الطريق معروفة، قال: "جاء غرابٌ إلى غرابٍ ميت، فحثا عليه من التراب حتى وراه"[1] يعني لم يكن هناك قتال بين الغرابين أن أحدهما قتل الآخر، فهذا يصدق على قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ [المائدة: 31].

القول الآخر الذي ذكره قال: بل كان غرابًا واحدًا يبحث، ويلقي التراب على هابيل، يلقي التراب على الميت، على المقتول، هذا يؤيده أن الله قال: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا [المائدة: 31] وما قال غرابين، غرابًا واحدًا يعني، لكن القول المروي عن ابن عباس أحسن من هذا، بدلاً من أنه يلقي على هابيل، يبحث في الأرض أن الله بعث غرابًا حيًا، يبحث في الأرض ليلقي التراب على غرابٍ ميت، لم يذكر بينهما قتال أنه قتله، لكن جاء إلى غرابٍ ميت فصار يحثو عليه التراب، ويبحث في الأرض، لكن القول: بأنهما غرابان اقتتلا هذا مروي عن جماعة من السلف، وهو الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -[2] ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[3] فما جاء عن ابن عباس - ا - كأنه - والله أعلم - موافق للفظ غرابًا، وقال: يحثو على غرابٍ ميت، أما الاقتتال، ونحو ذلك هذا كأنه تلقي أيضًا عن بني إسرائيل، لكن هذه الرواية عن ابن عباس مقدمة - والله أعلم -.

وهذا دليل على أنه من صلبه، ولو كانا من بني إسرائيل فالدفن معروف قبل بني إسرائيل، فآدم - عليه الصلاة، والسلام - حين توفي لا شك أنه دُفن، فلم يكن ذلك خافيًا على بني إسرائيل، فالقول بأن ذلك في بني إسرائيل أن الرجلين اللذين قدما قربانا أنهما من بني إسرائيل، هذا غير صحيح بقرينة: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا [المائدة: 31] وكذلك: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة: 32]

لكن أولئك الذين خصوا ذلك ببني إسرائيل يحتمل أنهم رأوا أن القرينة: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة: 32] لماذا خص بني إسرائيل؟ لأنهم منهم، كانوا منهم، كان ذلك وقع فيهم، لكن ليس بلازم، وسيأتي الكلام على وجه تخصيص بني إسرائيل بالذكر.

"سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة: 31] أي: عورته، وخُصت بالذكر؛ لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، والضمير في أخيه عائدٌ على ابن آدم، ويظهر من هذه القصة أن هابيل كان أول من دُفن من بني آدم."

سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة: 31] قال: العورة، وخُصت بالذكر؛ لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، وجسد الميت عمومًا، يقصد بها ستره، والعورة تقال لكل شيءٍ يُحترز له، أو يسوء ظهوره، وانكشافه، ولا شك أن هيئة الميت أمرٌ لا يحسن انكشافه، وظهوره، فلذلك تجد الناس يغطونه، وليس المقصود هنا السوءة العورة المغلظة، وإنما جميع الميت.

"يا ويْلَتى [المائدة: 31] أصله يا ويلتي، ثم أُبدل من الياء ألف، وفُتحت التاء، وكذلك يا أسفي، ويا حسرتي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31] على ما وقع فيه من قتل أخيه، واختُلف في قابيل هل كان كافرًا، أو عاصيًا، والصحيح أنه لم يكن كافرًا."

قصد التقرب أيضًا هؤلاء أولاد آدم من صلبه، يعني لم يقع الكفر كان الناس على التوحيد كما جاء عن ابن عباس - رضيي الله عنهما - عشرة قرون[4].

"لأنه قصد التقرب إلى الله بالقربان، ولأنه لم يكن في تلك المدة كافرا، وأصبح هنا، وفي الموضع الأول عبارةٌ عن جميع الأوقات، لا مختصةٌ بالصباح."

قال: دخل في الصباح، لكن يتوسع في الاستعمال فيقال: يعني صار بمعنى صار على حاله، وهذا كما جاء في الحديث: لا تُقتل نفسٌ ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها[5] لأنه أول من سن القتل، فهذا يدل على أنهما من صلبه، ابن آدم الأول.

  1.  تفسير الطبري (8/342).
  2.  انظر: تفسير الطبري (8/343 - 345).
  3.  تفسير السعدي (ص: 229).
  4.  أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (6190)، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه.
  5.  أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم - صلوات الله عليه - وذريته، برقم (3335)، ومسلم، كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات، باب بيان إثم من سن القتل، برقم (1677).