الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۢا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلْبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِى ٱلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ۝ إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:32-34].
يقول تعالى من أجل قتل آدم أخاه ظلماً، وعدواناً كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أي: شرعنا لهم، وأعلمناهم أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا أي: من قتل نفساً بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب، ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس، ونفس."

فقوله - تبارك، وتعالى -: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا [سورة المائدة:32]، وجه التعلق - والله تعالى أعلم - بين هذه الآية، وبين ما قبلها - أعني المناسبة - هو أن السياق في تعداد جنايات بني إسرائيل، وجرائمهم، وما كتبه الله عليهم، وما كان في ذلك، فذكر لهم هذه القضية لا سيما أنهم أهل عدوان، وظلم، وبغي، وحسد، وإلا فإن هذا لا يدل على أن هذا التحريم إنما وقع لبني إسرائيل، وأنه قبل ذلك لم يكن بهذه المثابة من التحريم.
وقوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ هذا للتعليل، ومن أهل العلم من يفسر لفظة أَجْلِ بمعنى جناية، ويذكر شواهد ذلك من كلام العرب، يقول: من جناية ذلك كتبنا على بني إسرائيل، وهذا ليس هو المعنى المتبادر، ومنهم من يقول: إن قوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ متعلق بقوله: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [سورة المائدة:31] أي فأصبح من النادمين من أجل ذلك، والمعنى أنه لما رأى الغراب أحسن حالاً منه في هذا التصرف ندم من أجل ذلك، وهذا الربط فيه شيء من التكلف، فالأقرب - والله تعالى أعلم - أنها للتعليل أي من أجل ما وقع من ابن آدم كتبنا على بني إسرائيل ما كتبنا، أي: شرعنا لهم، وأعلمناهم، وهذا لا يختص بهم.
قوله: أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:32] تفسره الآية التي ستأتي، وهي قوله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33] فهذا معنى أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ [سورة المائدة:32]، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، ويدخل تحت هذا أمور كثيرة جداً، من قتل النفوس المعصومة، والتزوير، ومَن غيَّر منار الأرض، ومن خرب الأنهار، وغوَّر الآبار، وأفسد على الناس حياتهم العامة، وغير ذلك مما يمكن أن يتصور من الجناية على الأعراض، أو النسل إلى غير ذلك من الصور التي لا تحصى، كل ذلك من الإفساد في الأرض.
وفي قوله تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [سورة المائدة:32] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "من قتل نفساً بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب، ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس، ونفس": هذا تفسير لمعنى قوله: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وهذا ذهب إليه كثير من أهل العلم؛ لأنه لا فرق عنده بين إزهاقه لنفس واحدة ، وبين إزهاق سائر النفوس؛ لأنه تعدى على حرمتها، وانتهك ذلك عدواناً، وظلماً فلا فرق بين نفس، ونفس، فمثل هذا يكون قد جنى على زيد، ولا فرق عنده بين زيد، وعمرو، وصالح، وسعيد، فالنفوس المعصومة حرمتها واحدة، فمن انتهك ذلك فكأنما انتهك حرمة جميع الناس.
 وتكلف بعضهم في تفسير هذه الآية فقال: هذا فيمن قتل نبياً، أو إماماً عادلاً، وهذا لا دليل عليه إطلاقاً، وإن كان هذا أشد، لكن سياق الآية مَن قَتَلَ نَفْسًا، و"نفساً" هنا نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، يعني  أيّ نفس، لكن توضحه الأدلة الأخرى، وهو أن هذه النفوس يراد بها النفوس المعصومة، فالنبي ﷺ قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث))[1] فإذا كانت هذه النفس مستحقة للقتل فلا ينطبق عليها هذا.
وكذلك الأمر في قوله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [سورة النساء:93] فمثل هذا الأمر الذي يقع لمثل هذا الإنسان الذي قتل واحداً، ويكون مستحقاً له كذلك الذي قتل ألفاً، أو آلاف الناس؛ فالذي قتل واحداً يشترك في الجزاء مع من قتل نفوساً كثيرة، أو جميع النفوس، وهذا من حيث أصل الجزاء الذي هو الخلود في النار، واللعن، والغضب، وهكذا من سلم الناس منه فلم يقتل واحداً من الناس فإنه قد سلمت منه سائر النفوس، هكذا قال أصحاب هذا القول، وهو قول له، وجه، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - فيكون أقرب ما يقال في الآية - والله تعالى أعلم - هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وهذا القول، أي من قتل نفساً بغير نفس، أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه انتهك حرمة النفوس المعصومة، ولا فرق بين نفس، ونفس من هذه النفوس، أو يقال: يشترك جزاء من قتل نفساً واحدة مع من قتل نفوساً كثيرة أي في أصل الجزاء، ولا يبعد أن يكون المراد - والله تعالى أعلم - أن ذلك بالنظر إلى هذه الجناية، وبالنظر إلى جزائها قيل فيه ذلك، والله أعلم.
وقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "من قتل نفساً بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب، ولا جناية": العلماء - رحمهم الله - يحومون حول هذا المعنى، وهو ما عجز عنه المعاصرون في تحديد المراد به، وهو ما يسمونه بالإرهاب، فالإرهاب عرفه بعضهم فقال: هو الإنسان الذي يحمل قنبلة، فقيل لهم: لو أن إنساناً قتل، ولدك، وحملت هذا السلاح، ووضعته لقاتل، ولدك  بأن وضعته على السيارة، أو في بيته، فهل هذا بمفهومك يسمى إرهاباً؟ الجواب أنهم لا يريدون هذا المعنى أبداً، وإنما يريدون شيئاً آخر.
ولو تأملنا في عبارة ابن كثير التي يحوم حولها كثير من السلف "من قتل نفساً بغير سبب من قصاص، أو فساد في الأرض، واستحل قتلها بلا سبب، ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعاً" نجد أنه لا يدخل فيها من يقطع الطريق على أناس معينين بينه، وبينهم مشكلة، وعداوة فأراد أن ينتقم منهم، وأن ينفرد بهم في مكان خال من الناس، فالجنايات الخاصة المبنية على ثارات، أو عداوات شخصية ليست مقصودة هنا، وإنما المراد هو ارتكاب هذه الأشياء من غير مسوغ، ولا سبب، وإنما على سبيل الفساد.
والذي نختلف فيه مع الكفار هو أن الكفار يحملون ذلك على المسلمين فيصفون المسلمين، ومن يدافع عن عرضه، وعن بيته، وعن أهله، وعن بلده بهذه الأوصاف - إرهابيين -، ويبرئون أنفسهم منها، فمفهومهم أن من يقاتلهم، ويردهم عن دياره، وبلاده، وماله، وعرضه، وكل من يقف في، وجوههم، وأطماعهم فهو موصوف بهذا الوصف - إرهابي - أما هم فلا مانع أن يأتوا من، وراء البحار، ويهدموا المدن على أهلها بأفتك أنواع الأسلحة حتى تذوب اللحوم، ولا يبقى إلا العظام، وحتى تحرق الجثث، والبلاد على من فيها فلا ترى إلا ناراً تضطرم، بل هذا عندهم يعتبر نشراً للحريات - نسأل الله العافية - فهذا هو مفهومهم، ولذلك من الخطأ أن نجاريهم على مثل هذه الإطلاقات التي لم يُحدد المراد منها، فنحن لنا استعمالاتنا الشرعية، ومنها أن الذي يفسد في الأرض، ويخرب من غير جناية وقعت عليه فهذا محارب.
ولذلك لما نستعمل الألفاظ الشرعية فإننا نسد الطريق على الكفار، ونقول بكل، وضوح: إن الكفار هم أعظم المحاربين لله، ورسوله، والساعين في الأرض فساداً فلا مجال لتلاعب بالألفاظ، فمن الخطأ مجاراة هؤلاء في أمور ضبابية هم لم يحددوا المراد منها، ويختلفون فيها غاية الاختلاف، ويتنصلون في المؤتمرات التي تقام هنا، وهناك من تحديد المعنى المراد بدقة من أجل أن يلقوا ذلك على كل من أرادوا ممن يقف ضد أهوائهم حتى، ولو لم يحمل سلاحاً كأن يكون داعية إلى الله فإنهم يصمونه بهذا، ولذلك لم يسلم منهم أحد سواء على مستوى الأفراد من التجار، والعلماء، والدعاة، وحتى على مستوى الدول، ولذلك ترى المسلمين في فلسطين منذ خمسين سنة يمطرون بأصناف الأسلحة، ويعيشون حياة لا تعيشها حتى الحيوانات، ومع ذلك هم إرهابيون، وحتى لما جاءوا بالانتخابات بالطريقة الحضارية التي يرتضونها تجدهم يسعون سعياً حثيثاً في خنقهم، وإفشال حكومتهم، وحثّ بل أمر للعالم أن يقاطعوهم مع أنهم يقولون: ديموقراطية، وحريات، وما أشبه ذلك من الألفاظ، والعبارات، لكن كما هو معلوم فإنهم يقصدون الحريات التي توافق أهواءهم، وتعبد فيها الشهوات، ويعظم فيها غير شرع الله - تبارك، وتعالى - أما الحريات التي يعظم فيها شرع الله فهي مرفوضة، والمقصود أن هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير، والذي يحوم حوله غيره من أهل العلم، وهو أن من وقع منه الإفساد لغير جناية خاصة فإنه يصدق عليه هذا الوصف المذكور في الآية: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [سورة المائدة:32] يعني من قتل على سبيل الإفساد فكأنما قتل الناس جميعاً، وهذا الفهم في غاية الأهمية، وإلا فإنك إذا أتيت إلى الكفار، وقلت لهم: لو أن أحداً من الناس أخذ سيفه، وضرب به إنساناً بينه، وبينه عداوة فماذا يمسى هذا عندكم؟ فإنهم سيقولون: إنها جريمة مجرم، ولو سألتهم عن شخص أخذ السيف، وخرج إلى الكفار الذين غزوا بلاده واحتلوها لقالوا: هناك فرق بين هذا، وبين هذا، فالثاني إرهابي، والأول جناية خاصة، فهذا هو حالهم حتى إنهم، وصفوا الإسلام بالإرهاب، وقالوا: إن الإسلام انتشر بالسيف، وعبروا عنه بنحو تلك العبارات الشنيعة، فللأسف اختلطت المفاهيم، وحصلت فتنة، وفساد كبير، وذلك لما لم ننضبط مع الضوابط الشرعية كما أمرنا الله حتى إنه وقع إفساد في الأرض باسم نصر الإسلام، وذلك بما نشاهد، ونرى من أغيلمة سفهاء يهلكون الحرث، والنسل تحت اسم الدين، واسم الجهاد، فتجد أحدهم يموت شر ميتة، وهو عند نفسه أنه في غاية القربة إلى الله - تبارك، وتعالى -، فمثل هذه الأشياء ينبغي أن تحرر، وتستعمل فيها الألفاظ الشرعية، وأن نقف عند حدود الله - تبارك، وتعالى - في كل شيء، وأن نفرق بين الأشياء، ومعدن الحق، ومعدن الباطل، ومعدن الشبهات، والله المستعان.
وللأسف فإن مثل هذه القضايا - أعني مثل هذا الكلام الذي ذكره ابن كثير، أو غيره - التي تبين الحق من الباطل، والصواب من الخطأ فإنك لا تجد لها طرْقاً أصلاً في هذا الموضوع الذي عم، وطم - الإرهاب -، وصار يذكر في كل إذاعة، وفضائية، وصحيفة بالمفهوم الغربي، مع أن المفروض على المسلمين أن يقولوا للكافرين: قفوا، فنحن عندنا مبادئنا، وعندنا أحكامنا الخاصة بهذه الشريعة، ولا نقبل أن يملي علينا أحد أحكاماً مثل هذه ثم بعد ذلك يطلب منا أن نجري خلفه فيها، ونرددها.
"وَمَنْ أَحْيَاهَا [سورة المائدة:32] أي: حرَّم قتلها، واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار، ولهذا قال: فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [سورة المائدة:32].
وقال الأعمش، وغيره عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك، وقد طال الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعاً، وإياي معهم، قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنما قتلت الناس جميعاً، فانصرفْ مأذوناً لك، مأجوراً غير مأزور، قال: فانصرفت، ولم أقاتل."

هذا الذي وقع من عثمان  وقع لكمال، ورعه، ولأنه لم يرض أن يُقتل أحد بسببه، وإلا فالمقام يقتضي هذا أصلاً؛ لأنه إمام المسلمين، والخليفة الراشد، وهؤلاء تجمعوا ظلماً، وعدواناً، واجتمعوا على داره يريدون قتله، فلو اجتمعوا على قتل إنسان من آحاد الناس ظلماً، وعدواناً لوجب دفعهم، فكيف عن عثمان  الخليفة الراشد؟! كان ينبغي أن يُدفعوا، ويقتلوا إن كانوا لا يُدفعون إلا بقتلهم؛ فهم جاءوا، وقتلوه، واستولوا على المدينة، وصاروا هم الذين يصلون في المسجد، وصاروا هم الأئمة، وأصحاب النبي ﷺ يصلون خلفهم، وبقي الناس في كرب، وفي غربة، في زمن الخلفاء الراشدين، فمثل هؤلاء لا ينبغي أن تبقى الأيدي مكتوفة يتفرجون عليهم، لكن لكمال، ورع عثمان كان يحرج، حيث جاءه أبناء الصحابة كالحسن، والحسين، وجماعة أمثال عبد الله بن الزبير، وكلهم أرادوا الدفع عنه، فكان يحرج على من دخل عليه أن يرفع سلاحاً، أو تراق قطرة دم بسببه ، لكن لا يؤخذ من هذا حكم بأن يقال: لا يجوز الدفع عن أحد من المسلمين، ولو كان الخليفة بسبب أن الآية تدل على هذا، فالآية لا تدل على هذا، لكن هو شيء رآه عثمان مما يختص به. 
"وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: هو كما قال الله تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [سورة المائدة:32] وإحياؤها أن لا يقتل نفساً حرَّمها الله فذلك الذي أحيا الناس جميعاً، يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه، وهكذا قال مجاهد: وَمَنْ أَحْيَاهَا أي: كفَّ عن قتلها.

يعني لو أن كل أحد كف عن القتل لما قتل أحد فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا حيث يسلم الناس منه، ومن شره، وبعض أهل العلم حمله على معنىً آخر فقال: أنقذها من هلكة كالغريق ينقذه إنسان، أو ينقذ إنساناً من حريق، أو ولي الدم يعفو عن القاتل فيكون قد أحيا هذه النفس، لكن هذا المعنى لا يختص بهذه الأمور إطلاقاً، وإنما من ترك القتل، والجناية على النفوس فإن الناس يسلمون منه، ومن شره، ولذلك كأنما أحيا الناس جميعاً.
"وقال العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا يقول: من قتل نفساً واحدة حرمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعاًً.
وقال سعيد بن جبير: من استحلَّ دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً، ومن حرَّم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً.
قال ابن جريج عن الأعرج عن مجاهد في قوله: فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا من قتل النفس المؤمنة متعمداً جعل الله جزاءه جهنم، وغضب عليه، ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، يقول: لو قتل الناس جميعاً لم يزد على مثل ذلك العذاب.
قال ابن جريج: قال مجاهد: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا قال: من لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ [سورة المائدة:32] أي بالحجج، والبراهين، والدلائل الواضحة، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [سورة المائدة:32]، وهذا تقريع لهم، وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها كما كانت بنو قريظة، والنضير، وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس، والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها، فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ۝ ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة:84 - 85]."
  1. أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب قول الله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] (6484) (ج 6 / ص 2521)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب ما يباح به دم المسلم (1676) (ج 3 / ص 1302).

مرات الإستماع: 0

"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة: 32] يتعلق بـكَتَبْنَا وقيل: بـالنَّادِمِينَ [المائدة: 31] وهو ضعيف".

قوله: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة: 32] يتعلق بـكَتَبْنَا" يعني أن يكون ذلك تعليلاً للكتب مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة: 32] فيكون متعلقًا بفعلٍ بعده، يعني لماذا كان ذلك الكتْب عليهم، وهو أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]؟ كتبه من أجل ما وقع من قتل ابن آدم لأخيه، يقول: "وقيل: بـالنَّادِمِينَ" يعني فأصبح من النادمين مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة: 32] يعني لماذا ندم؟ من أجل ذلك ندم، حينما وقع له ما وقع من قتل أخيه، ثم بعد ذلك تحير كيف يصنع بجثته حتى جاء ذلك الغراب، فأعلمه، فندم من أجل ذلك، فعلى هذا يكون سياق الكلام هكذا: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: 31] مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ [المائدة32] هكذا التقدير، لكن هذا بعيد، فالظاهر - والذي عليه عامة أهل العلم - أن ذلك تعليلٌ للكتْب - ولله أعلم -.

"كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة: 32] أي: فرضنا عليهم، أو كتبناه في كتبهم".

الكتْب - كما هو معلوم - يأتي بمعنى الكتابة، ويأتي بمعنى الفرض، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [البقرة: 216] وكقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] سواء كان ذلك الكتْب شرعيًا، كما في الأمثلة التي ذكرتها، أو كان كونيًا قدريًا كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ [الحج: 4] وكقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] هذا كتبٌ كوني.

وقوله هنا: "كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [المائدة: 32] يعني: فرضنا، أو كتبناه في كتبهم" إذا كان كتبه في كتبهم لا يكون ذلك مما أُلزموا به، وفُرض عليهم، وغالبًا إذا كان قد فُرض عليهم، أي يكون ذلك في كتبهم أيضًا - والله أعلم -.

وخص بني إسرائيل هنا بالذكر بعض أهل العلم يقول: لأن السياق، والمقام هنا إنما هو في تعديد جنايتهم، فخصهم بذلك، ويحتمل أن يكون لكثرة ما يقع منهم من القتل، يقتلون الأنبياء فمن دونهم، وإلا فإن ذلك لا يختص ببني إسرائيل، وأما من قال: بأن القصة المذكورة في ابني آدم إنما هي في بني إسرائيل، في رجلين من بني إسرائيل، وليس ابني آدم من صلبه، فهذا سبق الإشارة إليه، فتكون الجناية وقعت في بني إسرائيل، فكتب عليهم بسبب ذلك، لكن قلنا: بأن هذا غير صحيح.

"بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة: 32] معناه: من غير أن يقتل نفسًا يجب عليه به القصاص".

معلوم أنه لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث، ومنها: النفس بالنفس.

"أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ [المائدة: 32] يعني: الفساد الذي يجب به القتل كالحرابة".

كما قال الله في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة: 33] يعني أن يكون هذا القتل بغير جنايةٍ توجبه.

"فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] تمثيل قاتل الواحد بقاتل الجميع يُتصور من ثلاث جهات:

إحداها: القصاص، فإن القصاص في قاتل الواحد، والجميع سواء.

الثانية: انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان.

والثالثة: الإثم، والعذاب الأخروي، قال مجاهد: وعد الله قاتل النفس بجهنم، والخلود فيها، والغضب، واللعنة، والعذاب العظيم، فلو قتل جميع الناس لم يزد على ذلك، وهذا الوجه هو الأظهر؛ لأن القصد بالآية: تعظيم قتل النفس، والتشديد فيه؛ لينزجر الناس عنه، وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع؛ لتعظيم الأمر، والترغيب فيه، وإحياؤها: هو إنقاذها من الموت، كإنقاذ الحريق، أو الغريق، وشبه ذلك، وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص".

قوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] يرد سؤال، وهو: كيف يكون قتْل النفس الواحدة بمنزلة قتل جميع الناس؟ فذكر هذه الأجوبة الثلاث، وهي أجوبة لسؤالٍ مُقدر، فأول هذه الأجوبة: القصاص، بمعنى لو أن أحدًا قتل نفسًا واحدة، وآخر قتل أهل بلد، أو قتل جميع الناس، فما حكمه؟ يُقتص من الذي قتل الواحد، والذي قتل العشرة، والذي قتل الألف، يُقتص منه، يعني فكأنما قتل الناس جميعاً، فالقصاص ممن قتل الواحد، وممن قتل الألف هو بقتله، فاستويا من هذه الحيثية، لا من حيث الإثم على هذا الجواب، من حيث القصاص؛ لأنه ليس له إلا نفس واحدة، ليس له أنفس متعددة، فيقتص من هذه، ثم هذه، ثم هذه  بعدد من قتل.

الجواب الثاني: قال: "انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان" يعني: باعتبار أن النفس الواحدة في ذلك، وجميع الأنفس سواء، لا فرق كلها محرمة، والمنتهك لواحدةٍ منها ملحوظ بانتهاك جميع الأنفس، فهذا الذي لم يُحرم هذه النفس، وانتهك حرمتها لا فرق بين نفسٍ، ونفس فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] فالحرمة واحدة، فانتهكها، فلا فرق بين نفسٍ، ونفس بهذا الاعتبار، كما قال ابن كثير - رحمه الله - : لأنه لا فرق عنده بين نفسٍ، ونفس[1] فيمكن أن يقتل هذا، أو هذا، وفي مقابل هذا أن من حرم قتلها، ولم يقدم عليه فقد حييت جميع النفوس وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] فهذان متقابلان.

وبعضهم يقول: بأن قوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] المقصود به من قتل نبيًا، أو إمامًا عادلاً، وفي مقابل ذلك لو عضده، لكن هذا بعيد، ولا دليل عليه.

مَنْ قَتَلَ نَفْسًا [المائدة: 32] النفس هنا نكرة في سياق الشرط، فهي للعموم، وبعضهم نظر إلى الجزاء الأخروي، وهذا الجواب الثالث، حيث قال: "الإثم، والعذاب الأخروي" يعني كما ذكر عن مجاهد - رحمه الله -[2].

قال: "وعد الله قاتل النفس بجهنم، والخلود فيها، والغضب، واللعنة، والعذاب العظيم" يعني لو قتل واحدًا حق عليه ذلك، لو قتل اثنين كذلك، لو قتل ألف كذلك، فتقع عليه اللعنة، ودخول النار، فهذا بالنسبة للجزاء، والعذاب الأخروي.

وجاء عن سعيد بن جُبير - رحمه الله - بأن من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا، ومن حرم دم مسلم، فكأنما حرم دماء الناس جميعًا[3] هذا جواب متجه، وكأنه أليق - والله تعالى أعلم - وهو موافق لقول من قال: بأن ذلك باعتبار انتهاك الحرمة، وهو الجواب الثاني.

قال: "وكذلك الثواب في إحيائها، كثواب إحياء الجميع؛ لتعظيم الأمر، والترغيب فيه، وإحياؤها: إنقاذها من الموت، كإنقاذ الحريق، أو الغريق، وشبه ذلك، وقيل: بترك قتلها، وقيل: بالعفو إذا وجب القصاص" أو دفع الصائل، فإذا قلنا: بأن ذلك في انتهاك الحرمة، يكون إحياؤها بترك قتلها، فيكون فكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] يعني: بمعنى أنه إذا التزم ذلك، وامتنع من القتل لحرمة الأنفس سلم منه جميع الأنفس، وإذا لم يُبالِ فإنه ينتهك هذه الحرمة، ولا فرق عنده بين نفسٍ، ونفس، وهذه الأجوبة التي ذكرها ابن جُزي ليست بمستبعدة، فكلها قريب، لكن ما ذكرته كأنه أقرب - والله تعالى أعلم - باعتبار أن من حرم قتلها، ولم يُقدم عليه، فقد حيي الناس جميعًا بسلامتهم منه، ومن أقدم فقتل نفسًا فهو مهدد لكل الأنفس فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا.

وإن كان بالنسبة للدنيا فالقِصاص واحد، وإن كان بالنسبة للآخرة فهو يقصد بذلك ما ذُكر، وما رتُب بعده من قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] فهذا لو قتل واحدًا حقت عليه هذه الأمور.

فقاتل الواحد، وقاتل الألف لا فرق من هذه الحيثية، لكن لا شك أن عذاب أهل النار يتفاوت، فقاتل النفس ليس كقاتل النفسين، والثلاث، وهكذا، لكن المقصود جنس العذاب، وما تُوعد به أن ذلك متحقق فيه - والله أعلم -.

لكن هذه الأجوبة - كما سبق - هي ليست بمستبعدة، لماذا؟ لأنه نزله منزلة من قتل الناس جميعًا فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] فهذا يحتمل أن يكون في الجزاء الدنيوي، باعتبار أن القصاص واحد، لكن هل هذا هو المراد في سياقٍ كهذا يُقصد به تعظيم حرمة الأنفس، وتشنيع الجناية عليها بالقتل؟ يعني أن جزاءه هو القصاص قتل واحدًا، أو قتل جماعةً، هل هذا هو المقصود من الزجر؟ من هذه الحيثية يستبعد هذا الجواب، وإن كان له وجه، باعتبار التساوي في ذلك.

وكذلك القول بأن ذلك في الجزاء الأخروي من اللعنة... إلى آخره، هل هذا مقصود فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]؟ يعني باعتبار أنه تحق عليه اللعنة، ويستوي قاتل الواحد، وقاتل الجماعة؟ كأن هذا يستبعد، يعني من جهة المقصود في الآية، لماذا سيقت؟ هي سيقت للزجر، وتعظيم قتل الأنفس، وبيان حرمة النفس، ونحو ذلك، فكأنه يقول - والله أعلم - : بأن المنتهك للنفس الواحدة كالمنتهك لجميع الأنفس؛ لأنه تجاوز ما حد الله، وأقدم على قتلها، فلا فرق بين نفس، ونفس عنده، وهكذا من أحياها فكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32] بترك قتلها، فيسلم الناس منه جميعًا مثلاً، لكن لا يستبعد أن يكون إحياء ذلك بالعفو عن القصاص، وكذلك أيضًا بإنقاذه من هلكةٍ محققةٍ، فهذا ليس ببعيد، وقد يكون ذلك جميعًا مرادًا بإحيائها، ولا يبعد أيضًا أن يقال: بأن ذلك قد يراد بقتل الأنفس جميعًا في الجزاء الأخروي، ومن حيث القصاص منه، والجزاء الدنيوي، والجزاء في الآخرة، وفي الدنيا، وكذلك في عمله الذي أقدم عليه، وهو منتهك لحرمة جميع الأنفس، فهذا كله مما تحتمله الآية، ولا دليل على تحديد واحد من هذه المعاني.

"وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ [المائدة: 32] الضمير لبني إسرائيل، والمعنى تقبيح أفعالهم، وفي ذلك إشارةٌ إلى ما همّوا به من قتل رسول الله ﷺ ".

وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة: 32] يقول: "في ذلك إشارة إلى ما هموا به من قتل النبي ﷺ " الإشارة في قوله: بَعْدَ ذَلِكَ [المائدة: 32] فمن إسرافهم بعد ذلك محاولتهم قتل النبي ﷺ لكن العلماء يذكرون هذا عادةً في تعليل التعبير بالفعل المضارع في وصف بني إسرائيل بأنهم يقتلون الأنبياء، عبّر بالفعل المضارع إما لتصوير الحالة الماضية بصورة الواقع، كأنك تشاهده؛ لتشنيع، وتقبيح هذا الفعل، أو قالوا: بأن ذلك مستمر منهم، فقد حاولوا قتل النبي ﷺ ووضعوا له السم، وحاولوا قتله، كما رُوي بإلقاء الحجر، أو الرحى عليه، وإن كانت الرواية في ذلك لا تصح من جهة الإسناد.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/92).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/235).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/93).