الثلاثاء 15 / ذو القعدة / 1446 - 13 / مايو 2025
إِنَّمَا جَزَٰٓؤُا۟ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓا۟ أَوْ يُصَلَّبُوٓا۟ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَٰفٍ أَوْ يُنفَوْا۟ مِنَ ٱلْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِى ٱلْءَاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ الآية [سورة المائدة:33].
المحاربة: هي المضادة، والمخالفة، وهي صادقة على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر."
يلاحظ أنه أول ما ذكر منها الكفر؛ لأنه أعظم جناية، وفساده عظيم لا يعادله فساد، ويدخل فيه الذي ينشر الخلاعة في المسلمين، والمجون، والذي يتخذ فيه مصنعاً ينشر فيها السيديهات التي فيها الفواحش، فهذا مفسد في الأرض، حيث تراه يبيعها بأرخص الأثمان على الأرصفة، ويوزعها في كل مكان، وهكذا توجد صور كثيرة من نشر الشر بين الناس سواء استعمل في ذلك السحر، أو استعمل في ذلك، وسائل حديثة، أو كان ذلك بطريق نشر المخدرات في المجتمع، أو كان بقتل النفوس، أو بتخريب مصالح الناس العامة، أو بالجناية عليهم من غير موجب بمعنى أنه يقف للناس مثلاً في طريق، وكل من مر به إما قتله، أو قلبه في سيارته، أو نحو ذلك ليأخذ ماله، أو ينتهك عرضه، أو نحو هذا، أو صار يمتهن مهنة بأن يقفز إلى بيوت الناس، وينتهك أعراضهم، فمثل هذه الصور لا تعتبر جنايات خاصة، وإنما هي إفساد في الأرض، ولذلك تكلم أهل العلم في من فعل ذلك في قبة الإسلام، أو من كان في بلاد الشرك، أو من كان خارجاً عن الأمصار من الذي يصدق عليه أنه محارب، هل يقتصر ذلك على الذي يعيث في المدن، أو على الذي يقف في الخلاء، والبرية حيث لا يجدون ناصراً فيقطع عليهم الطريق، أو هو الذي يكون في بلاد الكفار خارجاً عن بلاد الإسلام، فيجني عليهم، لكنه يركن إلى بلاد الكافرين؟
الصحيح أنه يصدق على هؤلاء جميعاً، فكل من وقع منه هذا الإفساد العام فهو داخل في هذا أياً كان المكان الذي يوجد فيه، وكلام أهل العلم في هذا كثير جداً، ويختلفون في بعض التفصيلات - والله أعلم -.
"روى ابن جرير عن عكرمة، والحسن البصري قالا: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ [سورة المائدة:33] إلى: أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة المائدة:34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل."

هذه الآية لا تختص بالمشركين - وإن قال به بعض السلف - فعامة أهل العلم على أنها لا تختص بالكفار، بل  إن الله يقول: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ [سورة الأنفال:38]، والنبي ﷺ أخبر أن الإسلام يجب ما قبله[1]، فالكافر الأصلي - المشرك - إذا جنى جنايات، وقطع الطريق، وقتل، وحارب المسلمين، ثم أسلم، فإنه لا يطلب بشيء مما فعله، وجناه في جاهليته؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، فهذه الآية لا تختص بالمشركين لكن لو قُدِر على المشرك قبل إسلامه، وهو يفعل هذه الأفاعيل فهو من أعظم المفسدين في الأرض؛ لأنه جمع الكفر مع هذه الأعمال، لكن لو صدرت هذه من أحد من المسلمين، فإنه يصدق عليه هذا، ولا فرق؛ لأن الله جاء به بصيغة العموم في قوله: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ [سورة المائدة:33] فلم يخص المشركين، والآيات تدل على أن المشرك إذا تاب لا يطالب بشيء مما جناه أيام الشرك.
"وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله، ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدروا عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.

طبعاً هذا الكلام على أن المسلم غير مراد، وهذا قول قال به بعض السلف لكنه قول مرجوح، فهو يقول: هذه الآية إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة:34] لا تحرز المسلم، وإنما هي في الكفار فقط إذا أسلموا، فالكفار إذا أسلموا يُغفر لهم ما قد سلف، وهذا معلوم فالنبي ﷺ ما كان يأخذ الكفار بجناياتهم، وقادة الكفر الذين قادوا المشركين في يوم أحد، والأحزاب أسلموا، وما طُلبوا بشيء لا بقليل، ولا بكثير فالكلام ليس في هؤلاء الكفار الذين أسلموا إنما هو في المسلم، فالمسلم الذي حصل منه إفساد في الأرض، ثم تاب قبل أن يُقدر عليه، فهذا ينفعه بينه، وبين الله لكن تبقى حقوق الخلق، إن قتل اقتص منه، إن أخذ المال طولب به، ويؤخذ بجناياته.
"ورواه أبو داود، والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس - ا -: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [سورة المائدة:33] نزلت في المشركين من تاب منهم قبل أن يُقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه.
والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين، وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات، كما رواه البخاري، ومسلم من حديث أبي قلابة - واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري - عن أنس بن مالك أن نفراً من عُكْل ثمانية قدموا على رسول الله ﷺ، فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا المدينة."

قوله: "فاستوخموا المدينة" يعني لم تلائمهم فاعتلت أجسامهم، فأرادوا الخروج منها، تقول: استوخم البلد يعني سكنها، فلم تلائمه فاعتلّ.
"فاستوخموا المدينة، وسقمت أجسامهم، فشكوا إلى رسول الله ﷺ ذلك، فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله، فتصيبوا من أبوالها، وألبانها؟ فقالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها، وألبانها، فصحوا، فقتلوا الراعي، وطردوا الإبل، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فبعث في آثارهم، فأُدركوا فجيء بهم، فأمر بهم، فقطعت أيديهم، وأرجلهم، وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا[2]."

يعني أن النبي ﷺ حينما قطع يداً، ورجلاً من كل واحد منهم لم يحسم الجراح إثر القطع بالنار حتى ينقطع الدم، وإنما تركهم في حر الشمس ينزفون إلى الموت حتى إنهم كانوا يستسقون الماء فلا يسقون.
وقوله: "وسمرت أعينهم" أي سملت أعينهم، وفي هذه الرواية سمرت أعينهم، والمعنى أنه كحلها بمسامير محماة، ففقأها حيث إنهم فعلوا في الراعي مثل هذا، ومثلوا به فهو عاملهم بالمثل.
ومن أهل العلم من يقول: إن هذا الحديث منسوخ بنهي النبي ﷺ عن المثلة، وبعضهم يقول: إنه منسوخ بغير هذا، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال إطلاقاً، وإنما لابد من دليل يدل عليه، ولذلك الأقرب - والله تعالى أعلم - أن من مثّل بإنسان فيجوز أن يمثَّل به على سبيل المقاصة لكن المثلة لا تجوز ابتداءً، والعفو، وترك هذا، والقتل بالسيف أكمل، وأفضل؛ لعموم قوله ﷺ: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[3]، فيكون هذا أكمل، والعلم عند الله .
وعلى كل حال فالنبي ﷺ فعل بهم هذا مع أنها عقوبة شديدة؛ لأنهم يستحقونها، وفي المقابل: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة:34] أي من هؤلاء المحاربين فلا يطلبون بشيء على الراجح، لا بدم، ولا بمال، ومن تضرر من الناس ممن قتل لهم من قِبَل هؤلاء المحاربين، أو أخذت أموالهم فليس لهم أن يطلبوا شيئاً؛ لأنه نقل الإجماع عن بعض أهل العلم أن إمام المسلمين هو ولي ذلك، يعني ليس صاحب الدم هو ولي الدم، ولذلك يقولون: إنه - بالإجماع - لو أن ولي الدم قال: أنا عفوت، وصاحب المال قال: أنا عفوت، فإن القضية لا تنتهي عند هذا الحد، وإنما وليها هو إمام المسلمين؛ لأن هذه من القضايا العامة.
وقوله: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة:34] الراجح أنهم إن تابوا قبل القدرة عليهم فإنهم لا يطلبون بشيء، والحاصل من أقوال أهل العلم أن منهم من قال: هذا في المشركين خاصة إذا أسلموا من المحاربين، وهذا لا دليل عليه، وبعضهم قال: هذه يدخل فيها المسلم المحارب إذا أعطي الأمان، أو ارتد، ولحق بدار الكفر ثم استأمن فأعطي الأمان بأن قيل له: إن رجعت، وأتيت نعفو عنك، فهذا قال به بعض السلف، لكن إذا لم يعطَ الأمان يقولون: تنفعه التوبة بينه، وبين الله لكن تبقى حقوق الناس فيؤخذ بجنايته، فيطالب بهذه الأشياء، وبعضهم يحمله على العموم فيقول: كل من تاب، وبعضهم يقول: هي خاصة بمن تاب، وقد لحق بدار الكفر، وبعضهم يقول: من كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده، بمعنى أنه غير مقدور عليه، عنده فئة تمنعه سواء بلجوئه إلى فئة في بلاد الكفار، أو في بلاد المسلمين، يعني أن الفرق عند هؤلاء القائلين أن هذا الإنسان لو كان في طريق، أو في برية، وحدثته نفسه، وسولت له، وزيَّن له الشيطان فجنى على بعض المارة من المسافرين، وأخذ ما عندهم، فلو طلبه السلطان لأدركه، ولا يستطيع أن يمتنع فمثل هذا يقولون: الذي يقدر عليه لو طلب فإنه غير داخل فيما ذكر.
وبعضهم كما يقول كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: الممتنع بنفسه، أو بطائفة أي ممتنع بنفسه بأن يجابه، ويدافع، أو يتحصن، ويتحرز، وما أشبه ذلك بحيث لو طلبوه لا يقدرون عليه أصلاً، فهذا ممتنع عند ابن جرير، ويقول: مثل هذا إذا تاب قبل القدرة عليه فإنه لا يطلب بشيء، لا بمال، ولا بدم، ولا غير ذلك، وبعضهم يقول: تنفعه فيما بينه، وبين الله مما يختص بحقوق الله مثل الحدود، كأن يكون قد شرب خمراً، أو نحو ذلك، فالحدود تسقط دون حقوق الآدميين.
وعلى كل حال ابن جرير - رحمه الله - مع ذلك يقول: لو وُجد معه مال بعينه بأن كانت هذه سيارة فلان، وهذه العشرة الآلاف لفلان، وجدناها بربطتها قد أخذها من بيت فلان، أو من المسافر الفلاني، فمثل هذا يقول: تؤخذ منه، وتعطى لهؤلاء الناس، وهذا قول له وجه، فالأقرب - والله تعالى أعلم - أن هؤلاء إذا تابوا لا يطلبون بشيء متى ما تابوا، وبالنسبة لله من تاب تاب الله عليه، وبالنسبة لحقوق الخلق فمثل هذه الأمور العامة ليست كالجنايات الخاصة بحيث يقتص، أو لا يقتص، أو تقطع يده إن سرق، أو لا - والله تعالى أعلم - هذا خلاصة كلام أهل العلم في معنى قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة:34].
"وقوله تعالى: أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33] قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - في الآية: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظُفر به، وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده، ورجله، وكذا قال سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير."

فقوله: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33] لفظة "أو" تحتمل أن تكون للتخيير، وعلى هذا جرى القول الأول، وهو قول ابن عباس، ومن وافقه هنا، أي أن الإمام يخير فيهم بحسب ما يراه من المصلحة، والتخيير في مثل هذه القضايا لا يكون للتشهي، وإنما يكون بمراعاة المصلحة، كما لو أنه مثلاً قد كثر ذلك، وخشي من تفاقمه فإنه قد يحتاج إلى الصلب مع القتل لكون ذلك أبلغ في كف الناس، وردعهم عن مثل هذا، وهكذا لو أن الإفساد الذي فعله هؤلاء كان إفساداً كثيراً، فقد يُحتاج إلى صلبهم مع القتل، وقد يُكتفى بنفيهم، فالكلام في "أو" هذه، من قال: إنها للتخيير، قال: الإمام مخير فيهم، ومن قال: إنها للتقسيم قال: إنه إن فعلوا كذا قتلوا، وإن فعلوا كذا صلبوا مع القتل، وإن فعلوا كذا قطعت أيديهم، وأرجلهم من خلاف، وهكذا، بحسب الجرم، وأصحاب هذا القول اختلفوا في التفاصيل متى يجمع لهم بين القتل، والصلب، ومتى يكتفى بالنفي، أو غير ذلك، فهم غير متفقين على تفاصيل هذه القضية.
وفي قوله: أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ [سورة المائدة:33] العلماء مختلفون أيضاً في الصلب هل هو بعد القتل، بحيث يقتل ثم يصلب ليراه الناس، أو أنه يصلب، وهو حي، ولا يطعم، ولا يسقى، فبعضهم يقول: يرمى بسهم، وبعضهم قال غير ذلك، وعلى كل حال هم نظروا إلى اعتبارات معنيّة، فمن قال: إنه يقتل ثم يصلب، قال: إن النبي ﷺ قال: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة[4]، وصلْبه قبل القتل، ومنْعه من الطعام، والشراب لا يسوغ في الشرع، وفي الحديث: دخلت امرأة النار في هرة[5]، وما أشبه ذلك.
"ومستند هذا القول أن ظاهر "أو" للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن، كقوله في جزاء الصيد: فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [سورة المائدة:95]، وكقوله في كفارة الفدية: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة:196]، وكقوله في كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [سورة المائدة:89] هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية."

بهذا الاعتبار يكون قد فسر هذه اللفظة بما هو الغالب في استعمالها في القرآن، فيكون هذا من المرجحات، وإلا فإن "أو" تأتي لعدة معانٍ في كلام العرب، وفي القرآن، كما في قوله تعالى: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] فهنا "أو" ليست للتخيير قطعاً؛ لأن اليهود يكفِّرون النصارى، والنصارى يكفِّرون اليهود، وكل طائفة تقول عن الطائفة الثانية إنها لا تدخل الجنة، فـ"أو" هنا للتقسيم؛ لأن اليهود يقولون: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، والنصارى يقولون: لا يدخلها إلا من يكون نصرانياً، فـ"أو" للتقسيم، لكن مِن طرق الترجيح في التفسير أن تفسر الآية، أو الكلمة، أو التركيب، أو الحرف بما هو الغالب في استعماله في القرآن، وهذا الذي قصده الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، وعلى كل حال مثل ابن جرير الطبري - رحمه الله - يرى أن ذلك يكون بحسب جرمه، فإن كان جرمه كبيراً قتل، وصلب، وإن كان جرمه دون ذلك فإنه قد يُكتفى بالقتل، وقد تقطع يده، ورجله من خلاف، وقد يكتفى بنفيه.
"وأما قوله تعالى: أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33] قال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد، أو يهرب من دار الإسلام، رواه ابن جرير عن ابن عباس، وأنس بن مالك ، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث بن سعد، ومالك بن أنس."

يلاحظ هنا كثرة القائلين بهذا القول مع أنه ليس الظاهر المتبادر لقوله تعالى: أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ [سورة المائدة:33]، وهذا القول - أي: طلبهم حتى يقدر عليهم، أو يهربون بسبب المطاردة إلى غير بلاد المسلمين - معناه أنه لو تمكن منهم فإنه لا مجال لنفيهم، وهذا فيه إشكال؛ لأن الله ذكر عقوبتهم بأنها القتل، أو الصلب، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم، أو ينفوا من الأرض، فكون هؤلاء يُطلبون فليست هذه هي العقوبة، وإنما ذلك من أجل إقامة حكم الله فيهم، وحكم الله فيهم هو الأمور المذكورة في الآية، ومنها النفي.
"وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر، أو يخرجه السلطان، أو نائبه من معاملته بالكلية."

قوله: "أن ينفى من بلده إلى بلد آخر" يعني يُخرج من بلاد المسلمين، أي يُخرج من هذه المدينة إلى مدينة أخرى، وهذا نوع من التعذيب، والله جعل ذلك قريناً للقتل كما في قوله تعالى: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ [سورة البقرة:85]، ويقول تعالى في بني النضير: وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [سورة الحشر:3] فالإخراج من الأوطان لا شك أنه نوع من التعذيب، فعقوبة المحارب أن ينفى من بلده إلى بلد آخر.
يقول: "أو يخرجه السلطان من معاملته" يعني من البلاد التي تحت يده، فإذا كان الحاكم هذا هو الخليفة - وهو واحد - فليس، وراء بلاده إلا بلاد الكفار، لكن هذا أيضاً قد لا يخلو من إشكال؛ لأن إخراجه إلى بلاد الكفار هو فتنة له أيضاً، ولهذا نهى النبي ﷺ أن تقام الحدود في أرض العدو؛ لئلا نضطر هذا الإنسان إلى الجنوح إليهم، والالتجاء بهم، فيترتب على ذلك ما هو أعظم.
"وقال سعيد بن جبير، وأبو الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل بن حيان: إنه ينفى، ولا يخرج من أرض الإسلام، وقال آخرون: المراد بالنفي هاهنا السجن."

الذين يقولون: إن المراد بالنفي هاهنا السجن يعنون أننا بسجنه كأننا أخرجناه من سعة الدنيا إلى ضيقها، وهذا القول، وإن قال به بعض أهل العلم، وقال به أبو حنيفة أيضاً في موضع آخر عند الكلام على التغريب في حديث: والبكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام[6] فهذا فيه بعد، والحاصل أنهم رأوا أن السجن هو نفي له من الأرض إلى مكان لا يرى فيه أحداً، ولا يراه الناس، فيستريحون من شره.
وذهبت طائفة - منهم الإمام مالك، وابن جرير، والقرطبي صاحب التفسير، وغيرهم - إلى أنه ينفى إلى بلد آخر، ويحبس فيها، وكأنهم نظروا إلى إنه إن نفي إلى بلد آخر فحسب، فإن شره قد لا يتوقف، وقد لا يحصل المقصود، لذلك قالوا: يُحبس هناك، لكن يقال: هذا لا دليل عليه؛ لأن الله إنما قال: أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ فقط، لكن مثل هذا الإنسان العاتي المتمرد إذا نفي من بلد إلى بلد فقد يمارس أعمالاً هناك، ويقطع الطريق في أي مكان، وليس عنده إشكال أصلاً؛ لأن من يفعل هذه الأشياء غالباً ليس عنده شيء يخسره أصلاً، ولا هو خائف عليه، فأي مكان يذهب إليه سيقوم بعمله ذلك من قطع الطريق، ونحو ذلك، فالحاصل أن مثل هذه الأمور ينظر فيها للمصلحة، فإذا عُلم أن هذه الإنسان إذا نفي إلى بلد آخر ينكفُّ شره، ويرتدع، ويرى أن هذه عقوبة قد نزلت به، ويكون ذلك سبباً لصلاح حاله، وتوبته فلا يقال بسجنه، ومن علم من حاله أنه إن نفي إلى بلد آخر سيفرح بهذا، ويسر، وسيدخل في ساحة جديدة يقوم فيها بأعمال مشابهة، وما أشبه هذا، فمثل هذا يحبس - والله أعلم -.
"وقوله تعالى: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة المائدة:33] أي: هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، ونفيهم خزي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت قال: أخذ علينا رسول الله ﷺ كما أخذ على النساء، أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا يَعْضَه بعضنا بعضاً."

قوله: "ولا يَعْضَه بعضنا بعضاً" يعني لا يرمي بعضنا بعضاً بالبهتان.
"فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمْره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه.
وعن علي قال: قال رسول الله ﷺ: من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه، وعفا عنه فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث فقال: روي مرفوعاً، وموقوفاً، قال: ورفعه صحيح[7].
وقال ابن جرير في قوله: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا [سورة المائدة:33] يعني شر، وعار، ونكال، وذلة، وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [سورة المائدة:33] أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا لهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها، عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني عذاب جهنم."
  1. أخرجه أحمد (17812) (ج 4 / ص 198)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2777).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق (2855) (ج 3 / ص 1099)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب حكم المحاربين، والمرتدين (1671) (ج 3 / ص 1296).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان - باب الأمر بإحسان الذبح، والقتل، وتحديد الشفرة (1955) (ج 3 / ص 1548).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان - باب الأمر بإحسان الذبح، والقتل، وتحديد الشفرة (1955) (ج 3 / ص 1548).
  5. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (3140) (ج 3 / ص 1205)، ومسلم في كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله - تعالى -، وأنها سبقت غضبه (2619) (ج 4 / ص 2109).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الحدود - باب حد الزنى (1690) (ج 3 / ص 1316).
  7. أخرجه ابن ماجه في كتاب الحدود - باب الحد كفارة (2604) (ج 2 / ص 868)، وأحمد (775) (ج 1 / ص 99)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، وأما العلامة الألباني فضعفه في سنن ابن ماجه برقم (2604).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] الآية، سببها عند ابن عباس: أن قومًا من اليهود كان بينهم، وبين رسول الله ﷺ عهدٌ، فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل[1] وقال جماعةٌ: نزلت في نفرٍ من عُكلٍ، وعُرينة، أسلموا، ثم إنهم قتلوا راعي النبي ﷺ وأخذوا إبله، ثم حكمها بعد ذلك في كل محارب".

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] المحاربة فسرها ابن كثير - رحمه الله - بالمضادة، والمخالفة، وقال: هي صادقةٌ على الكفر، وعلى قطع الطريق، وإخافة السبيل[2] والمقصود هنا هو الأخير، وهو الكفر، فلا شك أنه محاربة، لكن هذه الآية - والله أعلم - ما سيقت لبيان عقوبة الكافر، وإنما قاطع الطريق، والذي يخيف السبيل، ونحو ذلك، فهذا حد الحرابة، وهو حدٌ خاص على جنايةٍ معينة، وليس المقصود بذلك الكفار من المحاربين، فالكفار منهم: المحارب، ومنهم المهادن، ومنهم المعاهد، ومنهم الذمي، فهم يختلفون، فليس المقصود هنا الكفار من المحاربين، وإنما أصحاب جنايات رُتب عليها هذا الحد.

قال: "الآية سببها عند ابن عباس - ا -: أن قومًا من اليهود كان بينهم، وبين النبي ﷺ عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا السبيل"[3] هذا ثابت عن ابن عباس - ا - عن طريق ابن أبي طلحة، لكن ليس فيه ذكر سبب النزول، يعني أنها نزلت بسبب هذا، لكن وقع ذلك من بعض اليهود، فكانوا من جملة المحاربين، لكن كما تعلمون أن سبب النزول هو ما نزلت الآية، أو الآيات، أو السورة متحدثةً عنه أيام وقوعه من واقعةٍ، أو سؤال.

فقول ابن عباس - ا - لم يصرح فيه بأنه سبب النزول، قال فيه: "فخيّر الله رسوله إن شاء أن يقتل..." إلى آخره، فهذه العبارة ليست من العبارات المعروفة في صيغ سبب النزول الصريح، ولا غير الصريح، فالعبارات التي يذكرها أهل العلم غير الصريح يقولون: نزلت أهل الآية في كذا، في نفرٍ من اليهود، والصريح أن يذكر الواقعة، فيقول: فنزلت الآيات، أو نزلت الآية، أو فأنزل الله، أو سبب نزول هذه الآية كذا، لكن هنا: "فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل" فهذا يحتمل أن يقصد به سبب النزول "فخير" لأن الفاء تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فخيره لذلك، لكن قد تكون الآية نازلة قبل، فابن عباس - ا - يخبر عن حكم هؤلاء، وأن هذا التخيير كان بآيةٍ قد نزلت في كتاب الله - تبارك، وتعالى - ويحتمل أن يكون هذا التخيير بإنزال هذه الآية بسببهم، على كل حال هذه صيغة مغايرة للصيغ المعروفة، التي يذكرها العلماء في أسباب النزول، وتجد حينما تتتبع بدقة، ولطافة نظر في الصيغ، والروايات الواردة تجد بعض ما يخرج عما يُذكر كثيرًا.

يقول: "وقال جماعةٌ: نزلت في نفرٍ من عُكلٍ، وعُرينة" هؤلاء قبائل الذين قتلوا الراعي، وأخذوا الإبل، وهذا الحديث هو حديث أنس مخرج في الصحيحين[4] لكن ليس فيه التصريح أنها نزلت في هؤلاء، لكن أصل القصة في قتل الراعي، وأخذ الإبل ثابتة في الصحيحين.

لكن في سنن أبي داود[5] والنسائي[6] وهكذا عند الإمام أحمد[7] وفيه: "فبلغنا أنَّ هذه الآية نزلت فيهم: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33]" وهذا إسناده صحيح، وعرفنا أن هذه الصيغة ليست من قبيل الصريح، وجاء نحو هذا عن ابن عمر، وأبي هريرة، وجرير فلو فُرض أن هذه أُريد بها أسباب النزول، وأنها نزلت في هؤلاء الذين قتلوا الراعي، وسملوا عينيه، وأخذوا الإبل، أو في اليهود، لو فرض أن هذا كله يُراد به أسباب النزول، فيمكن أن يقال: بأن ذلك إن كان وقع في وقتٍ متقارب فتكون الآية نزلت بعد هؤلاء جميعًا، وإن كان الوقت متباعدًا، ونحن لا نعلم، فيكون ذلك من قبيل تكرر النزول، لكن لا نجزم بهذا؛ لأن الصيغ المذكورة غير صريحة، فيحتمل أن ذلك يراد به جميعًا التفسير، فكل ذلك داخلٌ فيه، يعني ما وقع لهؤلاء اليهود، وما وقع مع هؤلاء من عُكلٍ، وعُرينة.

"والمحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلدٍ، أو في خارج بلد[8] وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد[9]".

يقول: "المحاربة عند مالك هي: حمل السلاح على الناس في بلدٍ، أو في خارج بلد، وقال أبو حنيفة: لا يكون المحارب إلا خارج البلد" وجاء عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة أيضًا: من شهر السلاح في فئة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظفر به، وقُدر عليه، فإمام المسلمين في الخيار، إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده، ورجله[10] وبهذا قال أيضًا جماعة من السلف، كابن المسيب، ومجاهد، والحسن، والنخعي، والضحاك[11] فذكر هنا وصفين: شهر السلاح في فئة المسلمين، وأخاف السبيل، يعني بمجموع الوصفين، وإخافة السبيل لا تكون إلا خارج البلد، وهذا هو المشهور، بأن المحاربين هم من كان خارج البلد لإخافة السبيل.

"وقوله: يُحَارِبُونَ اللَّهَ [المائدة: 33] تغليظٌ، ومبالغة، وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله ﷺ وذلك ضعيف؛ لأن الرسول - عليه الصلاة، والسلام - قد ذُكر بعد ذلك، وقيل: يحاربون عباد الله، وهو أحسن". 

قوله: يُحَارِبُونَ اللَّهَ [المائدة: 33] يقول: "تغليظٌ، ومبالغة" يعني كأن القائل استشكل كونهم يحاربون الله؛ لأن الخلق أضعف من ذلك "وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله" وهذا غلط؛ لأنه قال: يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] لكن ما ذكره من أنه "تغليظٌ، ومبالغة" باعتبار أن الذين يحاربون رسول الله ﷺ محاربين لله، والذين ينتهكون حدود الله ويخيفون السبيل، وينتهكون الأنفس المعصومة، والأموال المعصومة هم في الواقع محاربون لله.

يقول: "وقال بعضهم: تقديره يحاربون رسول الله ﷺ وذلك ضعيف؛ لأن الرسول - عليه الصلاة، والسلام - قد ذُكر بعد ذلك، وقيل: يحاربون عباد الله، وهو أحسن" والواقع أن أولئك يبارزون الله، ورسوله بالكفر، والعداوة، والجراءة على حدوده استكبارًا، وعنادًا، فهذا لا إشكال أن يقال معه: بأنهم يحاربون الله، ورسوله.

كما ذكر الله في سخرية المنافقين، واستهزائهم بالقراء، حيث قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أحرص على البطون، وأجبن عند اللقاء، فقال الله : قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۝ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65 - 66] فهم استهزءوا بالقراء لا بشيءٍ يختص بهم من عيوب الأنفس، والنقص الذي يكون فيها، وإنما باعتبار أنهم قُراء، فكان ذلك عائدًا إلى ما يحمله هؤلاء القراء، فقال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ [التوبة: 65] بإيمانهم بالله، واتصالهم به، وحملهم لكتابه، والعلم المستخرج منه، كل ذلك مع اتباع النبي ﷺ فكان ذلك داعيًا إلى هذه السخرية.

يقول سعيد بن جبير: الكفر بعد الإسلام[12] ويقول مقاتل: الشرك[13] وما في معناه، فالذي يفسد في الأرض، وينتهك حدود الله، ويجترئ على عباده، وخلقه بسفك الدماء، وأخذ الأموال، والسطو المسلح على الناس، ونحو ذلك، فهذا محاربٌ لله، ولرسوله؛ لأنه منابذٌ لشرعه بهذا الاعتبار - والله أعلم -.

"وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا [المائدة: 33] بيان للحرابة، وهي على درجات: أدناها إخافة الطريق، ثم أخذ المال، ثم قتل النفس".

وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا [المائدة: 33] الفساد - كما هو معلوم - يُطلق على أنواع من الشر، هنا قال: "هذا بيانٌ للحرابة، وهي على درجات: أدناها إخافة الطريق" يعني من غير قتل، ولا أخذ للمال "ثم أخذ المال، ثم قتل النفس" وجاء عن مجاهد بأن الفساد: القتل، والزنا، والسرقة[14] وجاء عن ابن عباس بأن السعي في الأرض بالفساد، وبالمعاصي[15] وبهذا قال أيضًا مقاتل[16] وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسادًا [المائدة: 33] والفساد يصدق على القتل، وأخذ الأموال، ونحو ذلك، فهذه الآية جاءت في سياق الكلام على الحرابة، وهؤلاء من المحاربين يقدمون على قتل الأنفس، وإخافة السبيل، وأخذ الأموال، فهذه الثلاثة التي يدور عليها كلام أهل العلم في حكم المحاربين، وإلا فالأصل أن السعي في الأرض في الفساد يشمل هذا، ويشمل غيره، يعني مثل: الزنا، ونشر الرذيلة، والدعوى إلى الكفر، وتزيينها في نفوس الناس، وتزيين الفواحش، والمعاصي، فكل هذا من السعي في الأرض بالفساد وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف: 56] وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الأعراف: 74] فهذا عام، لكن هنا في سياق الحرابة وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ [المائدة: 33] يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة: 33] في انتهاك حدوده، والجراءة عليها، ويسعون في الأرض فسادًا بقتل الأنفس المعصومة، وأخذ الأموال المعصومة، وكذلك إخافة السبيل - والله أعلم -.

"أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] الصلب: مضاف إلى القتل، وقيل: يقتل، ثم يُصلب؛ ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهو قول أشهب، وقيل: يُصلب حيًا، ويُقتل على الخشبة، وهو قول ابن القاسم[17]".

أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] الصلب معروف، وهو أن يثبت على خشبة، أو على جذع، أو نحو ذلك ليراه الناس، يعني لا يكون طريحًا على الأرض، لكن هل هذا الصلب قبل القتل، أو بعده للنكاية، والزجر، والتشهير به، وردع الناس؟ فهذا الذي ذكر فيه الخلاف، قال: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] قال: "الصلب مضافٌ إلى القتل" معناه: أنه يُقتل، ويُترك، أو يُقتل، ويُصلب بحسب المصلحة، إذا كان مثلاً ذلك كثير الوقوع، وكثر قطاع الطرق، ومن يخيفون الناس في سبلهم فهنا يحتاج إلى ردع، وزجر، فإذا أُخذ الواحد منهم قُتل، وصُلب؛ ليرتدع الناس، وإذا كان ذلك نادرًا مثلاً أكتُفي بقتله دون صلبه، فهذا قوله: "الصلب مضافٌ إلى القتل" يعني أنها ليست عقوبة مباينة للقتل، بمعنى أنه لا يُفهم أن العقوبة الأولى القتل، والعقوبة الثانية: صلبٌ من غير قتل، فكونه يصلب من غير قتل هذا لا معنى له، يقول: "وقيل: يقتل، ثم يُصلب ليراه أهل الفساد، فينزجروا" هنا كأنه ذكر هذا للتعليل، وإلا فإن قوله: "الصلب مضافٌ إلى القتل" هو نفس المعنى، لكن كأنه ذكر الثاني للعلة ليراه أهل الفساد فينزجروا، وهذا عزاه ابن عطية للجمهور[18] أي أن المقصود: أنه يُقتل، ثم يُصلب، وبه يقول الشافعي - رحمه الله -[19] لينزجر الناس، ومن المعاصرين قال بهذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -[20].

يقول: "وهو قول أشهب"[21] من المالكية.

"وقيل يُصلب حيًا، ويُقتل على الخشبة" فهذا قولٌ آخر، يعني الأول: أن يكون الصلب بعد القتل، والقول الثاني: أنه يُقتل، أو يُصلب، يعني أما أن يُقتل هكذا بالسيف من غير صلب، أو يُقتل، ويُصلب بعد القتل، وهؤلاء يقولون: إن قوله: أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة: 33] أي يُقتل من غير صلب هذه الصورة الأولى أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] أن يُصلب، ويُقتل مصلوبًا "وهذا قول ابن القاسم" من المالكية، وهو مروي عن مالك - رحمه الله -[22] ورجحه ابن عطية[23] وهو أن يُقتل مصلوبًا، كأن يطعن بحربة، أو رمح، أو نحو ذلك، وليس المقصود أنه يُجعل هدفًا فيُرمى بالسهام إلى أن يموت مثلاً، أو نحو ذلك فهذا تعذيب للأنفس، وفيه النهي المعروف عن وضع البهيمة، أو الطائر، أو نحو ذلك هدفًا للقتل، وجاء عن ابن عمر: "لعن الله من فعل هذا"[24] لما وجد مع الغلمان طائرًا يستهدفونه بالرمي، لكن يُصلب، ثم يُقتل بطعنه برمحٍ، أو حربةٍ، أو نحو ذلك، وهو مصلوب.

وذكرت لكم في الوقائع في التاريخ ذلك الرجل الذي كان على صلاحٍ، وطاعةٍ، ثم بعد ذلك صار الشيطان يتلاعب به، وأنه كتب لأبيه في ذلك، فأجابه أبوه بجواب أرداه، وأن الشياطين تتنزل على كل أفاكٍ أثيم، ولست بأفاكٍ، ولا أثيم، كأن الشيطان صار يصور له أشياء، ويزين له أمور، حتى ادعى النبوة، وذكر عن شيخ الإسلام - رحمه الله - كيف كان يُظهر لهم أشياء على أنها خوارق، ويريهم رجالاً يلبسون البياض على خيل، يقول: هؤلاء ملائكة، أو رجال الغيب، ونحو ذلك، إلى أن أخذه الخليفة في قصةٍ ذكرتها مفصلةً، فالشاهد أنه صُلب، فأمر الخليفة بقتله، وهو مصلوب، فلما طعنه بالرمح لم ينفذ فيه، وليس عليه درع؛ لأن الشياطين تمثل حماية لمثل هذا الدجال، قال: ويحك، هل سميت الله؟ فقال: نسيت، فلما قال: بسم الله، نفذ فيه الرمح، فقتله[25].

فالمقصود إن هذا إحدى الصور التي يكون عليها القتل للمفسدين أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] فقوله: أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] يحتمل أن يكون ذلك بعد القتل، أو أن يُصلب، ويُقتل أثناء الصلب.

"أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة: 33] معناه: أن تُقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى، ورجله اليمنى".

"أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة: 33] "معناه: أن تُقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى، ثم إن عاد: قطعت يده اليسرى، ورجله اليمنى" تُقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى هكذا، وذكر أهل العلم علة هذا، وأظن أنني ذكرت هذا في هذا الموضع في الكلام على المصباح المنير، وهو أنه إذا قُطعت اليد اليمنى يكون فيه ميل إلى هذا الجانب، فإذا قُطع طرفٌ من الجهة الأخرى صار الميل من الجانبين، فيكون ذلك أقرب إلى الاعتدال، فلو قُطعت اليد اليمنى، والرجل اليمنى لصار منكفئًا على جنب لا يستطيع التصرف، كأن ذلك فيه زجر له، وأيضًا مراعاة لحاله، فهذا لا يبعد، ولكن لا يُقطع به، لماذا لا يقطع بهذا، وإن ذكره بعض أهل العلم؟ يعني هذا متصور فيه أحكام الله لكن قول فرعون للسحرة متوعدًا: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الأعراف: 124] هل قصد بذلك مراعاة حالهم مع النكاية؟ أبدًا لم يقصد هذا - والله أعلم -.

"وقطع اليد عند مالكٍ، والجمهور من الرسغ[26] وقطع الرجل من المفصل؛ وذلك في الحرابة، وفي السرقة".

الرسغ يعني مفصل الكف؛ لأن اليد تُطلق على كل ذلك، من الكف، وأطراف الأصابع إلى المنكب، فهل تُقطع اليد بمفصل المنكب، أو يقال بأن ذلك مقيد بما جاء في الوضوء إلى المرافق، فتُقطع من المرفق، أو تُقطع من الرسغ؟ الذي دلت عليه السنة أنها تقطع من الرسغ، يقول: "كذلك في الحرابة، وفي السرقة" كذلك الرجل من المفصل، يعني مفصل القدم مع الساق، وليس من الركبة، أو أعلى الفخذ.

"أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] مشهور مذهب مالكٍ: أن يُنفى من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، ويُسجن فيه إلى أن تظهر توبته[27] ورُوي عنه مطرفٍ: أنه يسجن في البلد بعينه[28] وبذلك قال أبو حنيفة[29] وقيل: ينفى إلى بلدٍ آخر دون أن يُسجن فيه".

قوله هنا: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] يقول: "مشهور مذهب مالكٍ: أن يُنفى من بلدٍ إلى بلدٍ آخر" وهذا ظاهر الآية، فالنفي على حقيقته من بلد إلى بلد.

وجاء عن جماعة من السلف، كسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء، والحسن، والزهري، والضحاك، ومقاتل[30]: مقيدًا بأن لا يكون النفي إلى خارج بلاد الإسلام، وهذا قيدٌ معتبر له وجه، باعتبار أن النبي ﷺ نهى أن تُقام الحدود بأرض العدو، من أجل ألا يكون ذلك سببًا لالتجائه إليهم خوفًا من إقامة الحد، فيفتن في دينه، فكذلك هذا المنفي كيف يُنفى إلى بلاد الكفر؟ والنبي ﷺ نهى أصلاً عن الإقامة بين ظهراني المشركين، وهذه العقوبة له، وقد تكون سببًا لردته عن الإسلام، وبعضهم يقول: يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] يُطلب حتى يُقدر عليه، فيُقام عليه الحد، أو يهرب من دار الإسلام، يعني كأن هذا ليس من جملة العقوبة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] كأنه يقول: إلى أن يفر من بلاد المسلمين، وهذا لا يخلو من إشكال، وهو مروي عن جماعة من السلف: كابن عباس، وأنس، وسعيد بن جبير، والضحاك، والربيع بن أنس، والزهري، والليث[31] وهو مروي أيضًا عن الإمام مالك[32] والمعنى: أن يطلب حتى يُقام عليه الحد، أو يخرج من دار الإسلام.

يقول: "مشهور مذهب مالكٍ: أن يُنفى من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، ويُسجن فيه إلى أن تظهر توبته" وهذا الذي نقله من مذهب مالك هو اختيار ابن جرير[33] والقرطبي أيضًا[34] لكن السجن في البلد التي ينفى إليها لا دليل عليه، وليس في الآية ما يدل عليه، فيكفي نفيه، وكأن هؤلاء نظروا - والله أعلم - إلى أن المقصود ردعه، وحجزه أيضًا عن الإفساد؛ لأنه قد يُنفى إلى بلدٍ آخر، فيقوم بنفس العمل، ومن كان طبعه الجريمة فإنه يفعل ذلك متى ما سنحت له الفرصة، يُذكر عن أحد السُراق في مكانٍ شريف أنه قُطعت يده اليمنى، ولم يرتدع، فظل يسرق الحجيج، والعمار، ثم قطعت يده اليسرى، ولم يرتدع، ثم قُطعت رجله اليمنى، ولم يرتدع، ثم قُطعت رجله اليسرى، ولم يرتدع، ما زال يسرق، وكأن هؤلاء نظروا إلى هذا المعنى، إنه إذا نُفي إلى بلد سيفسد فيها، إذًا يُنفى حتى يُكف شره عن الناس، ويُحبس في البلد التي يُنفى إليها، وهذا غير النفي الذي هو التغريب عام للزاني البكر، فهناك لا يُسجن، لكن هنا لأنه محارب، مجرم، يقتل، ويعتدي على الناس، فقالوا: يسجن بهذا الاعتبار، قال: "وروى عنه مطرفٍ أنه يسجن في بلد بعينه" وهذا الذي اختاره الواحدي[35] فيكون هنا فسر النفي بالحبس، بأن من حُجز عن الناس، كأنما نُفي، لكن هذا خلاف الظاهر، قال: "وبذلك قال أبو حنيفة، وقيل: ينفى إلى بلدٍ آخر دون أن يُسجن فيه" وهذا هو ظاهر الآية، وبعضهم يقول: يُطرد من البلاد التي يحارب فيها إلى غيرها، يعني: من بلد إلى بلد، وهذا معنى النفي، وهذا اختاره ابن عطية[36] والقرطبي[37] فالمقصود بالأرض في قوله: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] هي الأرض التي حارب فيها، وعبر بعضهم بقوله: ينفى من وطنه إلى بلدٍ آخر، وهذا قال به من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[38] وطاهر بن عاشور[39] وهو مروي عن بعض السلف: كسعيد بن جبير[40] وهو نحو قول من قال: إنه يُنقل من البلد التي حارب فيها، ويُنفى منها، فـ(أل) في (الأرض) في قوله: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة: 33] لا يتأتى أن تكون جنسية، فأين يُنفى؟ بل هي للعهد، الأرض التي وقعت منه المحاربة فيها، ينفى منها إلى غيرها، هذا إذا كانت هذه العقوبة تردعه؛ ولهذا قيل: بأن ظاهر الآية أنه لا يحبس إذا كانت هذه العقوبة تردعه، أما إذا كان لا يردعه إلا القتل فيُقتل، أو الصلب فيُصلب، أو تُقطع يده، ورجله من خلاف.

"ومذهب مالك: أن الإمام مخير في المحارب بين أن يقتله، ويصلبه، أو يقتله، ولا يصلبه، أو يقطع يده، ورجله، أو ينفيه[41] إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل، فالأحسن أن يُأخذ فيه بأيسر العقاب، وقال الشافعي، وغيره: هذه العقوبات مرتبة[42] فمن قتل، وأخذ المال قُتل، وصُلب، ومن قتل، ولم يأخذ المال قُتل، ولم يُصلب، ومن أخذ المال، ولم يقتل قُطعت يده، ورجله، ومن أخاف السبيل، ولم يقتل، ولم يأخذ مالاً نُفي، وحُجة مالك عطف هذه العقوبات بـ(أو) التي تقتضي التخيير".

هذان قولان مشهوران لأهل العلم، بسبب (أو) هذه، هل هي للتخيير، أو أنها للتقسيم، والتنويع، والتفصيل، وأنها ليست للتخيير؟ وهذا بعضهم يدخله في المشترك، فيجعلون الاشتراك إما في فعل مثل (عسعس)، أو في اسم مثل (القرء)، أو في حرف مثل (أو)، فهي تأتي لهذه المعاني؛ ولهذا اختلف أهل العلم في ذلك، فمنهم من يقول: بأن الإمام مخير في ذلك، وهل هذا التخيير المقصود به التشهي، أو بحسب المصلحة؟ لا شك أنه بحسب المصلحة، وليس للتشهي، والقاعدة أن التخيير التي ذكرناها في الكلام في شرح القواعد الفقهية للشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - وذكر هذه القاعدة، ومر الكلام عليها هناك، وهي قاعدة مهمة: أن التخيير إن كان لمصلحة المكلف فهو تخيير تشهي، مثل: التخيير في كفارة اليمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، يختار ما يناسبه، أو في فدية الأذى بالنسبة للمحرم، فهو مخير بين الثلاثة: يذبح في الحرم للفقراء، أو يطعم ستة مساكين من فقراء الحرم، أو يصوم ثلاثة أيام، في أي مكان، هذا تخييرٌ للتشهي إن كان ذلك لمصلحة المكلف، وإن كان لمصلحة غيره، كمصلحة الأمة مثلاً، فهو تخيير اجتهاد لمصلحة غيره، فيجتهد في مصلحة غيره، وهذا هو المراد هنا: أن الإمام مخير فيهم بحسب ما تقتضيه المصلحة، فإذا كثر قُطاع الطرق، والمفسدون في الأرض، ونحو ذلك، فيُشدد في العقوبة عليهم، يختار الأشد، بخلاف ما إذا كان ذلك قليلاً، أو نادرًا، أو نحو ذلك.

والقول بأنها للتخيير بحسب المصلحة رواية عن ابن عباس - ا -[43] وجاء ذلك عن مجاهد، وهو مروي عن جماعة: كإبراهيم النخعي، وهو رواية عن الحسن البصري، وهو أيضًا مروي عن سعيد بن المسيب - رحم الله الجميع -[44].

لكن هنا يقول في مذهب مالك - رحمه الله - : "إلا أنه قال: إن كان قتل فلا بدّ من قتله، وإن لم يقتل فالأحسن أن يُأخذ فيه بأيسر العقاب" وهذا إذا اقتضت المصلحة ذلك، وليس بإطلاق، والله - تبارك، وتعالى - بدأ بالأشد، ولم يبدأ بالأيسر.

"وقال الشافعي، وغيره: هذه العقوبات مرتبة" يعني أن (أو) هذه ليست للتخيير، وهذه الرواية الأخرى عن ابن عباس - ا - أن ذلك بحسب جنايته[45] كذلك هو مروي عن جماعة كثيرة من السلف: كإبراهيم النخعي، وأبي مجلز[46] والرواية الأخرى عن الحسن، وهو مروي عن قتادة، والسدي، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وهو اختيار ابن جرير[47] فهؤلاء قالوا: إن ذلك بحسب جرمه، فلا يكون الإمام مخيرًا فيه، وإنما بحسب جرمه، والآية تحتمل هذا، وهذا، ولو قال قائل: بأن ذلك التخيير بحسب المصلحة، فكأن هذا قريب - والله أعلم -.

"خِزْيٌ فِي الدُّنْيا [المائدة:33] هو العقوبة، وعذاب الآخرة النار، وظاهر هذا أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحارب، بخلاف سائر الحدود، ويحتمل: أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب فيها، والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب".

يقول: "الخزي في الدنيا هو العقوبة" والخزي يقال للهوان والهلاك، وفسره ابن جرير بنحو هذا، في الشر، والعار، والنكال، والذلة، والعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة[48] فهذا الذي يحصل له من الإذلال، والهوان يقال له: الخزي.

قال: "هو العقوبة، وعذاب الآخرة النار" وهذا كما قال ابن كثير -رحمه الله - يؤيد قول من قال: إنها نزلت في المشركين[49] باعتبار أن المسلمين تكون هذه الحدود كفارات لهم، كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبادة : ومن أصاب شيئًا من ذلك، فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه[50] ففي المحارب جمع له بين الخزي في الدنيا، وهذه العقوبة، والعذاب في الآخرة في النار.

ومن أهل العلم من قال: إن قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه [المائدة:33] في أهل الكفر، والشرك، ومن ارتد عن الإسلام، ونحو هذا؛ لهذا السبب، وهو ذكر الخزي في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة، قال: "وظاهر هذا أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحارب، بخلاف سائر الحدود" لحديث عبادة، فيكون هذا استثناء إذا قيل بأن ذلك في المسلمين، وهذا هو المشهور عند عامة أهل العلم أن هذا الحد في المحاربين من المسلمين، ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب فيها، والعذاب في الآخرة لمن لم يعاقب، لكن ظاهر الآية لا يدل على هذا، وإنما جمع لهم بين الأمرين، فيكون ذلك استثناءً من العموم الوارد في حديث عبادة، فيكون العام في السنة مخصص بهذا من القرآن، فيكون من قبيل تخصيص السنة بالقرآن، بهذا الاعتبار - والله أعلم -.

  1.  تفسير ابن كثير (3/95).
  2.  المصدر السابق (3/94).
  3.  المصدر السابق (3/95).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب قصة عكل، وعرينة برقم: (4192)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات، باب حكم المحاربين، والمرتدين برقم: (1671).
  5.  أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب ما جاء في المحاربة برقم: (4366)، وصححه الألباني.
  6. سنن النسائي دار المعرفة (7/109)
    4037، وصححه الألباني.
  7.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (12668)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  8.  الإشراف على نكت مسائل الخلاف (2/853)، والتفريع في فقه الإمام مالك بن أنس (2/232).
  9. النتف في الفتاوى للسعدي (2/657).
  10.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/99 - 100).
  11. المصدر السابق (3/100).
  12.  زاد المسير في علم التفسير (1/542).
  13.  زاد المسير في علم التفسير (1/542).
  14.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/278).
  15.  زاد المسير في علم التفسير (1/567).
  16.  المصدر السابق (1/567).
  17.  البيان، والتحصيل (2/270)، وبداية المجتهد، ونهاية المقتصد (4/239).
  18.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/185).
  19. المجموع شرح المهذب (20/109).
  20. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/396).
  21.  البيان، والتحصيل (2/270)، وبداية المجتهد، ونهاية المقتصد (4/239).
  22.  البيان، والتحصيل (2/270)، وبداية المجتهد، ونهاية المقتصد (4/239).
  23.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/185).
  24.  أخرجه مسلم في كتاب الصيد، والذبائح، وما يؤكل من الحيوان، باب النهي عن صبر البهائم برقم: (1958).
  25.  الفرقان بين أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان (ص: 169).
  26.  الجامع لمسائل المدونة (22/196).
  27.  بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (4/240)، والمقدمات الممهدات (3/234).
  28.  المصدر السابق.
  29.  المصدر السابق.
  30.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/101).
  31.  المصدر السابق.
  32.  المصدر السابق.
  33.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/274).
  34.  تفسير القرطبي (6/153).
  35.  التفسير الوسيط للواحدي (2/181).
  36.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/185).
  37.  تفسير القرطبي (6/153).
  38.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/396).
  39.  التحرير، والتنوير (8 - أ/24).
  40. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/270).
  41.  المدونة (4/534)، والبيان، والتحصيل (16/418).
  42.  بحر المذهب للروياني (13/104).
  43.  تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل (2/38).
  44.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/100).
  45.  تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل (2/38).
  46.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/100).
  47.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/264).
  48.  تفسير الطبري (10/276).
  49.  تفسير ابن كثير (3/101).
  50.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار برقم: (18) ومسلم في الحدود باب الحدود كفارات لأهلها برقم: (1709) واللفظ لمسلم.