"إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 34] قيل: هي في المشركين، وهو ضعيف؛ لأن المشرك لا يختلف حكم توبته قبل القدرة عليه، وبعدها، وقيل: هي في المحاربين من المسلمين، وهو الصحيح، وهم الذين جاءتهم العقوبات المذكورة، فمن تاب منهم قبل أن يُقدر عليه، فقد سقط عنه حكم الحرابة؛ لقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34]".
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 34] يقول: "قيل: هي في المشركين" هذا مروي عن ابن عباس، وعكرمة، والحسن لكن يرد هذا قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] وكذلك حديث: الإسلام يهدم ما كان قبله.
قال: "وهو ضعيف؛ لأن المشرك لا يختلف حكم توبته قبل القدرة عليه، وبعدها، وقيل: في المحاربين من المسلمين، وهو الصحيح" وعممها ابن كثير فيمن ارتكب هذه الصفات، يعني يحاربون الله، ورسوله، ويسعون في الأرض فسادًا، سواء كان من المشركين، أو من المسلمين يقول: "فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه فقد سقط عنه حكم الحرابة" يعني إذا تاب يسقط عنه الحد، لكن يبقى هل يسقط عنه القتل إذا قتل، ونحو ذلك من الجنايات؟ لأن الكلام هنا على الحد فقط، وهو حد الحرابة، أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم من خلاف، فإذا قلنا: الإمام مخير فيهم مثلاً، فهذا يدل على أن الحد يسقط، لكنه لا يدل على أن الحقوق الخاصة تسقط.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 34] يقول ابن كثير: "وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة، كما قال ابن أبي حاتم... عن الشعبي، قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة، وكان قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش منهم: الحسن بن علي، وابن عباس، وعبد الله بن جعفر، فكلموا عليًا، فلم يؤمنه، فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فخلفه في داره، ثم أتى عليًا، فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيت من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، فقرأ حتى بلغ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 34] قال: فكتب له أمانًا، قال سعيد بن قيس: فإنه حارثة بن بدر، وكذا رواه ابن جرير".
ونقل القرطبي الإجماع على أن السلطان ولي من حارب قال: "فإن قتل محارب أخا امرئ، أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحاربة شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم". يعني هذا غير هذا، المحاربة حد، يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
ثم قال ابن كثير: "وروى ابن جرير... عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمارة عثمان بعد ما صلى المكتوبة، فقال: يا أبا موسى، هذا مقام العائذ بك، أنا فلان بن فلان المرادي، وإني كنت حاربت الله ورسوله، وسعيت في الأرض فسادًا، وإني تبت من قبل أن يقدر علي، فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان، وإنه كان حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير، فإن يك صادقًا فسبيل من صدق، وإن يك كاذبًا، تدركه ذنوبه، فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج - أي إلى الإفساد مرة ثانية - فأدركه الله تعالى بذنوبه، فقتله.
ثم روى ابن جرير... عن موسى بن إسحاق المدني - وهو الأمير عندنا - أن عليًا الأسدي حارب، وأخاف السبيل، وأصاب الدم، والمال، فطلبه الأئمة، والعامة، فامتنع، ولم يقدر عليه، حتى جاء تائبًا؛ وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءتها. فأعادها عليه، فغمد سيفه، ثم جاء تائبًا، حتى قدم المدينة من السحر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله ﷺ فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه، فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي جئت تائبًا من قبل أن تقدروا علي، فقال أبو هريرة : صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبًا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، قال: فترك من ذلك كله، قال: وخرج علي تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الروم في سفينتهم، فهربوا منه إلى شقها الآخر، فمالت به، وبهم، فغرقوا جميعًا".
فهذه أمثلة على كيف تُعرف توبته؟ وهي من زمن الصحابة يأتي الرجل إلى الناس أو إلى السلطان فيقول: إنه تائب، أو نحو هذا.
"واختلف هل يطالب بما عليه من حقوق الناس في الدماء والأموال أو لا؟ فوجه المطالبة بها أنها زائدة على حدّ الحرابة التي سقطت عنه بالتوبة، ووجه إسقاطها إطلاق قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34]".
ذكر ابن قدامة في المغني: أن هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، يعني: أنها زائدة على حد الحرابة التي سقطت بالتوبة، أي: أن الذي يسقط هو حد الحرابة فقط، أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم، وأرجلهم، هذا حد الحرابة، لكن يبقى الحقوق الخاصة لا تسقط، وابن قدامة يقول: لا خلاف في هذا بين أهل العلم، يعني قتل أخا هذا، أو قتل أباه، أو أخذ مال هذا، فهنا أصحاب الحقوق يطالبون بحقوقهم.