قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [(35-37) سورة المائدة].
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات.
وقد قال بعدها: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} قال سفيان الثوري: حدثنا أبي عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس -ا-: أي القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
وقرأ ابن زيد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [(57) سورة الإسراء] والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود، والوسيلة أيضاً علَم على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله ﷺ وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة))([1]).
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -ا- أنه سمع النبي ﷺ يقول: ((إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة))([2]).
ففي قوله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [(35) سورة المائدة]، ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن التقوى إذا ذكرت مع العمل الصالح فمعناها يتوجه إلى أحد شقيها؛ لأنها في الأصل تدل على ترك ما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، وفعل ما أمر به، فإذا ذكرت مع العمل الصالح فهذا هو الشق الثاني، فتحمل عندئذ على ترك ما نهى الله عنه، وهكذا إذا ذكرت مع البر، كما في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [(9) سورة المجادلة] فالبر هنا هو العمل بطاعة الله، والتقوى ترك معصيته، والمعاني التي ذكرها هنا في الوسيلة -سوى المعنى الأخير- كل ذلك يرجع إلى شيء واحد، فهو من باب اختلاف العبارة، فالوسيلة: كل ما يتوصل ويتوسل به إلى مرضات الله، فيدخل فيه ألوان القرب من الأعمال الصالحة.
وأما المعنى الأخير -أي أنها منزلة في أعلى الجنة كما في حديث عبد الله بن عمرو وحديث جابر -رضي الله عن الجميع- فإن هذا ليس هو المراد قطعاً في قوله: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [(35) سورة المائدة]، فتكون الوسيلة بهذا الاعتبار من قبيل المشترك اللفظي الذي يحمل معانيَ متعددة، والمشترك في الأصل يمكن حمله على جميع معانيه إن لم يوجد مانع يمنع من ذلك، وهنا يوجد مانع يمنع من هذا قطعاً؛ لأن هذه الوسيلة -في المعنى الأخير في حديث الأذان- لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، فلا يمكن أن تكون مراد قوله: {وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [(35) سورة المائدة] أي اطلبوا هذه المنزلة التي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، والنبي ﷺ يقول: ((وأرجو أن أكون أنا هو))([3]) فمن طلب هذه المرتبة وقصدها بالوسيلة فهذا من قبيل الاعتداء في الدعاء؛ إذ لا يجوز له أن يطلب ما ليس له أو ما لا يمكن تحصيله شرعاً أو ما كان من الممتنع عقلاً كما يقال، فطلب الوسيلة طلب لممتنع شرعاً؛ لأن الله حكم بهذا.
وقوله: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [(35) سورة المائدة] لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم والتاركين للدين القويم ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول، في الغرف العالية الرفيعة الآمنة الحسنة مناظرها، الطيبة مساكنها، التي من سكنها ينعم لا يبأس، ويحيى لا يموت، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه.
قول: "لعل" من الله واجبة، وكذلك "عسى"؛ لأنها في أصل معناها في كلام العرب بمعنى الترجي، وهذا إنما يكون ممن يتوقع حصول الشيء لكنه لا علم له بما سيكون وهذا ممتنع عن الله؛ لأنه علام الغيوب، فقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [(35) سورة المائدة] أي: من أجل أن تفحلوا، فهي تُفسَّر بالتعليل، وعلى كل حال حتى لو فسرت بمعنى الترجي، فيقال: إن "لعل" من الله واجبة، فالجهاد في سبيل الله سبب أكيد محقق للفلاح إذا كان لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى-، والفلاح هو الظفر بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وقد يطلق على البقاء، ومنه قول الشاعر:
لو أن عبداً مدرك الفلاح
لناله ملاعب الرماح
فلو كانت الحياة توهب لأحد على سبيل الدوام لوهبت للمجاهد في سبيل الله، ولهذا قال خالد : "فلا نامت أعين الجبناء" وعلى كل حال فالمجاهدون يحصّلون أيضاً النعيم المقيم الذي لا ينقطع ولا يزول.
[1] - أخرجه البخاري في كتاب الأذان - باب الدعاء عند النداء (589) (ج 1 / ص 222).
[2] - أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبي ﷺ ثم يسأل الله له الوسيلة (384) (ج 1 / ص 288).
[3] - سبق تخريجه.