الأحد 13 / ذو القعدة / 1446 - 11 / مايو 2025
سَمَّٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّٰلُونَ لِلسُّحْتِ ۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ۖ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْـًٔا ۖ وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ [سورة المائدة:42] أي: الباطل، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [سورة المائدة:42] أي الحرام، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود ، وغير واحد، أي، ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه، وأنى يستجيب له؟!"

قوله: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: الحرام مطلقاً، ويدخل فيه الربا، كما قال الله : وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا [سورة النساء:161]، ويدخل فيه الرشى؛ لأنهم كانوا يأخذون ثمناً قليلاً يستعيضون به عن بيان الحق الذي أمرهم الله أن يبينوه.
والسحت: بعضهم يقول: أصله الهلاك، والشدة، تقول: سحته بمعنى استأصله، وأزاله، وبعضهم - كابن جرير رحمه الله -، وبعض أئمة اللغة من المتقدمين يقول: أصله من كلب الجوع، وذلك أن الإنسان إذا وصف بهذا كلب الجوع، فإنه يأكل في كل وقت، ولا يزال يجد الجوع، فلا يشبع، فمثل هؤلاء الذين يأكلون الرشى، والأموال المحرمة شبهوا بذلك، فهم لا يكتفون بالحلال بل كل ما وقع بأيديهم من مال استحلوه، وأخذوه لشدة جشعهم، وطمعهم، وتهالكهم على الدنيا، ومثل ذلك الإنسان الذي ابتلي بكلب الجوع فإنه يأكل في كل وقت، ولا يشبع، وهذا من حيث أصل المعنى - والله أعلم -.
"ثم قال لنبيه: فَإِن جَآءُوكَ [سورة المائدة:42] أي: يتحاكمون إليك، فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا [سورة المائدة:42] أي: فلا عليك أن لا تحكم بينهم؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يوافق أهواءهم.
قال ابن عباس - ا -، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسدي، وزيد بن أسلم، وعطاء الخرساني، والحسن، وغير واحد: هي منسوخة بقوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ [سورة المائدة:49]."

هذا قال به كثير، منهم من ذكر هنا، وغير هؤلاء الزهري، وعمر بن عبد العزيز، بل نسبه القرطبي إلى أكثر العلماء، مع أن كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - يرى أنها محكمة، وذلك أنه لم يدل دليل على النسخ، والتعارض بين الآيتين ليس من كل، وجه، فهو يقول: متى أمكن أن نجمع بين الآيات فهو مطلوب، يقول: ويمكن الجمع بينها باعتبار أن الله خيره أن يحكم، أو يترك فإن اختار أن يحكم فإنه مأمور أن يحكم بينهم بما أنزل الله.
"وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ [سورة المائدة:42] أي بالحق، والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل، إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [سورة المائدة:42]."

 

مرات الإستماع: 0

"أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42] أي: للحرام من الرشوة والربا، وشبه ذلك".

أصل مادة (سحت) تدل على الاستئصال، وسمي المال الحرام بذلك؛ لأنه لا بقاء له، ولا زال الناس يعبرون بمثل هذا في المكاسب، ويعبرون به حتى في الدعاء على غيرهم، بأن يسحته، أي يهلكه فلا يكون له بقاء، فأصل ذلك يقال للهلاك، ويقال أيضًا للشدة، وبعضهم يقول: سمي الحرام سحتًا؛ لأنه يسحت الطاعات، وعلى الأول أنه لا بقاء له، أي: المال الحرام.

وابن جرير - رحمه الله - يقول: بأن أصله: كلب الجوع[1].

والمقصود: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: للحرام من الرشوة، وهذا قاله ابن مسعود [2] ويدخل فيه أيضًا كما قال: "وشبه ذلك، مثل أكل الربا" وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:161] فكل هذه المكاسب المحرمة من الرشا، والربا، وأكل أموال الناس بأي وجه كان، بغير حق، هو من السحت، ومنه: القمار، والميسر، وأنواع ما يستجد من صور أكل أموال الناس بالباطل، فكلها داخلة في السحت.

"فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42] هذا تخيير للنبي ﷺ في أن يحكم بين اليهود، أو يتركهم، وهو أيضًا يتناول الحاكم، وقيل: إنه منسوخ بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]".

وهذا القول بأنه منسوخ بما بعده مروي عن ابن عباس - ا -  ومجاهد، وعكرمة، والزهري، والحسن، وقتادة، والسدي، وزيد بن أسلم، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء الخرساني، والحسن[3] وهو الصحيح من قول الشافعي[4] وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء[5] وهو أن النبي ﷺ كان مخيرًا، ثم أمره ربه - تبارك وتعالى - أن يحكم بينهم بما أنزل الله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة:49] لكن من أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - من يقول: بأن الآية محكمة، وليست منسوخة[6] ويكون المعنى: أنه مخير فإن حكم فيحكم بما أنزل الله، لكن أكثر أهل العلم على أنها منسوخة، وهذا توجيه لمن قال بأنها محكمة، ولا شك أن الآية إذا أمكن حملها على وجه يصح من غير دعوى النسخ إن لم يقم عليه دليل فهو المتعين؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال - والله أعلم -.

  1.  تفسير الطبري (10/324).
  2. البحر المحيط في التفسير (4/263).
  3.  زاد المسير في علم التفسير (1/550) والبحر المحيط في التفسير (4/264) وفتح القدير للشوكاني (2/49).
  4.  مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج (4/329) وانظر: وفتح القدير للشوكاني (2/49).
  5.  تفسير القرطبي (6/186).
  6.  تفسير الطبري (10/325).