في قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ كثير من المفسرين يقولون: النبيون الذين أسلموا، يعني أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة، ويحكم بها أيضاً الربانيون، والأحبار.
ومن أهل العلم من يقول - ومنهم ابن جرير رحمه الله -: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ يعني محمداً ﷺ، وكذلك من حكم بها من الأنبياء قبله، وليس المقصود أن النبي ﷺ متعبد بالحكم بالتوراة، وإنما فيما ورد أنه حكم فيها مثل قضية حكم الزاني، ومثل قضية الديات، وتفاوتها التي أشرت إليها في أول الكلام - وعلى كل حال - إذا كان هذا هو المراد فلا إشكال أن النبي ﷺ حكم عليهم بكتابهم، لكن المتبادر في هذا أن الله ذكر التوراة، وما فيها من المعاني، ويحكم بها النبيون، وكذلك الأحبار، والرهبان ممن كانت شريعتهم التوراة.
بعضهم يقول: إن الربانيين هم العلماء الحكماء، وبعضهم يقول: علماء فقهاء، فعلى هذا يكون الرباني أعلى من الحبر، وابن جرير له كلام معروف في قوله: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79]، وأيضاً في هذه الآية، ومحمود شاكر - رحمه الله - علق على تفسيره لقوله تعالى: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ [سورة آل عمران:79] تعليقا طويلاً جيداً يحسن مراجعته، فكلام ابن جرير واحد في الموضعين، في الربانيين - أعني هنا في المائدة، وهناك في آل عمران - فابن جرير يرى أن المقصود من الربانيين أنهم العلماء، الحكماء، البصراء، بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم، يعني أنه ليس مجرد فقيه، أو عالم، وإنما له بصر بأحوال الناس، وأمورهم، وسياستهم، وما أشبه ذلك، فهم يرجعون إليهم فيما نابهم من أمور دينهم، ودنياهم، فهذا هو الرباني، وأما الحبر فهو العالم، وليس كل عالم يكون ربانياً.
قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ [سورة المائدة:44] أي استودعوا من كتاب الله، وأمروا بحفظه، وقد بيّن الله أنهم ضيعوه في مواضع من كتابه كما في قوله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [سورة الأنعام:91]، وكذلك في قوله: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [سورة البقرة:79] يعني من الرشى، إلى غير ذلك من الآيات التي دلت على أنهم ضيعوا، ولم يقوموا بحفظ هذا الكتاب.
وقوله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء [سورة المائدة:44] من أهل العلم من يقول - كابن جرير رحمه الله -: أي شهداء على أن هذا مما قضى به الأنبياء، يعني أن الأنبياء يحكمون، وهؤلاء شهدوا ذلك، وعرفوه من أنبيائهم - عليهم الصلاة، والسلام -، وعرفوا أنهم كانوا يحكمون بكتاب الله.
سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات:
روى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - قال: "إن الله أنزل وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44] فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة:47] قال ابن عباس - ا -: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا، واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي ﷺ، فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله ﷺ، ويومئذ لم يظهر، ولم يوطئهما عليه، وهو في الصلح، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيَّين قط دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض، إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرقاً منكم، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله ﷺ بينهم، ثم ذكرت العزيزة فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا، وقهراً لهم، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه، إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله ﷺ ناساً من المنافقين ليخْبُروا لهم رأي رسول الله ﷺ فلما جاءوا رسول الله ﷺ أخبر الله رسوله ﷺ بأمرهم كله، وما أرادوا فأنزل الله تعالى يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [سورة المائدة:41] إلى قوله: الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة:47] ففيهم، والله أنزل، وإياهم عنى الله "، ورواه أبو داود بنحوه."
فهذه الرواية في سبب النزول صريحة في أن الآيات نازلة في هذا، وأكثر الروايات على أنها نزلت في قصة الزانيين، وإذا صحت الروايات، وكانت صريحة فإنه يقال بتعدد النزول إذا كان ذلك وقع في وقت متقارب، وإلا قيل بأن ذلك نزل أكثر مرة - نزل مرتين -، - والله تعالى أعلم -.
فهذا في أول مقدم النبي ﷺ، وقصة اليهوديين اللذين زنيا قد تكون في أول الأمر في وقت ليس ببعيد عن هذا - والعلم عند الله تبارك، وتعالى - .
وهذه الرواية حسنها الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -، وأما الروايات الأولى فبعضها في صحيح مسلم، والحاصل أنها روايات ثابتة صحيحة، وإن اختلفت في بعض التفصيلات.
هذه الرواية تشهد للرواية السابقة، فالرواية السابقة لا تخلو من ضعف، وهذه أيضاً لا تخلو من ضعف في إسنادها عند ابن جرير، ففيها سماك بن حرب، وفيها داود بن الحصين، وكلاهما يروي عن عكرمة، وروايته عن عكرمة ليست صحيحة، ولكن مجموع هذه الروايات يرتقي بهذه الرواية إلى درجة الحسن، ولهذا صححها بعض أهل العلم مثل الشيخ أحمد شاكر، والألباني، وأما إسنادها عند ابن جرير من حيث هو فهو ضعيف.
هذه طريقة جيدة في الجمع، وهذا من مزايا هذا التفسير - تفسير ابن كثير - أنه يوجه الروايات، ويجمع بينها، ويشير إلى بعض القضايا التي يبنى عليها التفسير، وهذا خير من أن تذكر الروايات، وتسرد، ثم يترك القارئ في حيرة.
ولهذا قال بعد ذلك: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [سورة المائدة:45] إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص - والله سبحانه، وتعالى أعلم -."
يمكن أن يكون هذا قرينة للقصاص، ويمكن أن لا يكون ذلك بلازم؛ لأن قصة اليهوديين اللذين زنيا تتعلق بالحدود، فذكر الحدود، والقصاص مما أقره الله ، أو ألزم به بني إسرائيل، ومن أهل العلم من يعمد في مثل هذه المواضع إلى الترجيح بين الروايات فيقول: نأخذ الروايات الأصح كالمخرجة في الصحيحين، أو في أحدهما، ونقدمها على الروايات الأخرى التي لا تخلو من ضعف لكنها تنجبر بمجموعها - بمجموع الطرق، أو الشواهد -، ونترك الرواية الأخرى، وهذه طريقة معروفة لبعض أهل العلم حيث لا يقولون بتكرر النزول، وإنما يعمدون إلى الترجيح، ومعلوم أن الجمع مطلوب ما أمكن، وأنه مقدم على الترجيح؛ لأن في الترجيح إهداراً لإحدى الروايتين.
وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي الله لهذا الأمة بها، رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: قوله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44] قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به، ولم يحكم به فهو ظالم فاسق، رواه ابن جرير."
هذا الآيات لا شك أنها نزلت في بني إسرائيل، والسياق يدل على هذا، وكون هذه الآيات نازلة في بني إسرائيل لا يعني أن هذا الحكم يختص بهم، وإنما العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن في قوله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم "من" هنا شرطية، وأسماء الشرط من صيغ العموم؛ ولذلك لما قيل لحذيفة : إن هذه الآية وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44] في بني إسرائيل، أو في اليهود، قال: نِعْمَ الإخوة لكم، ما كان من مُرَّة فهي لهم، وما كان من حلوة فهي لكم.
وعلى كل حال إذا كان ذلك واقعاً في حق بني إسرائيل فوقوعه في حق هذه الأمة من باب أولى؛ لأن الله أنزل عليهم كتاباً أعظم من الكتاب الذي أنزله على بني إسرائيل، ولا يوجد ما يدل إطلاقاً على الاختصاص ببني إسرائيل في هذا الحكم.
ومن أهل العلم - مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله - من يرى أن قوله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44] في هذه الأمة، ثم الظالمون في اليهود، ثم الفاسقون في النصارى.
ومهما يكن من أمر فإن الكفر، والظلم، والفسق كل ذلك يطلق بإزاء معنيين اثنين، الكفر الأكبر، والظلم الأكبر، والفسق الأكبر، وما يقابل ذلك من الكفر، والظلم، والفسق الأصغر، فالله يقول في الكفر الأكبر، وهو يخاطب المشركين: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [سورة الكافرون:1]، ويقول النبي ﷺ: اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت[1] وقال - عليه الصلاة، والسلام -: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر [2]، وقال في النساء: وتكفرن العشير[3]
وفي الظلم يقول الله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254] فهذا في الظلم الأكبر المخرج من الملة، ومثل ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82]، وفسره الله تعالى بآية لقمان، فقال سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13] فهذا كله في الظلم الأكبر، كما يطلق الظلم، ويراد به الأصغر، وهذا أمثلته كثيرة.
ومثل ذلك الفسق، فمنه الأكبر كما في قوله - تبارك، وتعالى -: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ [سورة السجدة:18] يعني الكافر، ويطلق على الفسق الأصغر، وهذا أمثلته أكثر من أن تحصر.
ولذلك فالمثال الذي يذكره الأصوليون كثيراً في مفهوم الموافقة الأولوي إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6] قالوا: يعني إن جاءكم كافر فينبغي التثبت من باب أولى، فهذا المثال غير صحيح؛ لأن الفسق يشمل هذا، وهذا.
والحاصل أن قوله: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44] فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [سورة المائدة:47] كل ذلك بمعنىً واحد، وهو الكفر، والظلم، والفسق الأكبر المخرج من الملة، والذي وقع من هؤلاء اليهود هو أنهم غيروا حكم الله ، وبدلوه حيث غيروا الحد من الرجم إلى التحميم، والجلد، ويطاف به على حمار منكوساً، فمثل هذا التصرف الذي وقع منهم هو من نوع التبديل، فمن بدل شرائع الإسلام فقد كفر سواء كان ذلك في قضية واحدة، أو في جميع القضايا، يعني لو أنه قال: بدلاً من قطع يد السارق نجعل عليه غرامة بقدر كذا، وكذا، أو يُحبس مدة كذا، وكذا، فكل من وقع منه ذلك فهو مبدل لشرائع الإسلام، وهذا التصرف كفر مخرج من الملة حتى، ولو حكم في جميع القضايا بالشرع.
وهناك فرق بين هذا، وبين الذي يغلبه الهوى في قضية من القضايا لرشوة، أو لمعرفة، أو لشفاعة، أو غير ذلك فلم يحكم بالشرع فهذا لا يخرج من الملة، إنما الذين يقولون بخروجه من الملة هم الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، والمعاصي - هذا مذهب الخوارج -، والخوارج يكفرون المسلمين حكاماً، ومحكومين إلا من، وافقهم، وقد كانوا يجادلون أبا مجلز في أئمة زمانهم، وأنهم كفار، فكان يرد عليهم بقوله: إن هذه الآية في أهل الكتاب من اليهود، فالذي كان يحصل في ذلك الوقت من القاضي، أو من الحاكم إنما هو غلبة هوى في قضية من القضايا فلا يطبق حكم الله في هذه القضية، لكن تبديل شرائع الإسلام هذا ما عرف في تلك القرون إطلاقاً، ولذلك قال ابن عباس : "كفر دون كفر.." مع أن بعض أهل العلم ضعف هذه الرواية عن ابن عباس، وقال: لا تثبت، لكن حتى لو ثبتت أصلاً فهذا ليس قول نبي، لكن لا ننسى القواعد، والأصول التي عندنا، وأما ابن عباس فخالفه صحابة، وخالفه تابعون، وخالفه جماعة من السلف - أجمعين -، وأقوال أهل العلم في هذه المسألة ليست قولاً واحداً، فبعضهم سرد فيها أكثر من خمسة أقوال، فلسنا ملزمين بقول ابن عباس، وأنه لا يجوز لأحد أن يتعداه، فقول ابن عباس ليس قول نبي، ولا قول معصوم، وقول الصحابي إذا خالفه غيره من الصحابة فليس بحجة، لا قول ابن عباس، ولا غير قول ابن عباس، وهذا شيء معروف، وهو من مبادئ العلم التي نتعلمها، ونعلمها للناس.
فالمقصود أن هذه المسألة قول ابن عباس فيها، أو غير ابن عباس ممن، وافقه من التابعين، أو من جاء بعدهم: "كفر دون كفر" هذا فيمن حكم في مسألة لغلبة هوى، لكن لو قيل لابن عباس: من يأتي، ويبدل شرائع الإسلام كلها، ويلغي الشريعة، ويضع القانون فهذا لا يقال فيه كفر دون كفر، وإلا لو كان هذا كفراً دون كفر فلن يوجد على، وجه الأرض كفر بالله فالمقصود أن هذا من أعظم الكفر، والله يقول: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [سورة التوبة:31] فهذا في قضية شرك الطاعة، والاتباع، ولذلك فالذين يدخلون في البرلمانات في الدول التي لا تحكم بما أنزل الله ، ويبدأ التصويت على قطع يد السارق، أو على الحجاب، أو غير ذلك، فهؤلاء بهذه الطريقة يحكِّمون أهواءهم؛ لأن هذا رأي الأغلبية، ولم يقر هذا بناء على أنه حكم الله المهيمن الذي يجب عليهم أن يخضعوا له، وإنما هو حكم الطاغوت حتى لو، وافق الشرع بكل تفصيلاته، وجزئياته، فينبغي أن نفرق في مثل هذه الأمور.
وعلى كل حال مسألة الحكم بغير ما أنزل الله يمكن أن يراجع فيها مثل كلام شيخ الإسلام، فأول قضية حصلت للمسلمين صار فيها مثل هذا، ناس يدّعون الإسلام، ويحكمون بغيره هم التتار حيث جاءوا بكتاب لفّقوه من الإسلام، ومن موروثاتهم الجاهلية، وأخذوا أشياء من التوراة، ومن غيرها، وجعلوه قانوناً ملفقاً سموه الياسق، فشيخ الإسلام ابن تيمية كفرهم، وتكلم عليهم الحافظ ابن كثير، وغيره، وشيخ الإسلام قال: لو رأيتموني في عسكرهم، وعلى رأسي المصحف فاقتلوني، وقد سئل شيخ الإسلام عنهم كيف يقاتلون، وهم يؤذنون؟ فقال: لو رأيتموني في عسكرهم، وعلى رأسي المصحف فاقتلوني، وقال: إن من جَمَزَ إلى عسكرهم من الجند، والقادة، والتجار فهو كافر مرتد، فالمسألة ليست سهلة.
وممن تكلم على هذه المسألة بكلام جيد أيضاً الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -، وكذلك أخوه محمود، وبينوا وجه كلام ابن عباس، والصورة الواقعة لتبديل شرائع الإسلام، ووضع القانون مكانه، فهذا يختلف تماماً عما كان يقع في زمن ابن عباس، أو زمن أبي مجلز، أو غير هؤلاء.
وتكلم على هذه المسألة أيضاً الشيخ محمد الأمين الشنقيطي بكلام جيد، ومفصل، والشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في كتابه تحكيم القوانين، وعلى كل حال الكتابات في هذا كثيرة.
وبناء عليه لا يقال: إنه يكفر إن استحل فهو حتى لو حكم بما أنزل الله، واستحل الحكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، فالإنسان الذي يستحل الحكم بغير ما أنزل الله لا ينفعه أن يحكم بما أنزل الله؛ لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة أن من جحد شيئاً من شرائع الإسلام فإنه يكفر، فلو جاء شخص، وقال: الصلاة ليست واجبة، وهو يصلي، فهذا حكمه كافر له قرنان، ويقال له: لا تنفعك صلاتك؛ لأنك جحدت معلوماً من الدين بالضرورة، وكذلك لو قال: الزنا حلال، والخمر حلال، والسرقة حلال لكن أنا لا أسرق، ولا أزني، ولا أشرب الخمر فهذا حكمه أنه كافر، فالذي يستحل تبديل شرائع الإسلام، ولو لم يبدلها يكون كافراً؛ لأن هذه المسألة لا تحتاج إلى أن يقال: يكفر إن فعل ذلك مستحلاً؛ أما مسألة ترك الصلاة فهي مسألة الخلاف فيها موجود، ومعروف بين أهل العلم من أهل السنة، لكن القول بقاعدة مطلقة عامة بأنه لا يكفر في شيء من الأعمال إلا بالاستحلال فهذا قول المرجئة فمن قال به فهو مرجئ، فالمقصود أن هناك فرقاً بين مسألة الصلاة إذا كان جاحداً لوجوبها، أو أنه تركها تكاسلاً فهذه مسألة اختلف فيها أهل السنة، لكن أن تجعلها قاعدة عامة فهذا غير صحيح.
وقد قلت لأحدهم: ماذا تقول في من يمسك المصحف، ويطؤه برجليه؟ فقال: ما يصدر منه هذا إلا أن يكون كافراً بالمصحف، فقلت له: وما هو الإيمان؟ قال: يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان أي، وإن كان قد ترك العمل بالكلية، قلت: وما هو الإيمان عندك؟ قال: الإقرار، قلت: والنطق باللسان؟ قال: يمكن أن يكون ممن لم يمتحنه أحد حتى ينطق بها، أي أنه مؤمن، وإن أفنى عمره كله، ولم يقل فيه: لا إله إلا الله - مع أن النووي، وغيره مثل سليمان بن محمد بن عبد الوهاب نقلوا الإجماع على أن من لم ينطق بالشهادتين فهو كافر، فكيف يقول: لم يأت أحد يمتحنه؟
المقصود أنه يرى أن من مات، ولم يسجد لله سجدة فهو مسلم، وكذا من مات، ولم ينطق بالشهادتين، قلت له: هل كلامك هذا بناء على الحديث الذي فيه أن الله يخرج من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط؟ قال: نعم، قلت له: وهل التصديق الانقيادي هذا، والإقرار عمل، أو ليس عملاً؟ قال: عمل، قلت: في قوله - عليه الصلاة، والسلام -: لم يعملوا خيراً قط[4] خيراً نكرة في سياق النفي، وهي للعموم فكيف استثنيت هذا؟ فغضب، وقال: لا تحفر لي حُفراً تطيحني فيها، وهكذا كان جوابه في النهاية، أي أنه ليس عنده جواب.
فالمقصود أن تقعيد قاعدة عامة بحيث يقال: كل العمل لو تركه المرء فإنه لا يكفر، أو يقال: مهما عمل الإنسان من أنواع الكفر على وجه الأرض بأن يسجد لصنم، أو يفعل أي شيء لا يكفر به إلا أن يكون مستحلاً هذا كله كلام غير صحيح، فمن الأعمال ما هو كفر مخرج من الملة، سواء استحله صاحبه، أم لم يستحله كالذي يسب الله مثلاً فذلك لا يحتاج إلى إقامة حجة، ونظر في صاحبه هل استحله أم لا؟ وعلى كل حال، فمثل هذه المسائل على ثلاثة أنواع ليس هنا موطن ذكرها - والله أعلم -.
وقال وكيع عن سعيد المكي عن طاوس: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44] قال: ليس بكفر ينقل عن الملة."
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب، والنياحة (67) (ج 1 / ص 82).
- أخرجه البخاري في كتاب الفتن - باب قول النبي ﷺ: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض (6665) (ج 6 / ص 2592)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان قول النبي صلى الله عليه، وسلم: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر (64) (ج 1 / ص 81).
- أخرجه البخاري في كتاب الحيض - ترك الحائض الصوم (298) (ج 1 / ص 116)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات، وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله ككفر النعمة، والحقوق (79) (ج 1 / ص 86).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب معرفة طريق الرؤية (183) (ج 1 / ص 167).