السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلْأَنفَ بِٱلْأَنفِ وَٱلْأُذُنَ بِٱلْأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِۦ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُۥ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] وهذا أيضاً مما وُبخت به اليهود، وقرعوا عليه فإن عندهم في نص التوراة: أن النفس بالنفس، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً، وعناداً، ويقيدون النضري من القرظي، ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد، والتحميم، والإشهار؛ ولهذا قال هناك: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [سورة المائدة:44]؛ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم، وعناداً، وعمداً، وقال هاهنا: فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل، والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا، وظلموا، وتعدوا على بعضهم بعضاً.
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ - رحمه الله - في كتابه "الشامل" إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي، وغيره أن رسول الله ﷺ كتب في كتاب عمرو بن حزم: أن الرجل يقتل بالمرأة[1]، وفي الحديث الآخر: المسلمون تتكافأ دماؤهم[2]، وهذا قول جمهور العلماء، ويؤيد ما قاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك كما روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن الرُّبَيع عمة أنس - ا - كسرت ثنيّة جارية فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا، فأتوا رسول الله ﷺ، فقال: القصاص فقال أخوها أنس بن النضر: يا رسول الله ﷺ تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله ﷺ: يا أنس كتاب الله القصاص قال: فقال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة، قال: فرضي القوم، فعفوا، وتركوا القصاص، فقال رسول الله ﷺ: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره  [أخرجاه في الصحيحين][3].
وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [سورة المائدة:45] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - قال: "تقتل النفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنزع السن بالسن، وتقتص الجراح بالجراح، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم، ونساؤهم إذا كان عمداً في النفس، وما دون النفس، ويستوي فيه العبيد رجالهم، ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس، وما دون النفس" [رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم].
قاعدة مهمة:
لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه فإن اقتص منه قبل الاندمال، ثم زاد جرحه فلا شيء له، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي ﷺ، فقال: أقدني، فقال: حتى تبرأ ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده فقال: يا رسول الله عرجت، فقال: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك[4] ثم نهى رسول الله ﷺ أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه، تفرد به أحمد." 

هذه الرواية من طريق ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعنه لكن لها شواهد، ولهذا صححها بعض أهل العلم مثل الشيخ أحمد شاكر، والألباني، وعلى كل حال الاقتصاص بالنسبة للجراح يراعي فيها هذا المعنى: حتى تبرأ، وتراعى فيها أمور أخرى، ومن ذلك أنه إنما يقتص من الجراح إذا كان يمكن أن تنضبط، ويعرف مدى عمق هذا الجرح، وعرضه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يضبط فيها، وأما الجراح التي يخشى حين القصاص من المعتدي فيها أن يأتي القصاص على نفسه، فإنه لا يقتص منه، ولهذا فإن الفقهاء - رحمهم الله - قسموا هذه الجراح إلى أنواع منها المأمومة، والجائفة، فالمقصود إنما يقتص إذا كان ذلك يمكن أن ينضبط، ولا يخشى أن يؤدي ذلك إلى التلف، فإن خشي ذلك فإنه لا مجال للقصاص، وإنما أرش الجناية.
" مسألة:
فلو اقتص المجني عليه من الجاني فمات من القصاص، فلا شيء عليه، وهو قول الجمهور من الصحابة، والتابعين، وغيرهم."

نعم هذا في الذي ينضبط، لكن لا يعمد ابتداء إلى الاقتصاص منه في شيء يمكن أن يؤدي إلى التلف، يعني لو أنه طعنه طعنة نافذة إلى صدره، لربما جرح قلبه فبرئ هل نقول الثاني نقتص منه بنفس الطريقة؟ لا، لأنه ربما يموت، وهكذا، لو أنه ضربه ضربة وصلت إلى داخل الدماغ، أي اخترقت القشرة، أو الجلدة الرقيقة التي تغطي الدماغ فهذا لا نقول يقتص منه؛ لأنه سيموت، فمثل هذه الجراح لا يمكن أن تنضبط بحيث تأتي في المرة الثانية مماثلة للأولى، ويسلم من الهلاك، لكن فيما يمكن أن ينضبط في مجاري العادات لو سرت الجراحة، فمات هذا الإنسان بأن يكون قد قطع أنف إنسان فاقتص منه بقطع أنفه، فسرت الجراحة فمات، بمعنى أن الجرح تطور، فتسمم الجسم فمات هذا الإنسان، فلا يقال: أنت قتلته فادفع الدية؛ لأن عمله مأذون فيه، وما ترتب عليه فإنه لا يُغرم.
"قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا - فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ [سورة المائدة:45]  يقول: فمن عفا، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب، وأجر للطالب.
وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - ا -: "فمن تصدق به فهو كفارة للجارح، وأجر المجروح على الله " [رواه ابن أبي حاتم].
وعن جابر بن عبد الله - ا - في قول الله : فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ [سورة المائدة:45] قال: للمجروح.
وروي عن الحسن البصري، وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه -، وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك.
وروى الإمام أحمد أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من رجل يجرح من جسده جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به[5]، ورواه النسائي، وابن جرير."
هذا الحديث
نص في تفسير الآية، يعني أن هذا من تفسير القرآن بالسنة، وكما ذكرنا في بعض المناسبات أن تفسير القرآن بالسنة على نوعين، نوع ذكر فيه النبي ﷺ الآية، فهذا إذا صح إسناده فلا كلام، ولا مدخل للاجتهاد فيه، والنوع الثاني: ما ذكره النبي ﷺ، ولم يتعرض للآية، فيأتي المفسر، ويجمع بين هذا، وهذا، فهذا اجتهاد من المفسر قد يصيب، وقد يخطئ، ومن ذلك ما يكون وجه الارتباط فيه بغاية الوضوح، ومنه ما يكون فيه بعد، فمثل هذا من أوضح الأمثلة على تفسير القرآن بالسنة، فهذه الجملة فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ [سورة المائدة:45] تحتمل المعنيين، تحتمل أن يكون كفارة للمتصدق - المجني عليه -، وتحتمل أن يكون كفارة للجاني باعتبار أن الحدود كفارات كما قال النبي ﷺ: ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له[6] فكذلك إذا أسقط صاحب الحق حقه هل يبقى لله حق في هذه القضية أم لا؟ لأن الحقوق - كما هو معلوم - منها ما يختص بالله مثل الصلاة، ومنها ما يكون مشتركاً بين الخالق، والمخلوق مثل الزكاة، وفي المعاصي، والذنوب مثل ما لو أنه انتهك عرض إنسان، أو قذفه، أو نحو ذلك، فهذا حق لله، وحق للمخلوق، ومنها ما يختص بالمخلوق على خلاف في الأمثلة، فالحاصل أن هذا الحديث: الحدود كفارات يؤيد أن ذلك يكون كفارة للمتصدق أي لمن وقعت عليه الجناية، ومما يؤيده أيضاً أن هاء الضمير في لَّهُ من قوله: فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ [سورة المائدة:45] إذا قلنا إنه يرجع إلى المتصدق الذي وقعت عليه الجناية، فقد رجع الضمير إلى مذكور، وإذا قلنا: إنه يرجع إلى الجاني، فيكون الضمير قد رجع إلى غير مذكور، ومن طرق الترجيح في التفسير - في ما يحتمل في الضمائر أن يعود إلى أكثر من موضع - أن نرجح من المعاني ما قيل فيه إن الضمير راجع إلى مذكور قبله، فهذا أولى من أن يقال: يرجع إلى غير مذكور، فالضمير - كما هو معلوم - أحياناً يرجع إلى غير مذكور مثل قوله تعالى: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [سورة ص:32] على القول المشهور بأنها الشمس، ومن قال بأنها الخيل فهو راجع إلى مذكور، فالمقصود أن مما يرجح أن الضمير في قوله: كَفَّارَةٌ لَّهُ راجع إلى المتصدِّق أن يقال: إنه راجع إلى مذكور.
ومن الأمور التي يمكن أن نرجح فيها ذلك أيضاً أن التكفير يكون بسبب الصدقة، فالمتصدق هو الذي ينال جزاءه، فتكون الصدقة مكفرة لذنوبه، فهذا هو المعروف، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، واختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، واختاره من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحم الله الجميع -.
"وقوله: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة المائدة:45] قد تقدم عن طاوس، وعطاء أنهما قالا: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق."
  1. أخرجه النسائي في كتاب القسامة - ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول، واختلاف الناقلين له (4853) (ج 8 / ص 57)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (2333).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد - باب فى السرية ترد على أهل العسكر (2753) (ج 3 / ص 34)، وابن ماجه في كتاب الديات - باب المسلمون تتكافأ دماؤهم (2683) (ج 2 / ص 895)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6712).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب قول الله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [سورة الأحزاب:23] (2651) (ج 3 / ص 1032)، ومسلم في كتاب القسامة، والمحاربين، والقصاص، والديات - باب إثبات القصاص في الأسنان، وما في معناها (1675)( (ج 3 / ص 1302).
  4. أخرجه أحمد (7034) (ج 2 / ص 217)، والدارقطني (24) (ج 3 / ص 88)، وصححه الألباني في الإرواء برقم (2237).
  5. أخرجه النسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (11146) (ج 6 / ص 335)، وأحمد (22753) (ج 5 / ص 316)، واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5712).
  6. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الممتحنة (4612) (ج 4 / ص 1857)، ومسلم في كتاب الحدود - باب الحدود كفارات لأهلها (1709) (ج 3 / ص 1333).

مرات الإستماع: 0

"وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة: 45] (كتبنا) بمعنى الكتابة في الألواح، أو بمعنى الفرض، والإلزام، والضمير في عَلَيْهِمْ لبني إسرائيل، وفي قوله: فِيهَا للتوراة".

الكتْب يأتي بمعنى الكتابة، ويأتي بمعنى الفرض، والإلزام شرعًا، كقوله - تبارك، وتعالى - هنا على هذا الاعتبار: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] وكقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] وكذلك أيضًا يأتي الكتْب بمعنى: قدّر، كقوله - تبارك، وتعالى - : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] فالكتب هنا: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أي في التوراة، يشمل المعنيين: أن ذلك مكتوب في التوراة، وأن هذا الحكم فرض لازم، فرضه الله - تبارك، وتعالى - عليهم، فلا يحتاج إلى ترجيح في المعنى.

سؤال: الكتابة في وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ شرعية يا شيخ؟

نعم كتابة شرعية، وليست قدرية، باعتبار أنها غير ملزمة، من حيث الوقوع.

"أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] أي: تقتل النفس إذا قتلت نفسًا، وهذا إخبار عما في التوراة، وهو حكم الله في شريعتنا بإجماع، إلا أن هذا اللفظ عام، وقد خصص العلماء منه أشياء، فقال مالك: "لا يُقتل مؤمن بكافر" للحديث الوارد في ذلك، ولا يُقتل حر بعبد؛ لقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [البقرة: 178] وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة". 

ذكر في الحاشية هنا حديث أبي جحيفة في الصحيح، لما سأل علي : هل خصكم رسول الله ﷺ بشيء؟ قال: لا، والذي خلق الحبة، وبرأ النسمة، إلا فهمًا يؤتيه الله رجلاً في كتابه، أو ما في هذه الصحيفة، وذكر ما في الصحيفة لما سأله قال: "العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلم بكافر"[1].

"وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وما بعده حكم القصاص في الأعضاء، والقراءة بنصب النون [وفي النسخة الخطية: والقراءة بنصب العين] وما بعده عطف على النفس، وقُرئ بالرفع، ولها ثلاثة أوجه:

أحدها: العطف على موضع النفس؛ لأن المعنى قلنا لهم: النفس بالنفس.

والثاني: العطف على الضمير الذي في الخبر، وهو بالنفس.

والثالث: أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء".

القراءة في قوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ سواء كان ما ذكره ابن جزي: بنصب النون، آخر الحرف من العين، أو كان ذلك بنصب العين، كل هذا سواء لا إشكال فيه، وهذه القراءة: (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) على قراءة الرفع: قرأ بها الكسائي، وقراءة الجمهور هي التي نقرأ بها: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ[2] فعلى قراءة النصب يكون معطوفًا على النفس، وهذا واضح، ولا إشكال فيه، وعلى قراءة الرفع: (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) فهذه ذكر لها ثلاثة أوجه، وهذه الأوجه التي ذكرها، ذكرها قبله أبو علي الفارسي[3].

الأول: العطف على موضع النفس، يقول: لأن المعنى: قلنا لهم: النفسَ بالنفس، هذا باعتبار أن قوله: (أن) يمكن أن يُستغنى عنه على وجه يصح معه الكلام، لو لم تذكر لكان الكلام هكذا: وكتبنا عليهم فيها تقول: النفس بالنفس مثلاً، فدخلت عليها (أن) فكانت منصوبة، فمحلها الرفع بهذا الاعتبار، وهذا ليس محل تسليم عند بعض أهل العلم.

والثاني: العطف على الضمير الذي في الخبر، وهو: بالنفس، التقدير: أن النفس بالنفس (هي) فهذا هو الضمير الذي يشير إليه، باعتبار أنه مرفوع (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) عطفًا عليه، وهذا اعترض عليه أيضًا بعض أهل العلم.

الثالث: أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء (وَالْعَيْنُ بِالْعَيْنِ) العين: مبتدأ، وبالعين خبره وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ انتهى، ثم يبدأ كلام جديد في الأعضاء وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ

"وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة: 45] بالنصب عطف على المنصوبات قبله".

على قراءة الرفع، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر[4] بخلاف قراءة الجمهور بالرفع على الأوجه الثلاثة.

"بالرفع على الأوجه الثلاثة التي في رفع العين، وهذا اللفظ عامّ يراد به الخصوص في الجراح التي لا يُخاف على النفس منها".

المقصود عموم الجروح، لكنه لا يكون القصاص في الجروح التي لا ينضبط القصاص فيها، والتي قد يتعدى، ويسري إلى النفس، ونحو ذلك، فمثل هذا لا يكون فيه القصاص، وأصل القصاص مقابلة الفعل بمثله، هذا أصل معناه.

فهو في أصله اللغوي: تتبع الشيء، والأثر، بكل استعمالاته يرجع إلى هذا الأصل، ومن هذا اشتق القصاص في الجراح؛ لأنه يفعل به مثل فعله بالأول، فكأنه اقتص أثره.

"فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] فيه تأويلان:

أحدهما: من تصدق من أصحاب الحق بالقصاص، وعفا عنه، فذلك كفارة له، يكفر الله ذنوبه لعفوه، وإسقاطه حقه".

قوله: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يعني صاحب الحق إذا تنازل، فهو كفارة لذنوبه هو، أي: للعافي، وهذا مروي عن جماعة من السلف: كابن مسعود، وجابر، وعبد الله بن عمرو، وهو رواية عن إبراهيم النخعي، وبه قال الحسن، وقتادة، والشعبي[5] وهو اختيار ابن جرير[6] ورجحه ابن العربي[7] والقرطبي[8] وشيخ الإسلام ابن تيمية[9] ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[10] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[11] وعزاه للجمهور، وابن العربي[12] وعزاه لأكثر الصحابة.

فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يعني صاحب الحق إذا تنازل عن حقه فهو كفارة له، باعتبار أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هنا هو المتصدق، فهذا قول أكثر أهل العلم.

"والثاني: من تصدّق، وعفا فهو كفارة للقاتل، والجارح [وفي النسخة الخطية: فهو كفارة للقاتل، أو الجارح] بعفو الله عنه، [وفي النسخة الخطية: يعفو الله عنه في ذلك] لأن صاحب الحق قد عفا عنه، والضمير في له على التأويل الأوَّل: يعود على (من) التي هي كناية عن المقتول، أو المجروح، أو الولي.

وعلى الثاني: يعود على القاتل، أو الجارح، وإن لم يجر له ذكر، ولكن سياق الكلام يقتضيه.

والأوَّل أرجح لعود الضمير على مذكور، وهو (من)، ومعناها واحد على التأويلين، والصدقة بمعنى العفو على التأويلين، إلا أن التأويل الأول بيان لأجر من عفا، وترغيب في العفو، والتأويل الثاني: بيان لسقوط الإثم عن القاتل، أو الجارح إذا عفي عنه".

ولا يخفى أن الصدقة تكفر ذنب المتصدق فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45].

وفي حديث عبادة مرفوعًا: ما من رجل يجرح من جسده جراحة، فيتصدق بها، إلا كفر الله عنه، مثل ما تصدق به[13] أخرجه الإمام أحمد، وصححه الشيخ أحمد شاكر[14] والشيخ ناصر الدين الألباني - رحمهم الله -[15].

فهذا الحديث أشبه ما يكون بتفسير الآية، وأن ذلك يرجع إلى المتصدق فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ [المائدة: 45] يعني تنازل عن حقه، فذلك يكون كفارة لهذا المتصدق.

والمعنى الآخر: أنه يكون كفارة للجاني، باعتبار أن صاحب الحق قد تنازل عنه، وقد روي ذلك عن ابن عباس - ا - من طريق ابن أبي طلحة: أنه كفارة للمطلوب، وأجر للطالب[16] يعني لصاحب الحق.

ومن المعاصرين من جمع بين المعنيين، فقال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] المراد: الجاني، والمجني عليه، وممن قال بذلك الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -.

فصاحب الحق إذا تنازل فإن ذلك يكون كفارة له، ويكون أيضًا كفارة للجاني؛ لأنه قد سقط الحق بإسقاط صاحبه له، بهذا الاعتبار.

لكن ظاهر الآية أن الضمير يرجع إلى مذكور قبله، ويكون معنى ذلك: أن صاحب الحق إذا تنازل عنه كان ذلك كفارة لصاحب الحق، المتنازل، والعافي، ويكون ترغيبًا بالعفو.

ومثل هذا من الجنايات: هل إذا تنازل صاحب الحق يسقط الإثم مطلقًا؟ فالحقوق - كما هو معلوم - منها ما يكون حقًا لله - تبارك، وتعالى - مثل الصلاة، والصيام، ونحو ذلك، ومنها ما يكون مشتركًا: فيه حق لله، وحق للعبد، مثل الزنا، لو أنه غصب امرأة، أو نحو ذلك إذا تنازلت: هل يسقط عليه الإثم؟ يبقى حق الله .

ومن الحقوق ما هو متمحض لله، ومنه ما هو متمحض للمخلوق، مثل لو أنه ضربه، أو شتمه، أو نحو ذلك، ثم تنازل، وعفا هذا الذي ظُلم، فيكون ذلك كفارة لصاحب الحق، ويكون أيضًا ذلك كفارة للجاني.

لكن إذا كان من الحقوق ما فيه شائبة حق لله، وحق للمخلوق، فهنا إذا سقط حق المخلوق، يبقى حق الله.

فإذا قتل عمدًا، فالله - تبارك تعالى - يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] هذا كله في حق هذا الجاني عقوبة من الله - تبارك، وتعالى - وهو غير حق المخلوق، فحق المخلوق هو القصاص، فإذا تنازل أولياء الدم فهل يسقط حق المخلوق في هذه الحال؟ العلماء يقولون في مثل هذا: إن هذا الإنسان الذي حصل التنازل من قبل ولي الدم، فالمقتول ذهبت نفسه، ولم ينتفع بشيء، حتى لو قبلوا الدية، ولو اقتص منه، هو لم ينتفع، ولم يتشف، وإنما حصل التشفي بالقصاص لأولياء الدم، وإذا أخذوا الدية فإنهم وحدهم من ينتفع بها، فهل يبقى له حق عند الله؟ بل هذا يأخذ من حسناته يوم القيامة؟ ويبقى حق الله فيما ذكر من الوعيد بالغضب، واللعن، والعذاب الأليم، فلا يسقط حق الله إذا تنازل عنه أولياء الدم، بل لو تنازل صاحب الحق نفسه قبل أن يموت، فيبقى حق الله .

وذكر السلف في القاتل كلامًا شديدًا، وذكرنا وجهه، ومحمله، في مناسبات سابقة، لكن من أهل العلم من يرى أن القاتل يخلد في النار، وأنه استثناء إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 116] قال: لأن الآية مصرحة بالخلود، لكن أجبنا عن ذلك.

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ذكر بأن من ابتلي بمثل هذا، ولو حصل عفو، أو قصاص، فإنه ينبغي أن يُكثر من الحسنات، والأعمال الصالحة؛ لأن ذاك المجني عليه قد ينتثل حسناته، فيأخذ منها حتى يرضى.

وبعض أهل العلم يقول: إذا تاب، وصاحب الحق تنازل، أو اُقتص من هذا، صحت توبته، فإن الله - تبارك، وتعالى - قد يرضي المجني عليه يوم القيامة بما شاء، من رفع درجات، وتكفير السيئات، حتى يرضى.

فالمقصود: أن الحقوق ليست ذات حكم واحد، وإنما ما كان متمحضًا للمخلوق إذا عفا سقط، وما كان متمحضًا لله فالتوبة، وهو تحت المشيئة.

يبقى ما كان فيه شائبة من هذا، وهذا، فإذا عفا المخلوق بقي حق الخالق، وعفو المخلوق في بعض الصور كما ذكرنا مثل القتل، إذا تنازل أولياء الدم، فماذا استفاد المجني عليه؟ فبعضهم يقول: حتى لو تنازل أولياء الدم يبقى حقه في الآخرة، وهذا له وجه.

ولكن يقال في الجملة: بأن هذا الجاني ينبغي أن يقدم نفسه ليُقتص منه، أو تُقبل الدية، أو يُعفى عنه، هذا بالنسبة ما يمكن أداؤه للمخلوق، ويبقى حق الله فعليه أن يتوب توبة نصوحة، ويكثر من الحسنات؛ لأن النبي ﷺ ذكر أن كل ذنب يرجو أن يعفو الله عنه إلا القتل.

وفيما يتعلق بالجراح، ونحو ذلك، هذا يمكن أن يقال: بأنه إذا عفا صاحب الحق سقطت المؤاخذة، وأما ما فيه حد مما يتعلق بحدود الله فقد صح عن النبي ﷺ أن ذلك يكون كفارة للجاني إذا أقيم عليه الحد.

فيبقى حد الحرابة - كما سبق - إذا أقيم عليه هذا؛ لأن الله توعده بالعذاب الأخروي مع هذه العقوبة في الدنيا إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] هذا إذا لم يتب، فإذا تاب صحت توبته.

وأيضًا فيما يتعلق بمسائل القصاص، وحقوق العباد، حتى في الحرابة أن الحقوق الخاصة للمخلوقين لا تسقط، ومضى الخلاف في هذا، وفي الجنايات عمومًا: القصاص، فما دون النفس: الذي يظهر أنه يسقط بإسقاط صاحب الحق فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] وظاهر الآية العموم.

لكن إذا قلنا على قول الجمهور: بأن ذلك يرجع إلى صاحب الحق فيبقى الجاني بمنأى عن هذا، فيبقى حق الله  وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء: 93]

س: ...

ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] هؤلاء كانوا كافرين، والإسلام يجُب ما قبله.

س: القائلون بأن القاتل يخلد قولهم هذا أليس فيه شبه من قول الخوارج؟

ليس كذلك؛ لأنهم لا يعممون الكبائر، أو المعاصي، الخوارج يعممون هذا، لكن هؤلاء يخصونه بما جاء فيه الدليل خاصة؛ لأن الله صرح بأنه خالد في النار؛ بهذا الاعتبار، لهذه المسألة بخصوصها فقط، لتصريح الشارع بذلك، لكن الجواب عن هذا سبق في بعض المناسبات، ولكن نصوص الوعيد هذه كما ذكرت في أيضًا مناسبات أخرى: أن بعض أهل العلم كالإمام أحمد - رحمه الله - وجماعة من السلف قبله: يرون أن لا يُتعرض لها بتأويلات؛ لئلا يذهب وقعها، وما سيقت له من الزجر[17] فتُحمل على محامل تخف على النفوس، لكن حينما يحتاج إلى هذا؛ لئلا يسلك الناس مسالك منحرفة في فهم النصوص، فعند ذلك يحتاج هذا إلى بيان، فإذا كان هذا قد يُؤدي إلى فهوم فاسدة من قول الخوارج مثلاً، فهنا يحتاج إلى بيان؛ دفعًا لهذا الانحراف في الفهم - والله أعلم -. 

  1.  أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم برقم: (111).
  2.  السبعة في القراءات (ص: 244)، ومعاني القراءات للأزهري (1/330).
  3. الحجة للقراء السبعة (3/223).
  4.  السبعة في القراءات (ص: 244)، ومعاني القراءات للأزهري (1/330).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/124).
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/369).
  7.  أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (2/136).
  8.  تفسير القرطبي (6/208).
  9. كتب، ورسائل، وفتاوى ابن تيمية في الفقه (30/362).
  10.  التحرير، والتنوير (6/216).
  11.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/408).
  12.  أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (2/136).
  13.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (22701)، وقال محققو المسند: "صحيح بشواهده".
  14.  عمدة التفسير (1/688).
  15. صحيح الترغيب، والترهيب (2/640)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (5/343).
  16.  تفسير ابن أبي حاتم - محققا (4/1145).
  17.  جاء في السنة لأبي بكر بن الخلال (3/579): عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد عن قول النبي ﷺ. : من غشنا فليس مناومن حمل السلاح علينا فليس منا؟ قال: "على التأكيد، والتشديد، ولا أكفر أحدًا إلا بترك الصلاة".