الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَىٰكُمْ ۖ فَٱسْتَبِقُوا۟ ٱلْخَيْرَٰتِ ۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ۝ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ۝ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة المائدة:48-50].
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها، وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل، ومدحه، وأمر أهله بإقامته، واتباع ما فيه - كما تقدم بيانه - شرع في ذكر القرآن العظيم الذين أنزله على عبده، ورسوله الكريم ﷺ فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [سورة المائدة:48] أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [سورة المائدة:48]."

ويمكن أن يكون المراد وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: إنزالاً متلبساً بالحق.
"مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [سورة المائدة:48] أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره، ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده، ورسوله محمد ﷺ،  فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [سورة الإسراء:107-108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد لَمَفْعُولاً أي: لكائناً لا محالة، ولا بد.
"قوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] قال سفيان الثوري، وغيره عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : أي مؤتمناً عليه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: المهيمن: الأمين، قال: "القرآن أمين على كل كتاب قبله"، ورواه عن عكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخرساني، والسدي، وابن زيد نحو ذلك.
"وهكذا قول من قال: إن المهيمن هو الرقيب، أو قول من قال: إنه الغالب المرتفع، أو الحافظ، وعلى كل حال فالمقصود واحد بهذه العبارات - والله تعالى أعلم -، ويكون المعنى أن هذا القرآن جعله الله شاهداً لصحة تلك الكتب، ومقرِّراً لما فيها مما لم ينسخ، وناسخ لما خالفها، ورقيب عليها، وحافظ لما فيها من أصول الشرائع، فهو المرجع في المحكم، والمنسوخ، ومؤتمن عليها لكونه يشتمل على ما هو معمول به، وما هو متروك منها، وما أشبه ذلك، فهذه المعاني التي ذكروها هي من قبيل اختلاف التنوع، فإذا قيل: فلان أمين المكتبة، أو أمين المؤسسة أو أمين الجمعية، أو أمين المجلس، أو هذه أمانة هذه الجهة، فمعنى ذلك أن هذه هي الجهة الإشرافية التي يرجع إليها النظر، والقرار، وما أشبه ذلك من المعاني، هذا هو معنى الأمين، فقوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] يعني هو الأمين، فمن طريق هذا القرآن نعرف الثابت من المنسوخ، والحق من الباطل، وما أشبه ذلك من المعاني، وبناء عليه لا نحتاج أن نرجح بين قول من قال: المهيمن هو الأمين أو المؤتمن أو من قال: هو الشاهد أو الرقيب أو العالي، أو نحو ذلك، فكل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد.
"وقال ابن جرير: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منها فهو حق، وما خالفه منها فهو باطل."

وهذا يرجع للكلام الذي ذكرته آنفاً، وابن جرير له عبارات أخرى غير هذه العبارة، كقوله: إنه مصدق للكتب قبله، وشهيد عليها أنها حق من عند الله ، وأمين عليها، وحافظ لها، وذكر أن أصل الهيمنة هي الحفظ، والارتقاب، أي أن القرآن رقيبٌ على هذه الكتب، فابن جرير - رحمه الله - يجمع هذه المعاني المنقولة عن السلف ، وأرضاهم.
"وعن الوالبي عن ابن عباس - ا: وَمُهَيْمِنًا [سورة المائدة:48] أي شهيداً، وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وقال العوفي عن ابن عباس - ا -: وَمُهَيْمِنًا أي: حاكماً على ما قبله من الكتب.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى؛ فإنّ اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذين أنزله آخر الكتب، وخاتمها، أشملها، وأعظمها، وأكلمها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9].
وقوله تعالى: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ [سورة المائدة:48] أي: فاحكم يا محمد بين الناس - عربهم، وعجمهم أميِّهم، وكتابيهم - بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء، ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: كان النبي ﷺ مخيراً إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] فأُمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:48] أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48] روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا -: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً قال: سبيلاً، وعنه: سبيلاً، وسنة."

قوله: "سبيلاً، وسنة" الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فسر هذه الجملة مما ورد عن ابن عباس - ا - فقال: السبيل هو المنهاج، والسنة هي الشرعة، أو الشريعة التي تفصِّل هذا المنهاج، أي أن الشريعة هي تفاصيل المنهاج، والشرعة في أصلها هي الطريق الذي يتوصل به أو منه إلى الماء كما قال بعضهم، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده، والمنهاج أيضاً هو الطريق الواضحة البينة، وبعضهم يقول: الشرعة هي ابتداء الطريق، والمنهاج هو الطريق المستمر.
ويقول كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: إن الشرعة هي ما شرعت فيه، وقيل لها ذلك لشروع أهلها فيها بالعمل، والتطبيق، والامتثال، وما أشبه ذلك.
على كل حال قال هنا: سبيلاً، وسنة، بمعنى أنه جعل لهم طريقاً - هذا هو المنهاج، وهو السبيل -، وسنة أي: تشرح هذا السبيل، وتوضح معالمه، وتفاصيله - وهذه هي الشريعة التي يوجد فيها الأحكام، والتشريعات -.
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48] أي: لكل أمة من هذه الأمم جعل الله شرعة، ومنهاجاً، وهذا المعنى خلافاً لقول من قال: إن معنى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً أي شرعة واحدة هي الإسلام، واتباع الرسول ﷺ،  فهذا المعنى بعيد؛ لأن الله قال بعده: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المائدة:48] فدل ذلك على أن المراد اختلاف شرائع الأنبياء عليهم الصلاة، والسلام.
"وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المائدة:48]، وهذا خطاب لجميع الأمم، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة، التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد، وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حده، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده، ورسوله محمداً ﷺ الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة، وجعله خاتم الأنبياء كلهم، ولهذا قال تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] أي: أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته، ومعصيته بما فعلوه، أو عزموا عليه من ذلك كله، وقال عبد الله بن كثير: فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] يعني من الكتاب."

بعض أهل العلم قال: إن هذا التعليل وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] يدل على أن تعدد الشرائع إنما هو ليبلوَ الله فيما أعطى - هؤلاء الذين بعث إليهم الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، وأنزل عليهم هذه الشرائع هل يعملون، ويمتثلون أم يخرجون عنها؟، وقالوا أيضاً –أي بعض أهل العلم -: إن ذلك لا يرجع إلى اختلاف المصالح من وقت إلى وقت، وهذا القول فيه نظر؛ لأن الشيء قد يعلل بعلل مختلفة، فهنا قال: لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48]، وهذا لا ينافي أن تكون الشريعة قد جعلها الله ملائمة لأمة أو لوقت من الأوقات، ثم نسخها بشريعة أخرى تلائم في وقت آخر، فالتعليل لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] لا يعني أن العلة قاصرة على هذا فقط، فالشيء الواحد قد يعلل بعلل مختلفة، قد يذكر بعضها، وقد يترك البعض الآخر، فحينما يقال مثلاً: إن العلة في الوضوء هي الطهارة، أو العلة هي الحدث، فهذا يدل على أن هناك عدة علل للشيء الواحد، أو للفعل الواحد، كما تقول العلة من أداء الزكاة التقرب إلى الله ، أو تقول: الإرفاق بالمحتاجين، لكن هناك علل أخرى أيضاً لا تتنافى مع هذه العلل، وهكذا توجد لذلك صور كثيرة - والله أعلم -.
"ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة إليها فقال: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [سورة المائدة:48]، وهي طاعة الله، واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله.
 ثم قال تعالى: إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ [سورة المائدة:48] أي معادكم أيها الناس، ومصيركم إليه يوم القيامة، فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة المائدة:48] أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل، ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة، وقال الضحاك: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [سورة المائدة:48] يعني أمة محمد ﷺ، والأول أظهر."

مرات الإستماع: 0

"وَمُهَيْمِنًا [المائدة: 48] ابن عباس: شاهدًا[1] وقيل: مؤتمنًا".

المهيمن، قال ابن عباس: شاهدًا، وهذا قال به آخرون كمجاهد، وقتادة، والسدي[2] وقيل: مؤتمنًا، وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس - ا -[3].

ولفظه: المهيمن الأمين[4] وهو المعنى الذي ذكره ابن جزي، يعني أنه أمين على هذه الكتب، وعند ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة: قال: القرآن أمين على كل كتاب قبله[5] وجاء نحو هذا المعنى، يعني من كونه أمينًا: عن جماعة من السلف: كعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخرساني، والسدي، وابن زيد[6] ولا منافاة بين المعنيين، يعني الرواية الأولى عن ابن عباس، ومن وافقه: أنه بمعنى شاهد، والثاني: أنه بمعنى مؤتمن، فلا منافاة بين هذه المعاني، وهكذا قول من قال: بأن المهيمن يعني الرقيب، أو قال: الغالب المرتفع، وكذلك من قال: الحافظ، ومن فسره بأنه شاهد لصحتها، فكل هذا صحيح، فهؤلاء فسروه ببعض معناه، فكلمة (المهيمن) أعم، وأوسع، وأشمل من ذلك كله، والسلف قد يفسرون ببعض المعنى، ولا يقصدون خصوصه، فيقال: كل هذه المعاني فهو شاهد بصحتها، مقرر لما فيها مما لم ينسخ، وناسخ لما خالفه فيها، وهو رقيب أيضًا عليها، حافظ لها، وحافظ لما فيها من أصول الشرائع، والعقائد، ونحو ذلك، وهو غالب لها لكونه المرجع في المُحكم منها، والمنسوخ، ومؤتمن عليها؛ لكونه قد اشتمل على ما هو معمول بالقرآن من هذه الكتب "التشريع الذي لم ينسخ" وهو المحكم، وأما المنسوخ فإنه يُبين ذلك، فهذا كله داخل في معنى (المهيمن).

فعبارات السلف: فهو شاهد، ورقيب، ومؤتمن، وأمين، وحاكم، مشتمل على ما اشتملت عليه، وزيادة، مع نسخه لبعض ما جاء فيها، فهو حاكم عليها، فما شهد له منها بالصدق قُبل، وإلا فهو مردود.

وابن جرير - رحمه الله - يفسر هذا: بأنه مصدق للكتب قبله، وأنه شهيد عليها أنها حق من عند الله، أمين عليها، حافظ لها، وذكر أن أصل الهيمنة: الحفظ، والارتقاب.

وابن جرير - رحمه الله - جمع جملة من هذه المعاني، وكل هذه المعاني صحيحة؛ لا تحتاج إلى ترجيح، وهذا الذي يسمونه اختلاف التنوع، أن يُعبر كل واحد من المفسرين عبارة تدل على معنى في المسمى.

فكلمة (الهيمنة) فمن اسم من أسماء الله (المهيمن) فهذا - والله أعلم - لا تفي بها عبارة، واحدة في تفسيرها، وما يُذكر من مثل هذا، فإنما هو جزء من معناه، ولذلك تجد كلام أهل العلم - كما سبق - في الأسماء الحسنى في تفسير (المهيمن) عبارات متفرقة، ومتعددة، كما سمعتم هنا في وصف القرآن.

والواقع: أن مجموع هذه العبارات هي التي يفسر به المهيمن، وما رأيتُ عبارة في تفسير أسماء الله تفي وحدها ببيان مجموع معناه، يعني تمام المعنى، وإنما يُؤخذ ذلك من عباراتهم المتعددة، وهؤلاء أهل اللغة، والسلف من الصحابة، فما يذكرونه من المعاني هي معاني صحيحة، إذا صح ذلك عنهم، فهي معتبرة، فتكون جميعًا مما يدخل في معناه.

"عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 48] تضمن الكلام معنى: لا تنحرف - أو لا تنصرف - ولذلك تعدى بــ(عن)".

وسبق في بعض المناسبات ذكر التضمين، وأنه مذهب البصريين من النحاة، وأنه أبلغ من مذهب الكوفيين؛ لأنهم يقولون بتضمين الحروف، وتضمين الحرف معنى الحرف لا يضيف معنى جديدًا، لكن تضمين الفعل، وما في معناه: أبلغ، يقول: "تضمن الكلام معنى: لا تنصرف" عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.

فقوله: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ نهي عن اتباع أهوائهم، مضمن: لا تنصرف؛ لأن وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ لا يتعدى بــ(عن)، وإنما مضمن معنى، لا تنصرف عن كذا عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ فيكون ذلك قد اشتمل على معنى أوفى، وهو المصرح به، من قوله: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ نهي عن اتباع الأهواء، إضافة إلى المعنى الجديد، وهو عدم الانصراف عن الحق، فيكون المعنى هنا أوفى، كما ذكرنا في أمثلة منها: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] فقلنا: إن الشرب لا يكون معدى بالباء، وإنما بــ(في) لأن العين ليست بإناء يشرب به، وإنما يشرب منه، فالكوفيون يقولون: عينًا يشرب منها، فالباء هنا بمعنى (من).

والبصريون يقولون: إن الفعل يشرب مضمن معنى (يرتوي) لأنه يتعدى بالباء، يرتوي بها، أو (يلتذ بها) فصار هنا عندنا الشرب ينضاف إليه الارتواء، والالتذاذ، فهذا أبلغ في المعنى - والله أعلم -.

"لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] قال ابن عباس: سبيلاً، وسنة[7] والخطاب للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - أو الأمم، والمعنى: أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وذلك في الأحكام، والفروع.

وأما الاعتقاد: فالدين فيها واحد لجميع العالم، وهو الإيمان بالله، وتوحيده، وتصديق رسله، والإيمان بالدار الآخرة".

قوله - تبارك، وتعالى - : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا الشرعة، والمنهاج في غاية التقارب في المعنى؛ ولهذا فإن بعض من يقول بوجود الترادف في القرآن يقول: الشرعة، والمنهاج واحد، وأن ذلك من باب التوكيد، وهذا بخلاف القاعدة المعروفة، وهي أن التأسيس مقدم على التوكيد، يعني إذا دار الكلام بين التأسيس، والتوكيد، فالأصل: التأسيس، باعتبار أن التأسيس يضيف معنىً جديدًا غير الأول، وهذا هو الأصل، ويحصل معه التوكيد.

فهنا الشرعة: من فرَّق بينهما اختلفت عباراتهم في ذلك، وبعضهم يذكر في هذا ما يذكره الآخر باللفظة الأخرى، والعكس، فالشرعة فُسرت بالسنة، والطريقة الظاهرة، والمنهاج: يقولون: هو الطريق المستمر، الواضح، وهذا تفريق قريب - والله تعالى أعلم -.

فالشرعة: تدل على ظهور، فهي سنة، وطريقة ظاهرة، والمنهاج: طريق مستمر واضح، يقول: "قال ابن عباس: سبيلاً، وسنة" يعني الشرعة: هي السبيل، والمنهاج: السنة، فهذا غير المعنى الأول الذي ذكرته.

والحافظ ابن القيم - رحمه الله - فسَّر ذلك: بأن السبيل هو المنهاج شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا يعني عكس ما قاله ابن عباس فيما يظهر، فهو يقول: السبيل هو المنهاج، والسنة هي الشرعة، وهي تفاصيل للسنة، والمنهاج[8].

وقال بعضهم: بأن الشرعة في الأصل هي الطريقة الظاهرة، التي يُتوصل بها إلى الماء في أصلها في اللغة، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده، فهذه الشرعة، والتشريع.

والمنهاج: الطريقة الواضحة البينة، وبعضهم يقول: الشرعة هي ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر.

وذكر أبو جعفر بن جرير - رحمه الله - : أن ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة[9] فالشريعة قيل لها ذلك لشروع أهلها فيها، والمنهاج: الطريق الواضح.

فعلى قول ابن جرير: أن الشريعة من الشروع شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا شروع المكلفين، والمنهاج: هو الطريق الذي يسلكونه في هذه الشريعة، وكأن المقصود - والله تعالى أعلم - من قال: بأنها سنة، وطريقة، أو الطريق المسلوك، أو الأحكام العملية، وتفاصيل الشريعة، ونحو ذلك: فهذا كله كأنه يرجع إلى شيء واحد - والله أعلم - فالمعنى في غاية التقارب.

ومجموع ذلك: الشرعة، والمنهاج يدخل فيه أحكام الشريعة التي تختص بكل أمة، وما رسم الله لهم من الطريق الذي أمرهم بسلوكه - والله تعالى أعلم -.

فهذه من المواضع التي تُذكر فيها ألفاظ في غاية التقارب، وقد يصعب التفريق بينها، وذكرنا أمثلة لذلك في بعض المناسبات، مثل: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور: 22] فالعفو، والصفح هناك فروق دقيقة بينها، فهي ترجع إلى أصل واحد، كما ذكرت في المترادفات - إن، وجدت في القرآن - وشيخ الإسلام يقول: بأنه في اللغة قليل.

وذكرت: أن أبا هلال العسكري - رحمه الله - في كتابه (الفروق اللغوية) كان يتبنى مذهبًا، وهو أنه لا يوجد ترادف أصلاً في اللغة، ومن ثم يتكلف كثيرًا في بعض المواضع في إيجاد الفروق، وكتابه مفيد، ونافع، لكن في بعض المواضع يصعب التفريق، وذكرتُ في هذا الباب أن المعنى الأصلي قد يتفق، ولكن تختلف فيما بينها في المعاني التكميلية، المعاني الخادمة، المعاني الثانوية، هذه تختلف فيما بينها.

ومن الأمثلة لذلك أيضًا من القرآن: الرأفة، والرحمة وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد: 27] فلا شك أن المعنى الأصلي: الرحمة، ولكن الرأفة: رحمة رقيقة، أخص من مطلق الرحمة.

الخوف، والخشية: والفرق بينها أن الخشية أخص من مطلق الخوف، فالخشية: خوف مع علم بالمخوف منه، فحينما تقول: هذا الصبي خائف، فلا يدري مما يخاف، فهذا لا يقال له: خشية، الخشية لا تُقال إلا فيما يُعلم، يكون معه العلم بالمخوف منه، فيقال لها: خشية، أخشى الله.

وكذلك القسط، والعدل، وأيضًا الشك، والريب: يقولون الريب: شك مع قلق، وأيضًا المغفرة، وتكفير الذنوب، المغفرة: ستر مع وقاية، وتكفير الذنوب، أصل الكفر بمعنى الستر، والتغطية.

والبغي، والعدوان، والإثم، والبغي، الإثم هو الذنب، ونتيجة الذنب، والمؤاخذة، والإثم، والعدوان فيه تعدي، فالعدوان: فيه نوع من الآثام، يكون فيه تعدي، الإثم، والعدوان، لكن البر، والتقوى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] ما الفرق بين البر، والتقوى؟ يصعب التفريق، لكن من أهل العلم من قال: بأن البر هو ما يكون من طاعة الله ومحابه، ومراضيه.

والتقوى: إذا اجتمعا البر، والتقوى - كما يقول ابن القيم - فتكون التقوى: بمعنى توقي الآثام، والمحذورات، والمحرمات بخصوصها، والبر: العمل الطيب، الصالح الذي يحبه الله وإذا ذُكر البر دخلت فيه التقوى، وإذا ذكرت التقوى دخل فيها معنى البر، فهما مما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا في المعنى.

وكتب أحد طلبة العلم رسالة - أظنها ماجستير - في الألفاظ المتقاربة في الآية الواحدة، وبذل فيها جهدًا طيبًا، وجمع كلام أهل العلم، بصرف النظر عن النتائج الذي توصل إليها في كل موضع، لكن الرسالة مفيدة، وطُبعت أيضًا مجموعة كتب، منها رسالة للعنزي، حول هذه المعنى، كأنها بعنوان: الألفاظ المتقاربة، أو المتشابهة في الآية الواحدة، وهي في مجلد، أظنها في جامعة الملك سعود.

يقول: "والخطاب للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - " يعني في قوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48] "أو الأمم" القول بأن الخطاب في لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً للأمم، هو اختيار الحافظ ابن كثير[10] وجاء عن الضحاك: أنها أمة محمد ﷺ[11] يقول: "والمعنى: أن الله جعل لكل أمة شريعة يتبعونها، وقد استدل بها من قال: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا" والخلاف بين الأصوليين في هذه المسألة، معروف، ومن قال: بأنه شرع لنا، قيده: ما لم يُنسخ.يقول: "وذلك في الأحكام، والفروع، أما الاعتقاد فالدين فيها واحد، هو الإيمان بالله..." إلى آخره.

 

"فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة: 48] استدل به قوم على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وهذا متفق عليه في العبادات كلها، إلا الصلاة ففيها خلاف، فمذهب الشافعي: أن تقديمها في أوَّل وقتها أفضل[12] وعكس أبو حنيفة[13] وفي مذهب مالك خلاف، وتفصيل[14] واتفقوا على أن تقديم المغرب أفضل".

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة: 48] قال ابن كثير: وهي طاعة الله، واتباع شرعه، الذي جعله ناسخًا لما قبله، والتصديق بكتابه[15].

والاستدلال بها على تقديم الواجبات ذلك أفضل، فهذا صحيح من حيث الأصل، إلا ما ورد الدليل بأفضلية تأخيره، مثل الإبراد في شدة الحر بصلاة الظهر، فهذا أفضل، وكذلك تأخير صلاة العشاء؛ لأن النبي ﷺ لما أخرها قال: أنه لوقتها[16] ولكنه خشي أن يشق على أمته - عليه الصلاة، والسلام - فتأخير العشاء أفضل، وتأخير الظهر في شدة الحر أفضل، وما عدا ذلك فكما صح عن النبي ﷺ بأن أفضل العمل الصلاة لوقتها[17] وفي رواية: لأول وقتها[18] فهذا أفضل.

وذكر بعض أهل العلم هذا في قوله - تبارك، وتعالى - عن موسى - عليه الصلاة، والسلام - : وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: 84] قالوا: المبادرة، والمسارعة أفضل - والله أعلم -.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/128) بلفظ: شهيدًا.
  2.  المصدر السابق.
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/378).
  4.  المصدر السابق (10/379).
  5.  المصدر السابق.
  6.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/17).
  7.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/388).
  8.  شفاء العليل في مسائل القضاء، والقدر، والحكمة، والتعليل (ص: 81).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/384).
  10.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/129).
  11.  زاد المسير في علم التفسير (1/555).
  12.  تحفة المحتاج في شرح المنهاج، وحواشي الشرواني، والعبادي (1/430).
  13. الغرة المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة (ص: 27).
  14.  في بداية المجتهد، ونهاية المقتصد (1/101): وأما وقتها المرغب فيه، والمختار، فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت، ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلا في مساجد الجماعات، وقال الشافعي: أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر، وروي مثل ذلك عن مالك، وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد، والجماعة، وفي الحر، والبرد.
  15.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/130).
  16.  أخرجه مسلم في كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب، وقت العشاء، وتأخيرها برقم: (638).
  17.  أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب، وسمى النبي ﷺ الصلاة عملاً، وقال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب برقم: (7534)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال برقم: (85).
  18.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الوقت الأول من الفضل، برقم: (170)، وصححه الألباني.