لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، ومدحها، وأثنى عليها، وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع، وذكر الإنجيل، ومدحه، وأمر أهله بإقامته، واتباع ما فيه - كما تقدم بيانه - شرع في ذكر القرآن العظيم الذين أنزله على عبده، ورسوله الكريم ﷺ فقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [سورة المائدة:48] أي: بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [سورة المائدة:48]."
ويمكن أن يكون المراد وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ أي: إنزالاً متلبساً بالحق.
"مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [سورة المائدة:48] أي: من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره، ومدحه، وأنه سينزل من عند الله على عبده، ورسوله محمد ﷺ، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله، واتبعوا شرائع الله، وصدقوا رسل الله، كما قال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [سورة الإسراء:107-108] أي: إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد لَمَفْعُولاً أي: لكائناً لا محالة، ولا بد.
"قوله تعالى: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] قال سفيان الثوري، وغيره عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس : أي مؤتمناً عليه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: المهيمن: الأمين، قال: "القرآن أمين على كل كتاب قبله"، ورواه عن عكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب، وعطية، والحسن، وقتادة، وعطاء الخرساني، والسدي، وابن زيد نحو ذلك.
"وهكذا قول من قال: إن المهيمن هو الرقيب، أو قول من قال: إنه الغالب المرتفع، أو الحافظ، وعلى كل حال فالمقصود واحد بهذه العبارات - والله تعالى أعلم -، ويكون المعنى أن هذا القرآن جعله الله شاهداً لصحة تلك الكتب، ومقرِّراً لما فيها مما لم ينسخ، وناسخ لما خالفها، ورقيب عليها، وحافظ لما فيها من أصول الشرائع، فهو المرجع في المحكم، والمنسوخ، ومؤتمن عليها لكونه يشتمل على ما هو معمول به، وما هو متروك منها، وما أشبه ذلك، فهذه المعاني التي ذكروها هي من قبيل اختلاف التنوع، فإذا قيل: فلان أمين المكتبة، أو أمين المؤسسة أو أمين الجمعية، أو أمين المجلس، أو هذه أمانة هذه الجهة، فمعنى ذلك أن هذه هي الجهة الإشرافية التي يرجع إليها النظر، والقرار، وما أشبه ذلك من المعاني، هذا هو معنى الأمين، فقوله: وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] يعني هو الأمين، فمن طريق هذا القرآن نعرف الثابت من المنسوخ، والحق من الباطل، وما أشبه ذلك من المعاني، وبناء عليه لا نحتاج أن نرجح بين قول من قال: المهيمن هو الأمين أو المؤتمن أو من قال: هو الشاهد أو الرقيب أو العالي، أو نحو ذلك، فكل هذه المعاني ترجع إلى شيء واحد.
وهذا يرجع للكلام الذي ذكرته آنفاً، وابن جرير له عبارات أخرى غير هذه العبارة، كقوله: إنه مصدق للكتب قبله، وشهيد عليها أنها حق من عند الله ، وأمين عليها، وحافظ لها، وذكر أن أصل الهيمنة هي الحفظ، والارتقاب، أي أن القرآن رقيبٌ على هذه الكتب، فابن جرير - رحمه الله - يجمع هذه المعاني المنقولة عن السلف ، وأرضاهم.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى؛ فإنّ اسم المهيمن يتضمن هذا كله، فهو أمين، وشاهد، وحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذين أنزله آخر الكتب، وخاتمها، أشملها، وأعظمها، وأكلمها، حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره، فلهذا جعله شاهداً، وأميناً، وحاكماً عليها كلها، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9].
وقوله تعالى: فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ [سورة المائدة:48] أي: فاحكم يا محمد بين الناس - عربهم، وعجمهم أميِّهم، وكتابيهم - بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء، ولم ينسخه في شرعك، هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - قال: كان النبي ﷺ مخيراً إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] فأُمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] أي آراءهم التي اصطلحوا عليها، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله، ولهذا قال تعالى: وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:48] أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء الجهلة الأشقياء.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48] روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا -: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً قال: سبيلاً، وعنه: سبيلاً، وسنة."
قوله: "سبيلاً، وسنة" الحافظ ابن القيم - رحمه الله - فسر هذه الجملة مما ورد عن ابن عباس - ا - فقال: السبيل هو المنهاج، والسنة هي الشرعة، أو الشريعة التي تفصِّل هذا المنهاج، أي أن الشريعة هي تفاصيل المنهاج، والشرعة في أصلها هي الطريق الذي يتوصل به أو منه إلى الماء كما قال بعضهم، ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده، والمنهاج أيضاً هو الطريق الواضحة البينة، وبعضهم يقول: الشرعة هي ابتداء الطريق، والمنهاج هو الطريق المستمر.
ويقول كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -: إن الشرعة هي ما شرعت فيه، وقيل لها ذلك لشروع أهلها فيها بالعمل، والتطبيق، والامتثال، وما أشبه ذلك.
على كل حال قال هنا: سبيلاً، وسنة، بمعنى أنه جعل لهم طريقاً - هذا هو المنهاج، وهو السبيل -، وسنة أي: تشرح هذا السبيل، وتوضح معالمه، وتفاصيله - وهذه هي الشريعة التي يوجد فيها الأحكام، والتشريعات -.
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [سورة المائدة:48] أي: لكل أمة من هذه الأمم جعل الله شرعة، ومنهاجاً، وهذا المعنى خلافاً لقول من قال: إن معنى لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً أي شرعة واحدة هي الإسلام، واتباع الرسول ﷺ، فهذا المعنى بعيد؛ لأن الله قال بعده: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [سورة المائدة:48] فدل ذلك على أن المراد اختلاف شرائع الأنبياء عليهم الصلاة، والسلام.
بعض أهل العلم قال: إن هذا التعليل وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] يدل على أن تعدد الشرائع إنما هو ليبلوَ الله فيما أعطى - هؤلاء الذين بعث إليهم الأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام -، وأنزل عليهم هذه الشرائع هل يعملون، ويمتثلون أم يخرجون عنها؟، وقالوا أيضاً –أي بعض أهل العلم -: إن ذلك لا يرجع إلى اختلاف المصالح من وقت إلى وقت، وهذا القول فيه نظر؛ لأن الشيء قد يعلل بعلل مختلفة، فهنا قال: لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48]، وهذا لا ينافي أن تكون الشريعة قد جعلها الله ملائمة لأمة أو لوقت من الأوقات، ثم نسخها بشريعة أخرى تلائم في وقت آخر، فالتعليل لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم [سورة المائدة:48] لا يعني أن العلة قاصرة على هذا فقط، فالشيء الواحد قد يعلل بعلل مختلفة، قد يذكر بعضها، وقد يترك البعض الآخر، فحينما يقال مثلاً: إن العلة في الوضوء هي الطهارة، أو العلة هي الحدث، فهذا يدل على أن هناك عدة علل للشيء الواحد، أو للفعل الواحد، كما تقول العلة من أداء الزكاة التقرب إلى الله ، أو تقول: الإرفاق بالمحتاجين، لكن هناك علل أخرى أيضاً لا تتنافى مع هذه العلل، وهكذا توجد لذلك صور كثيرة - والله أعلم -.
ثم قال تعالى: إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ [سورة المائدة:48] أي معادكم أيها الناس، ومصيركم إليه يوم القيامة، فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة المائدة:48] أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه إلى غيره بلا دليل، ولا برهان، بل هم معاندون للبراهين القاطعة، والحجج البالغة، والأدلة الدامغة، وقال الضحاك: فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ [سورة المائدة:48] يعني أمة محمد ﷺ، والأول أظهر."