الجمعة 04 / ذو القعدة / 1446 - 02 / مايو 2025
وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنۢ بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [سورة المائدة:49] تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن خلافه، ثم قال: وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة:49] أي: واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من أمور فلا تغتر بهم، فإنهم كذبة كفرة خونة، فَإِن تَوَلَّوْاْ [سورة المائدة:49] أي عما تحكم به بينهم من الحق، وخالفوا شرع الله فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، أي: فاعلم أن ذلك كائن عن قدر الله، وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم، ونكالهم.
وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [سورة المائدة:49] أي: إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وقال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ الآية [سورة الأنعام:116].
 وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس - ا - قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوبا، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس، بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود، وأشرافهم، وساداتهم، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، ولم يخالفونا، وإن بيننا، وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك، ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله ﷺ، فأنزل الله فيهم: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة:49] إلى قوله: لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة المائدة:50] [رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم]."

ورواه كذلك البيهقي في الدلائل - دلائل النبوة -، والشيخ محمد بن إسحاق مجهول كما قال الحافظ ابن حجر، وبناء عليه فهذه الرواية لا تصح.

مرات الإستماع: 0

"وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة: 49] عطفٌ على الكتاب في قوله: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ [المائدة: 48] أو على الحق في قوله: بِالْحَقِّ [المائدة: 48] وقال قومٌ: إن هذا، وقوله قبله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة: 48] ناسخٌ لقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: ناسخٌ للتخيير الذي في الآية، وقيل: إنه ناسخ للحكم بالتوراة، ونزلت الآية بسبب قومٍ من اليهود طلبوا من رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم، فأبى من ذلك، ونزلت الآية تقتضي أن يحكم بينهم".

قوله هنا بأن قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ [المائدة: 48] ناسخٌ لقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ سبق ذكر قول من قال من أهل العلم بأن سورة المائدة آخر ما نزل، ولم يُنسخ منها شيء، وهذا مروي عن جماعة من السلف، وكما ترون أنه وجد دعاوى للنسخ في هذه السورة، فقد جاء عن ابن عباس - ا - قال: آيتان نُسختا من هذه السورة، الأولى: فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فكان رسول الله ﷺ مخيرًّا إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فأُمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم على كتابنا[1] هكذا جاء بهذا اللفظ، وفي رواية: آية القلائد، يعني المنسوخ آية القلائد، وهي: وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ [المائدة: 97] وقوله: فَإِنْ جَاءُوكَ[2] وهذا الأثر عن ابن عباس - ا - مصرح بسبب النزول، ومثل هذا - كما سبق - له حكم الرفع، وهذه الرواية عن ابن عباس - ا - صححها الحاكم[3] ووافقه الذهبي، وكذلك قال النحاس: إسناده مستقيم[4] وهذا الإسناد ظاهره الصحة - والله تعالى أعلم -.

فعلى هذا يكون قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ناسخًا لــفَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ولكنه ليس محل اتفاق، فالذين يقولون بأن قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ آية محكمة، يقولون: هذه بمعنى: إن حكمت فاحكم بينهم بما أنزل الله.

  1.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/128).
  2.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/332).
  3.  المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم: (3217).
  4.  الناسخ، والمنسوخ للنحاس (ص: 397).