كلام ابن كثير هنا صريح، وواضح ليس فيه أي شبهة بأن تبديل شرائع الإسلام كفر يخرج من الملة بخلاف من غلبه هواه في مسألة، وهذه المسألة تكلمنا عليها في الدرس الماضي، فهذا ذكره الحافظ ابن كثير لما وُجد لأول مرة في هذه الأمة في زمان التتار، وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وبيّن أن هذا كفر مخرج من الملة، وألَّف فيه الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي هذه البلاد رسالة تحكيم القوانين، وهي موجودة، ومطبوعة، ومتداولة، وتكلم عليه الشيخ أحمد شاكر بكلام جيد في مواضع شتى من كتبه حتى إنه جُمع في كتاب خاص، وغير هؤلاء من العلماء الذين بينوا هذه القضية كالشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، والشيخ محمد الأمين في دروسه التي كانت في المسجد النبوي، كان كثيراً ما يقرر هذه القضية، ويكررها، وهؤلاء ليسوا بخوارج، وإنما هؤلاء هم علماء الأمة، وهم محل الثقة، ولا يجوز لأحد أن يصادر أقوال أهل العلم لهوىً في نفسه، ويرمي من خالفه بأنه من الخوارج، فمذهب الخوارج أن من خالف في مسألة حكم فيها لغلبة هوى، فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة، هذا هو مذهب الخوارج، وقد ناظروا أبا مجلز - من التابعين - في هذه القضية، فرد عليهم، وبالنسبة لقول ابن عباس: "كفر دون كفر" إلى آخره، فهو يتحدث عن شيء يقع في زمانه من غلبة هوى من قِبل القاضي، أو نحو ذلك في مسألة، لكن لو قيل لابن عباس: تُزال الشريعة بكاملها، ويوضع قانون الفرس، أو الروم، فهل سيقول: كفر دون كفر؟ سيقول: هذا كفر مخرج من الملة قطعاً.
ويبقى أن هذه المسألة مسألة اختلف فيها أهل السنة، وبناء عليه فمن قال: إنه كفر دون كفر؛ لأنه فهم ذلك من كلام ابن عباس فإنه لا يُبدَّع، ولا يضلَّل، ولا يرمى بالإرجاء، ومن قال: إن هذا كفر مخرج من الملة فهذا أيضاً قول تشهد له النصوص، ولا يجوز لأحد أن يرمي هذا القول بأنه قول الخوارج، وفي الوقت الذي تُقرر فيه مثل هذه القضايا لا يعني أن ينزل ذلك على المعيَّن، كما هو معروف من مذهب أهل السنة، والجماعة، فابن القيم - رحمه الله -، وغير ابن القيم ذكر هذا في النونية، ونقل قول من قال: إن من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، وقد نُقل ذلك عن خمسمائة من العلماء، ومع هذا النقل الذي نقلوه في نفس الوقت لا الإمام أحمد، ولا غير الإمام أحمد كفر المأمون، ولا المعتصم، ولا الواثق، ولا المتوكل الذين تناوبوا على الخلافة من بني العباس حتى إن الإمام أحمد - رحمه الله - عفا عن المعتصم لما فتح عمورية، فالمقصود أن هناك فرقاً بين أن يقال: هذا كفر مخرج من الملة، وبين أن يقال: فلان كافر، وهذه المفارقة للأسف يضيعها كثيرون، فإذا سمع أن هذا كفر مخرج من الملة ظن أن معنى ذلك: أن فلاناً كافر، وفلاناً كافر، مع أن ذلك ليس مراداً إطلاقاً، وإنما الواجب أن تُعطَى الأشياء حكمها الصحيح، وتبيّن حقائق الدين، ويحذَّر الناس من الشر، ومن الأسباب الموصلة إليه دون أن يفترى على الله - تبارك، وتعالى -، أو أن يكتم الحق، أو نحو هذا، وإنما تبيّن هذه الأشياء ليحذر المسلمون من الوقوع فيها.
ولكمال علم السلف ، ولكمال فقههم ما كان يقع عندهم الجدل إطلاقاً، هل فلان يكفر، أو لا يكفر؟ وإنما كانوا يحذرون من الوقوع في هذه الأشياء، فلما قلَّ العلم، وبعُد زمان الناس عن شمس النبوة تركوا كثيراً من العمل، وصار جُلُّ اشتغالهم هل فلان يكفر، أو لا يكفر؟
وهكذا للأسف الشديد تجد الإنسان الناشئ في طلب العلم ربما حمل دفتراً يدور به على فلان، وفلان، ففلان كذا، وفلان كذا، وفلان كذا، ولا شأن له بذلك أصلاً، ولهذا أنا أقول دائماً: إن هذه المسائل إذا رُجع فيها إلى غير العلماء حصل في الأرض فساد كبير، ولذلك فإن طالب العلم ينبغي أن يبدأ بمبادئ العلم، ويعرف أصوله، ويجعل هذه المسائل من آخر ما يدرس لا من أول ما يدرس؛ لأن طالب العلم إذا بدأ بهذه المسائل، وهو لا يفقه مبادئ العلوم فإن هذا خطأ، وخطير، ويؤدي به إلى شر كثير، فمثل هذه الأمور يجب التفطن لها، فضلاً عن الذين يقومون بممارسات بناء على أحكامهم، فيحصل بسبب ذلك ما لا يخفى مما لا تحمد عواقبه، وينبغي أن نعتبر بما يجري حولنا في أرض الله فقبل عشرات السنين حصل في بعض البلاد أن يأتيك من يجتهد، ويحكم بهذه القضايا، ويفتي فيها، ولا يقف عند حد حتى ظهرت طوائف التكفير، والهجرة، فأقرب مثال لمنهج الخوارج في العصر الحديث هم أهل التكفير، والهجرة، ومثل هؤلاء، ومن قاربهم، ومن داناهم، ومن شاكلهم استحلوا الدماء، والأموال، ثم بعد ذلك إذا ابتلي الواحد منهم بهذا سرعان ما ينقلب إلى الجهة الأخرى تماماً، فالمقصود أن الأصل في مثل هذه القضايا أن يرجع فيها إلى العلماء، وأن لا يتكلم فيها الجهال، وأن لا يكون اشتغال طلاب العلم بمسائل التكفير، وإنما يكون اشتغالهم بمبادئ العلم، وإتقان أصوله، وفهمه، والتفقه فيه، ثم بعد ذلك يدرسون المسائل الدقيقة لا أن يُبدأ بدراسة المسائل الدقيقة في أول الأمر.
وعودة إلى مسألتنا نقول: إن الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والذي يبدل شرائع الإسلام عمله هذا كفر مخرج من الملة لكن ليس معنى ذلك أن ينزل الحكم على المعين؛ لأن تنزيل الحكم على المعين، والحكم بأن فلاناً عاصٍ، أو فاسق، أو كافر لا بد فيه من توفر الشروط، وانتفاء الموانع، وشرح مسألة الشروط، والموانع يطول، لكن الذي ينبغي أن يراعيه المسلم دائماً هو أن لا يكون شغله في دقائق العلم، وهم لم يتقن أصوله، هذه قضية مهمة، والقضية الأخرى هي أن يفرق بين الحكم العام، وبين تنزيل الحكم على المعين، كمن قال مثلاً: القرآن مخلوق فهو كافر، فكل علماء السلف قالوا هذا، ومع ذلك لم يكن اشتغالهم بهذا هل فلان يكفر، أو فلان لا يكفر؟، وإنما يقولون هذا تحذيراً لئلا يقع الناس في مثل هذا الانحراف.
كما أن من الانحراف الذي يقع اليوم، وللأسف اختلاط الأهواء مع الآراء، وذلك بسبب الجهل فتجد بعض الناس ممن يعتقد كفر من حكم بغير شرع الله تجده يرمي من خالفه في هذا بالإرجاء، وهذا غير صحيح، فهذه المسألة مختلف فيها بين أهل السنة، وإنما الذي يستحق أن يرمى بالإرجاء هو الذي يقول: مهما عمل الإنسان من عمل فإنه لا يكفر إلا أن يكون مستحلاً، فمن قال بهذا فهو مرجئ، ومن هنا يلاحظ الفرق، لكن مسألة من ترك الصلاة فقد كفر، هذه مسألة مختلف فيها بين السلف هل هو كفر يخرج من الملة، أو لا يخرج؟ وأما مسألة الحكم بغير ما أنزل الله فهذه مسألة مختلف فيها هل هو كفر دون كفر، أو كفر ينقل من الملة؟، ولذلك لا يقال لمن خالف في ذلك: إنه مرجئ، والقول بأنه يكفر لا يجوز أن يرمى بأنه قول الخوارج، ولذلك لا بد من الحذر من الهوى، والبغي، والجهل فإن الهوى، والبغي، والجهل يجعل الإنسان لا ينضبط في مواضع الاختلاف بحيث إذا خالفه غيره سارع إلى رميه بالبدعة، أو نحو ذلك - والله المستعان -.
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ابن عباس - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: أبغض الناس إلى الله مبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه[1]، وروى البخاري عن أبي اليمان بإسناده نحوه بزيادة[2]."
- أخرجه الطبراني في الكبير (10771) (ج 10 / ص 308)، وأصله في البخاري كما سيأتي.
- أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب من طلب دم امرئ بغير حق (6488) (ج 6 / ص 2523).