ينهى - تبارك، وتعالى - عباده المؤمنين عن موالاة اليهود، والنصارى الذين هم أعداء الإسلام، وأهله قاتلهم الله، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد، وتوعد من يتعاطى ذلك، فقال: وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ الآية [سورة المائدة:51].
روى ابن أبي حاتم أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ، وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني فرفع إليه ذلك، فعجب عمر، وقال: إن هذا لحفيظ."
فقوله - تبارك، وتعالى -: لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة المائدة:51] الموالاة بمعنى النصرة، والموادة، ويقع ذلك بصور كثيرة جداً، يقع بالقلب بالميل إليهم، وتقديمهم على المسلمين، والفرح بظهورهم، وما أشبه ذلك من الأمور التي تدخل تحت هذا المعنى، ويكون أيضاً بالفعل بإعانتهم على المسلمين، وبإيثار الإقامة بين أظهرهم على الإقامة بين أظهر المسلمين، وما شابه ذلك من الأمور الكثيرة المتفاوتة، فالموالاة ليست على مرتبة واحدة، فمنها ما يكون معصية، ومنها ما يكون كفراً مخرجاً من الملة، ويختلف ذلك باختلاف الصور، وأيضاً يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، فقد يكون الفعل الواحد المعين يصدر من شخص، فيكون كفراً مخرجاً من الملة، ويصدر من آخر، فيكون معصية، ومثل هذه المسائل هي من المسائل الدقيقة الشائكة التي لو وقف الناس معها عند حد الحذر من الوقوع في هذا الأمر الذي توعد الله عليه، وتحذير الناس منه لحصل المقصود، وأما أن يتحول الناس من هذا إلى الاشتغال بتطبيق ذلك على الناس، فهذا أمر لا تحمد عواقبه خاصة إذا صدر ممن لا بصر له بالعلم، وكثير من الناس يبحثون في مثل هذه المسائل، ويريدون أن يخرجوا فيها بحكم دقيق، فصل، وقاعدة عامة، وليس هناك قاعدة عامة إلا أن موالاة المشركين لا تجوز، أما متى تكون كفراً مخرجاً من الملة، ومتى لا تكون؟ فهذا لو جاء أحد فيه بقاعدة لخالفه غيره؛ لأن الشارع ما جاء بمقاييس محددة تفصل ذلك، وإنما يختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، وما أشبه ذلك، فالفعل الواحد يصدر من اثنين يكون كفراً من هذا، ولا يكون كفراً من هذا، ومن أوضح الأدلة في هذه المسألة حديث حاطب بن أبي بلتعة ، فالذي فعله هو موالاة للمشركين، حيث كتب إليهم بما عزم عليه رسول الله ﷺ من المسير إليهم، ومع ذلك لم يكفر، وقد قال النبي ﷺ لعمر: ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم[1] فاحتسب له عمله في بدر، ولو أنه كفر لحبط عمله، ولكن هذه الصورة، أو هذا المثال لا يدل على أن من فعل ما فعل لا يخشى على دينه، وإيمانه.
وقد جاء في بعض الروايات عن حاطب أنه ذكر للنبي ﷺ في جملة ما اعتذر به أنه عالم أن الله ناصر نبيه، وأن هذا لا ينتفع به المشركون، وإنما يريد أن يتخذ به يداً عندهم فقط، أي أنه يتخذ شيئاً يستفيده هو دون أن يتضرر المسلمون، وعلى كل حال الأمثلة كثيرة جداً في هذا، وفي غيره، وهى تدل على أن الفعل الواحد يختلف حكمه بحسب الحال، وبحسب من صدر منه، وما يقوم بقلبه، وما إلى ذلك من الأمور التي تحتف به، ولهذا لا نستطيع أن نقول: إن موالاة المشركين إن كانت متعلقة بأمر يقوم بقلب العبد، وهو محبة دينهم مثلاً فهذا هو الكفر المخرج من الملة، وإلا فلا يكون مخرجاً من الملة، فهذا ليس صحيحاً إطلاقاً، ومن قال: إن موالاة المشركين بإطلاق كفر يخرج من الملة، فهذا أيضاً غير صحيح؛ فالأدلة ترده، ومنها حديث حاطب هذا، ومن ذلك قصة أبي لبابة بن عبد المنذر رسول رسولِ الله ﷺ في قصة بني قريظة لما قالوا له: ننزل على حكم رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، ثم أشار بيده إلى حلقه يعني الذبح، ثم قال بعد ذلك: إن قدمه ما زالت في مكانه الذي وقف فيه حتى أدرك أنه خان الله، ورسوله، ومع ذلك لم يكفر بهذا الفعل، فلذلك لا يقال: إن كل ما يقع من موالاة تكون كفراً مخرجاً من الملة، ولا يقال أيضاً: إنه لا يكون كفراً إلا إذا كان لمحبة دينهم لكنه متفاوت فمنه ما يكون من كبائر الذنوب، ومنه ما يكون دون هذا، ومنه ما يكون مخرجاً من الملة، والواجب على الإنسان إذا سمع هذه النصوص أن يحذر من الوقوع في قليل هذا، وكثيره، والعلماء - رحمهم الله - ذكروا من الموالاة أشياء، منها تبرية القلم، وتعبئة الدواة له، وما أشبه ذلك، فيبقى على الإنسان أن يحذر هذه الأمور، ويتجنبها بجميع صورها.
وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يحتمل معنيين، يحتمل أن اليهود يوالون النصارى، ويحتمل أن المراد أن النصارى يوالي بعضهم بعضاً، وأن اليهود يوالي بعضهم بعضاً، ومستند صاحب هذا القول الأخير أن اليهود يكفرون النصارى، والعكس، والعداوة بينهم معروفة، وقد أخبر الله عن هذا فقال: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة المائدة:64] فقالوا: هذا كقوله - تبارك، وتعالى -: وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى [سورة البقرة:111] يعني هذا مقسم عليهم، فاليهود قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، فقالوا: قوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة المائدة:51] مثل الآية الأخرى أي أن كل طائفة توالي قومها، وأتباع دينها، وما أشبه ذلك.
والذين قالوا: إن المراد أن اليهود يوالون النصارى، قالوا: إن بينهم عداوة كما أخبر الله كما أن بين طوائف النصارى عداوة، وبين طوائف اليهود عداوة، والقرآن أخبر عن هذا، وقال عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [سورة الحشر:14] قيل: إن ذلك في اليهود، والمنافقين، وقال الله : بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14]، ومن المعاني التي ذكرت في قوله: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [سورة الحشر:14] قيل: أي العداوة التي هي واقعة بينهم، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على هذا المعنى - وعلى كل حال - لا شك أنهم يجتمعون على حرب الإسلام كما اجتمع أهل الأحزاب من المشركين، ومن اليهود، والمنافقين، وهم أيضاً يوالي بعضهم بعضاً كما هو معلوم، وإن، وقع بينهم عداوة إلا أن الموالاة موجودة، ولو لبعض طوائفهم، ولهذا قال الله : وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120]، وقال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [سورة البقرة:217] فهم جميعاً يوالي بعضهم بعضاً كما يشهد به الواقع، والموالاة هي النصرة، فينصر بعضهم بعضاً إذا كان العدو هو الإسلام.
قوله: "أن يرفع إليه ما أخذ، وما أعطى في أديم واحد" يعني أن يكتب ذلك في رقعة واحدة، فالكاتب أحصى له المخرجات، والأشياء التي وردت، يعني الأشياء التي دفعت من بيت المال، والأشياء التي وردت إليه، وهذا يسمى إحصاء، ومحاسبة، أو تقريراً عن المصارف، والموارد المالية في تقرير واحد بكتاب واحد.
طبعاً كون اليهودي، أو النصراني يعمل عند المسلم ليس هذا من الموالاة، لكن هذا حاله يختلف؛ فإنه يطلع على ما دخل، وما خرج فهو يعرف هذه الأمور التي ينبغي أن لا يعرفها العدو فيطلع على عورات المسلمين، وما يحصل لهم من قوة اقتصادية، أو من ضعف، وما أشبه هذا، فلا يُتخذ كاتباً؛ لأنه سيكتب الأمور الخاصة، والعامة، فكل ما يتعلق بأبي موسى الأشعري فيما يختص بولايته يمر عن طريق هذا النصراني، وذلك من أمور الحرب، والسلم، وليس فقط الاقتصاد، والمال، فمثل هذا يكون قد قُرِّب، واتُّخذ بطانة، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [سورة آل عمران:118] أي لا تتخذوا بطانة من غيركم فإنهم لا يدخرون وسعاً فيما يضعفكم، ويوهنكم، ويفت في أعضادكم، وما أشبه ذلك، فالذي في قصة أبي موسى الأشعري من هذا الباب.
ومن ذلك الذي يقدمهم على المسلمين، ويتمنى نصرهم، ويرى أنهم رسل الحرية، وأنهم أفضل من المسلمين، فهذا يخشى عليه أن يكون يهودياً، أو نصرانياً، والمرء يحشر مع من أحب، وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن من جامع المشرك، وساكنه فهو مثله، فمثل هذه الأشياء تدل على أن هذا من أنواع الموالاة التي قد تجعله يهودياً، أو نصرانياً، وهو لا يشعر.
- أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، والسير - باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، والمؤمنات إذا عصين الله، وتجريدهن (2915) (ج 3 / ص 1120)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2494) (ج 4 / ص 1941).