الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِۦ فَيُصْبِحُوا۟ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّوا۟ فِىٓ أَنفُسِهِمْ نَٰدِمِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أي: شك، وريب، ونفاق يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [سورة المائدة:52]."

المرض يطلق، ويراد به النفاق - ويمكن أن يكون هو المراد هنا - كما جاء في بعض الروايات أن المراد بذلك عبد الله بن أبي، وهذا في رواية قد لا تصح، لكنْ كثير من أهل العلم، ومنهم ابن جرير - رحمهم الله - يقولون: إنها نزلت في عبد الله بن أبي.
قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ المرض يطلق على مرض النفاق كما قال الله : فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة:10]، ويطلق على ضعف الإيمان، وهو أحد المعنيين في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] فهذا العطف هنا إن كان من باب عطف الذوات الذي يقتضي المغايرة، فيكون هذا للتنوع، فيكون الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين - أعني في آية الأحزاب هذه -، وبالتالي يكون المراد بالذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان، وبعض أهل العلم يقول: هذا كله من باب عطف الصفات، والموصوف واحد، فهي من صفات المنافقين، أي أنهم منافقون، وفي قلوبهم مرض، والمقصود أن مرض القلب إذا ذكر في القرآن فتارة يراد به ضعف الإيمان، وتارة يراد به النفاق إلا في موضع واحد، وهو قوله - تبارك، وتعالى -: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] فهنا المراد به الذي فيه ميل محرم للنساء فالمرض هنا هو الميل المحرم للنساء، وأما المرض في قوله تعالى هنا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [سورة المائدة:52]  فيمكن أن يصدق على المنافقين، وعلى ضعفاء الإيمان.
"يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [سورة المائدة:52] أي يبادرون إلى موالاتهم، ومودتهم في الباطن، والظاهر يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ أي: يتأولون في مودتهم، وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أيادٍ عند اليهود، والنصارى، فينفعهم ذلك، عند ذلك قال الله تعالى: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52]."

قوله: نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [سورة المائدة:52] يمكن أن يصدق على معنى الدائرة ما ذكره هنا من أنه قد يحصل انتصار للكفار على المسلمين، فيكون هذا الإنسان قد مهد لنفسه، ووطأ لها مخرجاً يعتصم به، ويلجأ إليه، ومما يدخل في الدائرة أيضاً أن يصيب الناس بلاء في، جائحة، أو فقر، أو أي مكروه - نسأل الله العافية - فيكون له من الرفد، والمعتصم - في زعمه - يعني لا يقطع العلائق بالكفار، ويتبرأ منهم، وإنما يجعل له خطوط رجعة بحيث إذا حصل مكروه، أو شيء يكون له أيادٍ عند هذا، وهذا فينجو بها بزعمه.
"عند ذلك قال الله تعالى: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] قال السدي: يعني فتح مكة."

قد عرفنا قبلُ أن "عسى" من الله، واجبة، يعني أن ذلك متحقق الوقوع، وأن أصلها للترجي في كلام المخلوقين، وإذا صدرت من الله فهو علام الغيوب فالمراد بها التحقيق، ولهذا قالوا: "عسى" من الله واجبة، وعلى هذا يكون قوله: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] أي أمر فتح مكة، أو ظهور النبي ﷺ على الكفار - سواء كانوا من كفار مكة، أو من غيرهم - بالفتح، والنصر، والغلبة، والظهور على الكافرين من المشركين، ومن اليهود، والنصارى كما حصل بفتح قريظة، والنضير، وسائر اليهود كبني قينقاع، وهكذا ما حصل من الفتوح كفتح فارس، والروم، وما أشبه هذا، وهذا المعنى الثاني أحسن لأنه حملٌ للمعنى على العموم.
"أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ [سورة المائدة:52] قال السدي: يعني ضرب الجزية على اليهود، والنصارى."

قوله: "يعني ضرب الجزية" هذا أحد المعاني الداخلة، والمعنى أنه يحصل انتصار للمسلمين، أو يحصل أمر من عند الله تندفع به صولة الكفار، وتنطفئ نارهم، ويحصل الظهور لدين الله - تبارك، وتعالى -، وتنتفي المخاوف.
وبعضهم يقول في قوله تعالى: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ يعني كشف المنافقين، وفضحهم، وتعريتهم، وما أشبه ذلك، وبعضهم يقول: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ أي ما يحصل من السعة، والخصب، وما أشبه ذلك من الأمور التي يستغنون بها عن الكفار، والحاصل أن الله يقول: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] بالغلبة، والنصر أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ بأي أمر يحصل به دحر الكافرين، ومحقهم، ودفع صولتهم، وما أشبه ذلك، فالله على كل شيء قدير.
:فَيُصْبِحُواْ يعني الذين، والوا اليهود، والنصارى من المنافقين عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ من الموالاة نَادِمِينَ [سورة المائدة:52] أي على ما كان منهم مما لم يُجْدِ عنهم شيئاً، ولا دفَع عنهم محذوراً بل كان عين المفسدة فإنهم فُضحوا، وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين لا يُدرى كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبيّن أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين، ويحلفون على ذلك، ويتأولون، فبان كذبهم، وافتراؤهم، ولهذا قال تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ [سورة المائدة:53]." 

هذه الجملة وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ فيها ثلاث قراءات متواترة، قراءتان بالواو، وقراءة بحذف الواو، فالقراءتان بالواو أولاهما بالرفع، والثانية بالنصب - في اللام من قوله: وَيَقُولُ وإحدى القراءات بحذف الواو، والرفع، فعلى هذه الأخيرة يكون كلاماً مبتدأً هكذا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [سورة المائدة:52] ثم ابتدأ كلاماً جديداً: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [سورة المائدة:53].
فعلى قراءة النصب يمكن أن يكون ذلك عطفاً على فَيُصْبِحُواْ هكذا فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ إلى أن قال: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ.. [سورة المائدة:52] أي فإذا جاء النصر، أو الأمر من عند الله  يحصل من جراء ذلك الندم فيصبحوا، ويقولَ الذين آمنوا، هذا الاحتمال الأول.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَيَقُولَ معطوف على يَأْتِيَ هكذا: فعسى الله أن يأتي بالفتح، ويقولَ الذين آمنوا، وبعضهم يقول: إنه معطوف على الفتح هكذا: فعسى الله أن يأتي بالفتح، ويقولَ الذين آمنوا، وعلى كل حال فالقول الأول لعله أقرب، وأرجح، وهذا على قراءة النصب في (يقولَ) كما سبق أن ذكرنا، وأما بالنسبة لقراءة الرفع مع ثبوت الواو وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ تكون الجملة استئنافية - والله أعلم -.
"وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها، وبين رسول الله ﷺ بنو قينقاع، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله ﷺ حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أُبيّ بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله ﷺ فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، قال: فأعرض عنه، قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ: أرسلني، وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: ويحك أرسلني قال: لا، والله لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ، أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر، والأسود تحصدهم في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله ﷺ: هم لك[1].
قوله: "أربعمائة حاسر " الحاسر هو الذي ليس عليه لا درع، ولا مغفر.
وقوله: "منعوني من الأحمر، والأسود" هذا يقال للتعميم، يعني منعوني من جميع الناس أحمرهم، وأسودهم، ويقال: بُعث النبي ﷺ إلى الأحمر، والأسود، يعني لجميع الخلق.
إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله ﷺ: هم لك 
"قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ﷺ."

الرواية السابقة كما هو بين أنها من طريق ابن إسحاق، ومثل هذه الروايات تذكر في السير ليس لها إسناد، وقد يتساهل في الرواية فيما يتعلق بالسير بشروط، لكن حينما نقول: إن هذا هو سبب النزول فهذا لابد له من النظر في صحة الإسناد.
"قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ﷺ تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله ﷺ، وكان أحدَ بني عوف بن الخزرج."

وعبد الله بن أبي هو من زعماء الخزرج، وقد كان الحلف بين الخزرج، وبين النضير، وبني قينقاع، وأما الأوس فكان حلفاؤهم قريظة، ولهذا لما صارت وقعة قريظة جاء الأوس إلى سعد بن معاذ يطوفون به، وهو على حماره، ويقولون: الله الله في مواليك، ولقد كان الأوس، والخزرج في الجاهلية يتنافسون في المكارم، فيقولون: إن الخزرج أحسنوا إلى حلفائهم في قينقاع، والنضير، وكانت وقعة النضير قبل وقعة قريظة حيث قيل: إنها كانت بعد وقعة أُحد بأربعة أشهر، وقيل: بعد أُحد، وبئر معونة، وأما وقعة قريظة فكما هو معروف أنها كانت بعد الأحزاب مباشرة حيث انطلق إليهم النبي ﷺ بعد عودته من الأحزاب، وبالنسبة لعبادة بن الصامت فهو من رهط عبد الله بن أبي من الخزرج، وقد تبرأ من حلفه هذا، وإن كانت هذه الرواية هنا لا تصح.
"له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أُبي، فخلعهم إلى رسول الله ﷺ، وتبرأ إلى الله، ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أبرأ إلى الله، وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله، ورسوله، والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار، وولايتهم، ففيه، وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ [سورة المائدة:51] إلى قوله: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56]."

قال سبحانه: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56]، ولم يقل: فإنهم الغالبون؛ وهذا إظهار في موضع الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار يكون لعلل، وأغراض شتى في البلاغة كما هو معروف.
وهنا كما نذكر مراراً أنه قد يذكر حكماً خاصاً، ثم يأتي بالحكم العام؛ ليشمل كل ما ينطبق عليه ذلك الحكم العام فهنا قال: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56]، وحزب الله هم أتباع دينه، وأنصار رسوله ﷺ.
والحزب أصله في لغة العرب الجماعة من الناس كما قال بعضهم، وبعضهم يقول: هم جماعة فيها غِلَظ يعني شدّة، بمعنى أنه يتحزب بعضهم لبعض، ويرتبط بعضهم ببعض، فيكون ذلك مقوياً لأمرهم.
  1. رواه ابن إسحاق بإسناد منقطع، ومن طريقه الطبري في التاريخ، والبيهقي في الدلائل، والخبر مشهور في كتب السيرة.

مرات الإستماع: 0

"فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون، والمراد هنا: عبد الله بن أبي بن سلول، ومن كان معه يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ كان عبد الله بن أبي يوالي اليهود، ويستكثرهم [وفي النسخة الخطية: ويستكثر بهم] ويقول: إني رجل أخشى الدوائر[1]".

نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ معنى الدائرة: يعني أن يدور عليهم الدهر بمكروه، وأصل هذه المادة: الدال، والواو، والراء، يدل على إحداق الشيء بالشيء من حواليه، يعني لو حصل للكفار ظهور، وغلبة، فيقول: بحيث يكون لي يد عندهم، فهذا المراد - والله أعلم -

"فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الفتح هنا: هو ظهور النبي ﷺ والمسلمين".

كالسدي يقول: الفتح: فتح مكة[2] وقال بعضهم: فتح بلاد المشركين، وقال بعضهم: ظهور النبي ﷺ على الكفار، ومن ذلك قريظة، والنضير.

"والأمر من عنده [وفي النسخة الخطية: والأمر من عند الله] هو هلاك الأعداء بأمراضٍ عنده [وفي النسخة الخطية: هو هلاك الأعداء بأمرٍ من عنده]".

كأن "بأمرٍ من عنده" أوضح من "بأمراضٍ" بحيث لا يكون فيه تسبب لمخلوق، يعني مثلًا يُنزل عليهم آفة من عنده، فتُهلكهم، يعني لا يكون ذلك بأيدي المؤمنين.

"والأمر من عنده هو هلاك الأعداء بأمرٍ من عنده، لا يكون فيه تسبب لمخلوق، أو أمر من الله لرسوله - عليه الصلاة، والسلام - بقتل اليهود".

هذا معنًى آخر غير الأول، يعني هذا قول، وهذا قول آخر، هذا بالنسبة لمن قال بأن ذلك في اليهود، يعني الذين قال المنافقون ما قالوا في شأنهم، وبعضهم يقول: بما يكون يعني أن يأتي الله بالفتح، أو أمرٍ من عنده في حق المنافقين، بفضحهم، وبيان مخازيهم، ونحو ذلك، وذكر السدي بأن المعنى: ضرب الجزية على اليهود، والنصارى[3] وبعضهم يقول: بما يندفع به صولة اليهود، ومن معهم، وبعضهم يقول: الخصب، والسعة للمسلمين؛ بأن يوسع الله للمسلمين، ويغنيهم من فضله، ونحو ذلك.

"فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ الضمير في فَيُصْبِحُوا للمنافقين، والذي أسروه هو قصدهم الاستعانة باليهود على المسلمين، وإضمار العداوة للمسلمين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قُرئ: يقول: بغير، واو، استئناف، وإخبار، وقُرئ بالواو، والرفع، وهو عطف جملةٍ على جملة".

قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر، بدون واو، وقراءة الجمهور بالواو[4].

"وقُرئ بالواو، والرفع، وهو عطف جملةٍ على جملة، وبالواو، والنصب "عطفٌ على يأتي الله، أو عطفٌ على فَيُصْبِحُوا

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/403).
  2.  المصدر السابق(10/405).
  3.  المصدر السابق(10/406).
  4.  السبعة في القراءات (ص: 245)، ومعاني القراءات للأزهري (1/333).

مرات الإستماع: 0

قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام: 52] الآية: نزلت في ضعفاء المؤمنين كبلال، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وخباب، وصهيب، وأمثالهم، وكان بعض المشركين من قريش قد قالوا للنبي ﷺ: لا يمكننا أن نختلط مع هؤلاء لشرفنا فلو طردتهم لاتبعناك، فنزلت هذه الآية[1]."

نعم، قوله وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يقول: نزلت في ضعفاء المؤمنين، وذكر في الحاشية، ما أخرجه مسلم من حديث سعد قال: كنا مع النبي ﷺ ستة نفر، فقال المشركون للنبي ﷺ: "اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، قال: وكنت أنا، وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما - يعني: لا أعرف، لا أذكر أسماءهم - فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه - يعني طلبًا لمصلحة عظمى من إسلام هؤلاء أن يسمعوا، وأن يجلسوا معه بانفراد؛ ليسمعوا دعوته، وما أنزل عليه، علهم يسلمون - قال: فأنزل الله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية"[2].

وجاء عند ابن أبي شيبة[3] في سياق طويل، عن خباب، وكذا عند الطبراني[4] أنها نزلت في الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، لما وجدوا النبي ﷺ مع صهيب، وبلال، وعمار، وخباب، وهذا صحيح الإسناد.

والظاهر أن هذا كان في المدينة؛ لأن عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، قدموا على النبي ﷺ في المدينة، بعد الهجرة، فبعض أهل العلم في مثل هذا، يلجأ إلى الترجيح، ومن طرق الترجيح الكثيرة، ترجيح ما في الصحيحين على غيرهما، والأول حديث سعد في صحيح مسلم.

والأقرب - والله تعالى أعلم - أن ذلك لا يلجأ إليه إذا أمكن الجمع، فينظر في العبارة - كما ذكرنا في بعض المناسبات - فإذا قيل بأنها نزلت في فلان، أو نحو ذلك، لا يكون صريحًا بسبب النزول، لكن إذا كانت صريحة، فعندئذ يمكن أن يقال بأن الآية نزلت عقب الواقعتين إن كان الزمان متقاربًا، وهنا لا يظهر التقارب، هذا في مكة، وهذا بعد الهجرة، فيقال: لعل الآية نزلت مرتين، تذكيرًا بالحكم، وتأكيدًا له، أو لا يقال ذلك من إطراح إحدى الروايتين - والله أعلم -.

وقوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ابن جرير - رحمه الله -[5] حمله على أعم معانيه، يعني هل هو سؤال الطلب؛ يسألونه بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52] نحن نعرف أن الدعاء على نوعين: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، فهنا يدخل فيه هذا جميعًا، وكذلك هو لا يختص بالصلوات، وإنما سائر العبادات عند ابن جرير، يدخل فيه الذكر، والصلاة، وغير ذلك يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يعني: يعبدونه؛ وكذلك جاءت عبارة ابن كثير - رحمه الله - بهذا المعنى، في غاية الدقة، والاختصار، قال: "أي يعبدونه، ويسألونه"[6] فقوله: يعبدونه يشمل جميع أنواع العبادة، أن ذلك لا يختص بالصلاة، ويسألونه، فيدخل فيه دعاء المسألة وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52] أن ذلك يصدق عليه الدعاء، ولا يوجد ما يدل على تخصيص بنوع منه - والله أعلم -.

"قوله تعالى: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52] قيل: هي الصلاة بمكة قبل فرض الخمس، وكانت غدوة، وعشية، وقيل: هي عبارة عن دوام الفعل، ويدعون هنا من الدعاء، وذكر الله، أو بمعنى العبادة."

كما سبق، فقوله: بِالْغَدَاةِ [الأنعام: 52] الغداة: أول النهار، الغداة: الغدو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقد تطلق على ما هو أوسع من هذا، تقال: لأول النهار، أو وقت الضحى، أو ما هو أوسع من ذلك، يعني من طلوع الفجر إلى ما قبل الزوال؛ يعني: الشق الأول من النهار، من الفجر إلى ما قبل، يعني إلى ما قبل انتصاف النهار، والمشهور هو أن ذلك يقال لأول النهار، ولا شك أن ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس أنه داخل فيه، وما وراء ذلك أدخله فيه بعضهم، وإذا كان هذا ينقل عن أهل اللغة، فهم أعلم بها، وأعرف، مثل هذا يرجع فيه إلى اللغة؛ لأنه لا معنى يختص بالشارع في مثل هذا، فإذا كان هذا جميعًا منقول عن أهل اللغة، فيكون هذا من إطلاقاته، ولا إشكال.

والمقصود أن من خصصه بالصلوات، فجعلوا الذكر في الغداة، هي صلاة الفجر، وأن العشي يقال: لآخر النهار، وبعضهم يقول: بأنه من العصر إلى الليل، وبعضهم يقول: من الظهر إلى الليل، وكأن هذا هو الأقرب، فيدخل فيه صلاة الظهر، وصلاة العصر، والذين أدخلوا الليل بعضهم قالوا: إلى نصف الليل؛ فيدخل فيه صلاة المغرب، وصلاة العشاء، فانتظم ذلك الصلوات الخمس.

فبعضهم يخصص قوله: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52] يدعون ربهم يعني يصلون، هذه الصلوات، وهذا داخل فيه هذه الصلوات، فهي من أعظم الدعاء، والذكر، والعبادة، لكنه لا يختص بذلك، وأصل هذه المادة: العشي، يدل على ظلام، وقلة وضوح - والله أعلم - .

وقوله هنا: قيل: هي الصلاة بمكة قبل فرض الخمس، وكانت؛ يعني: في الغدو، والعشي، بمعنى أن نظر إلى ذكر شيئين: الغداة، والعشي، فلم يوسع وقت العشي، فقال: هي صلاة في أول النهار، وصلاة في آخر النهار، كان ذلك قبل فرض الصلوات الخمس، وقال جماعة من السلف، كابن المسيب، ومجاهد، والحسن، وقتادة: "هي الصلوات المكتوبة"[7] ويمكن أن يقال: بأن تخصيص هذين الوقتين، الغداة، والعشي، يمكن يقال: بأنهما أشرف أوقات اليوم مثلاً؛ يعني: الغداة أول النهار، والله قال: وَالْفَجْرِ [الفجر: 1] أقسم به، والراجح أنه: الوقت المعروف، ويدخل فيه مثل: فجر عرفة، ويوم النحر؛ ونحو ذلك، وكذلك الله أقسم بالعصر، والراجح أنه الوقت المعروف لشرفه، فبعضهم يقول: خص هذين الوقتين باعتبار أن الشغل فيهما أكثر، يعني الناس يذهبون في أول النهار لأعمالهم، وحروثهم، فينشغلون فيه، وكذلك أيضًا بالعشي، بعدما يقيلون، ويستريحون، يرجعون إلى أعمالهم، فذلك، وقت للشغل، فإذا كانوا يذكرونه في هذه الأوقات التي ينشغل فيها الناس، عن ذكره، وعبادته، فهم في أوقات الفراغ أكثر ذكرًا، يعني بطريق الأولى، لكن إذا وسع الوقت، وعمم فإن ذلك يشمل كل الأوقات على هذا، أو جملة الأوقات - والله أعلم -.

قوله هنا: يَدْعُونَ [الأنعام: 52] من الدعاء، وذكر الله، أو بمعنى العبادة، سبق الكلام على هذا، وأنه يشمل النوعين.

"قوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] إخبار عن إخلاصهم لله، وفيه تزكية لهم."

بلا شك، واضح هذا.

"قوله تعالى: ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 52] الآية قيل: الضمير في حسابهم للذين يدعون، وقيل: للمشركين، والمعنى على هذا لا تحاسب عنهم، ولا يحاسبون عنك، فلا تهتم بأمرهم حتى تطرد هؤلاء من أجلهم، والأوّل أرجح؛ لقوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: 29] وقوله: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء: 113] والمعنى على هذا أنّ الله هو الذي يحاسبهم فلأي شيء تطردهم؟"

لا شك أن الأقرب - والله تعالى أعلم - هو الأول، كما ذكر قول نوح - عليه، الصلاة، والسلام - لقومه حينما طلبوا منه أن يطرد الأعبد، والضعفاء، والأراذل في نظرهم، فقال: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ۝ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود: 29 - 30] فهذا مع قوله أيضًا حينما خاطبوه : قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] فقال: قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ۝ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 112 - 114] لاحظ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي [الشعراء: 113] هذا صريح في أن المقصود حساب من؟ حساب هؤلاء الضعفاء من المؤمنين، والقرآن يفسر بعضه بعضًا، فيكون الضمير يعود إلى المؤمنين الضعفاء، وليس المشركين إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ [الشعراء: 113] لأنهم كانوا يشككون في مقاصدهم، ونياتهم؛ يعني: يقولون: هؤلاء ما جاءوا إلا من أجل أن يجدوا لقمة، أو طعامًا، أو شيئًا يسد جوعتهم، فيحتفون بك، ويلجؤون إليك، ينضمون إلى مجلسك، يعني يريدون شيئًا، وليس لهم بالهداية رغبة، هكذا يقولون عنهم، فهو يقول لهم: إِنْ حِسَابُهُمْ [الشعراء: 113] يعني ما حسابهم إِلَّا عَلَى رَبِّي [الشعراء: 113] الله هو الذي يعلم بنياتهم، ومقاصدهم، وأحوالهم، وما تنطوي عليه نفوسهم، فيحاسبهم على ذلك وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 112] يعني فيما زعمتهم أنهم لم يكونوا مؤمنين حقًا.

"قوله تعالى: فَتَطْرُدَهُمْ [الأنعام: 52] هذا جواب النفي في قوله: ما عليك."

فَتَطْرُدَهُمْ الفاء هذه للسببية، ويقول: هذا جواب النفي في قوله: ما عليك جواب النفي منصوب بأن مضمرة بعد الفاء على إرادة انتفاء الطرد، انتفاء كون حسابهم على الله، وحسابه أيضًا عليهم، ويعني ما يكون مؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه، فكيف يقع الطرد، يقول: لست محاسبًا عنهم، ولن يحاسبوا عني، فهؤلاء حسابهم على ربي، فكيف أطردهم؟!.

"قوله تعالى: فَتَكُونَ [الأنعام: 52] هذا جواب النهي في قوله: وَلا تَطْرُدِ أو عطف على فَتَطْرُدَهُمْ."

فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ هذا جواب النهي في قوله: وَلا تَطْرُدِ منصوب بأن مضمرة فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وتكون الجملتان على هذا مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 52] جواب الأولى: فَتَطْرُدَهُمْ مع ذلك يعني جملة مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 52] وجواب الجملة الأولى فَتَطْرُدَهُمْ كل ذلك يكون اعتراضًا بين النهي، وجوابه، لا تطرد فتكون من الظالمين.

يقول: أو عطف على فَتَطْرُدَهُمْ فيكون منصوبًا على وجه التسبيب؛ لأن كونه ظالمًا إنما هو مسبب عن هذا الفعل الذي هو الطرد فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ فيكون عطفًا عليه.

  1.  تفسير الطبري (9/260).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي، وقاص برقم (2413).
  3.  أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6/415) برقم (32518).
  4.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/75) برقم (3693).
  5.  تفسير الطبري (9/269 - 270).
  6.  تفسير ابن كثير (3/259).
  7.  المصدر السابق.