المرض يطلق، ويراد به النفاق - ويمكن أن يكون هو المراد هنا - كما جاء في بعض الروايات أن المراد بذلك عبد الله بن أبي، وهذا في رواية قد لا تصح، لكنْ كثير من أهل العلم، ومنهم ابن جرير - رحمهم الله - يقولون: إنها نزلت في عبد الله بن أبي.
قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ المرض يطلق على مرض النفاق كما قال الله : فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة:10]، ويطلق على ضعف الإيمان، وهو أحد المعنيين في قوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ [سورة الأحزاب:12] فهذا العطف هنا إن كان من باب عطف الذوات الذي يقتضي المغايرة، فيكون هذا للتنوع، فيكون الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين - أعني في آية الأحزاب هذه -، وبالتالي يكون المراد بالذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان، وبعض أهل العلم يقول: هذا كله من باب عطف الصفات، والموصوف واحد، فهي من صفات المنافقين، أي أنهم منافقون، وفي قلوبهم مرض، والمقصود أن مرض القلب إذا ذكر في القرآن فتارة يراد به ضعف الإيمان، وتارة يراد به النفاق إلا في موضع واحد، وهو قوله - تبارك، وتعالى -: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32] فهنا المراد به الذي فيه ميل محرم للنساء فالمرض هنا هو الميل المحرم للنساء، وأما المرض في قوله تعالى هنا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [سورة المائدة:52] فيمكن أن يصدق على المنافقين، وعلى ضعفاء الإيمان.
قوله: نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [سورة المائدة:52] يمكن أن يصدق على معنى الدائرة ما ذكره هنا من أنه قد يحصل انتصار للكفار على المسلمين، فيكون هذا الإنسان قد مهد لنفسه، ووطأ لها مخرجاً يعتصم به، ويلجأ إليه، ومما يدخل في الدائرة أيضاً أن يصيب الناس بلاء في، جائحة، أو فقر، أو أي مكروه - نسأل الله العافية - فيكون له من الرفد، والمعتصم - في زعمه - يعني لا يقطع العلائق بالكفار، ويتبرأ منهم، وإنما يجعل له خطوط رجعة بحيث إذا حصل مكروه، أو شيء يكون له أيادٍ عند هذا، وهذا فينجو بها بزعمه.
قد عرفنا قبلُ أن "عسى" من الله، واجبة، يعني أن ذلك متحقق الوقوع، وأن أصلها للترجي في كلام المخلوقين، وإذا صدرت من الله فهو علام الغيوب فالمراد بها التحقيق، ولهذا قالوا: "عسى" من الله واجبة، وعلى هذا يكون قوله: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] أي أمر فتح مكة، أو ظهور النبي ﷺ على الكفار - سواء كانوا من كفار مكة، أو من غيرهم - بالفتح، والنصر، والغلبة، والظهور على الكافرين من المشركين، ومن اليهود، والنصارى كما حصل بفتح قريظة، والنضير، وسائر اليهود كبني قينقاع، وهكذا ما حصل من الفتوح كفتح فارس، والروم، وما أشبه هذا، وهذا المعنى الثاني أحسن لأنه حملٌ للمعنى على العموم.
قوله: "يعني ضرب الجزية" هذا أحد المعاني الداخلة، والمعنى أنه يحصل انتصار للمسلمين، أو يحصل أمر من عند الله تندفع به صولة الكفار، وتنطفئ نارهم، ويحصل الظهور لدين الله - تبارك، وتعالى -، وتنتفي المخاوف.
وبعضهم يقول في قوله تعالى: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ يعني كشف المنافقين، وفضحهم، وتعريتهم، وما أشبه ذلك، وبعضهم يقول: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ أي ما يحصل من السعة، والخصب، وما أشبه ذلك من الأمور التي يستغنون بها عن الكفار، والحاصل أن الله يقول: فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [سورة المائدة:52] بالغلبة، والنصر أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ بأي أمر يحصل به دحر الكافرين، ومحقهم، ودفع صولتهم، وما أشبه ذلك، فالله على كل شيء قدير.
هذه الجملة وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ فيها ثلاث قراءات متواترة، قراءتان بالواو، وقراءة بحذف الواو، فالقراءتان بالواو أولاهما بالرفع، والثانية بالنصب - في اللام من قوله: وَيَقُولُ وإحدى القراءات بحذف الواو، والرفع، فعلى هذه الأخيرة يكون كلاماً مبتدأً هكذا: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [سورة المائدة:52] ثم ابتدأ كلاماً جديداً: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ [سورة المائدة:53].
فعلى قراءة النصب يمكن أن يكون ذلك عطفاً على فَيُصْبِحُواْ هكذا فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ إلى أن قال: أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ.. [سورة المائدة:52] أي فإذا جاء النصر، أو الأمر من عند الله يحصل من جراء ذلك الندم فيصبحوا، ويقولَ الذين آمنوا، هذا الاحتمال الأول.
وبعضهم يقول: إن قوله: وَيَقُولَ معطوف على يَأْتِيَ هكذا: فعسى الله أن يأتي بالفتح، ويقولَ الذين آمنوا، وبعضهم يقول: إنه معطوف على الفتح هكذا: فعسى الله أن يأتي بالفتح، ويقولَ الذين آمنوا، وعلى كل حال فالقول الأول لعله أقرب، وأرجح، وهذا على قراءة النصب في (يقولَ) كما سبق أن ذكرنا، وأما بالنسبة لقراءة الرفع مع ثبوت الواو وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ تكون الجملة استئنافية - والله أعلم -.
قوله: "أربعمائة حاسر " الحاسر هو الذي ليس عليه لا درع، ولا مغفر.
وقوله: "منعوني من الأحمر، والأسود" هذا يقال للتعميم، يعني منعوني من جميع الناس أحمرهم، وأسودهم، ويقال: بُعث النبي ﷺ إلى الأحمر، والأسود، يعني لجميع الخلق.
إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله ﷺ: هم لك
"قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله ﷺ."
الرواية السابقة كما هو بين أنها من طريق ابن إسحاق، ومثل هذه الروايات تذكر في السير ليس لها إسناد، وقد يتساهل في الرواية فيما يتعلق بالسير بشروط، لكن حينما نقول: إن هذا هو سبب النزول فهذا لابد له من النظر في صحة الإسناد.
وعبد الله بن أبي هو من زعماء الخزرج، وقد كان الحلف بين الخزرج، وبين النضير، وبني قينقاع، وأما الأوس فكان حلفاؤهم قريظة، ولهذا لما صارت وقعة قريظة جاء الأوس إلى سعد بن معاذ يطوفون به، وهو على حماره، ويقولون: الله الله في مواليك، ولقد كان الأوس، والخزرج في الجاهلية يتنافسون في المكارم، فيقولون: إن الخزرج أحسنوا إلى حلفائهم في قينقاع، والنضير، وكانت وقعة النضير قبل وقعة قريظة حيث قيل: إنها كانت بعد وقعة أُحد بأربعة أشهر، وقيل: بعد أُحد، وبئر معونة، وأما وقعة قريظة فكما هو معروف أنها كانت بعد الأحزاب مباشرة حيث انطلق إليهم النبي ﷺ بعد عودته من الأحزاب، وبالنسبة لعبادة بن الصامت فهو من رهط عبد الله بن أبي من الخزرج، وقد تبرأ من حلفه هذا، وإن كانت هذه الرواية هنا لا تصح.
قال سبحانه: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56]، ولم يقل: فإنهم الغالبون؛ وهذا إظهار في موضع الإضمار، والإظهار في موضع الإضمار يكون لعلل، وأغراض شتى في البلاغة كما هو معروف.
وهنا كما نذكر مراراً أنه قد يذكر حكماً خاصاً، ثم يأتي بالحكم العام؛ ليشمل كل ما ينطبق عليه ذلك الحكم العام فهنا قال: وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:56]، وحزب الله هم أتباع دينه، وأنصار رسوله ﷺ.
والحزب أصله في لغة العرب الجماعة من الناس كما قال بعضهم، وبعضهم يقول: هم جماعة فيها غِلَظ يعني شدّة، بمعنى أنه يتحزب بعضهم لبعض، ويرتبط بعضهم ببعض، فيكون ذلك مقوياً لأمرهم.
- رواه ابن إسحاق بإسناد منقطع، ومن طريقه الطبري في التاريخ، والبيهقي في الدلائل، والخبر مشهور في كتب السيرة.