يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه، وإقامة شريعته؛ فإن الله يستبدل به من خير لها منه، وأشدَّ منعة، وأقومَ سبيلاً كما قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [سورة محمد:38]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [سورة إبراهيم:19-20] أي: بممتنع، ولا صعب، وقال تعالى هاهنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ [سورة المائدة:54] أي: يرجع عن الحق إلى الباطل، وهذا خطاب عام إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:54] هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه، ووليه، متعززاً على خصمه، وعدوه كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [سورة الفتح:29] وفي صفة رسول الله ﷺ أنه الضحوك القتّال، فهو ضحوك لأوليائه، قتّال لأعدائه.
وقوله : يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [سورة المائدة:54] أي: لا يردهم عن ما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادٌّ، ولا يصدهم عنه صادٌّ، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل.
روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: "أمرني خليلي ﷺ بسبع: أمرني بحب المساكين، والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرَتْ، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش"[1]".
فيما يتعلق بالنظر إلى من دونه فالمراد به في أمور الدنيا خاصة، وأما في معالي الأمور، وفي طاعة الله فإنه لا ينظر إلى من دونه فيقول مثلاً: أنا أحسن من غيري، فأنا على الأقل أصلي في المسجد، فهذا لا يجوز، وإنما ينظر إلى من دونه في أمور الدنيا؛ فهذا حري به أن يعرف قدر نعمة الله عليه.
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أورد هذه الرواية: ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه بعد قوله تعالى: وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [سورة المائدة:54]، وبعد حديث أبي ذر الذي فيه: "أن أقول الحق ولو كان مراً" وهذا في غاية المناسبة، فهذا الأمر - وإن كان ليس له علاقة بتفسير الآية - إلا أنه يُحتاج إليه؛ فالإنسان يقول الحق، ولا يخاف في الله لومة لائم، لكن ينبغي أن يكون ذلك بمراعاة هذا المعنى، فالمؤمن ليس له أن يُذلَّ نفسه بأن يُعَرِّض نفسه لما لا يطيق من البلاء، فمن الناس من قد يقوم، ويتكلم، أو يخطب خطبة؛ ثم يحصل له بعد ذلك بلاء، أو أذى يؤذي به إلى أن ينكسر، وقد يقوم إنسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك يُؤذَى فينكسر، فعلى الإنسان أن يتحمل من الأعمال ما يطيق، ومعنى ما يطيق أي ما يطيقه في لحظته هذه، وما يطيق تبعته، ولذلك فإنه يسقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله إذا كان يلحقه من جراء ذلك ما يعذر بمثله، فلا يكون فرض عين عليه لو كان فرض عين، أعني أنه في بعض الصور، وفي بعض الحالات - وهذا أمر ينبغي أن يكون على بال الإنسان - تجد كثيراً من الناس يدخل في أشياء ثم بعد ذلك يحصل له من الذل ما لا يقادر قدره، ويصدر منه من التصرفات ما كان في غنىً عنه في أول الأمر، فهو لم يكن بحاجة إلى أن يدخل في هذا كله أصلاً، فالمؤمن لا يذل نفسه بهذا الاعتبار، فإن كان الشيء في طوقه فهذا مطلوب، وأما إن كان يعجز عنه إما حقيقة، أو حكماً؛ فإن ذلك يسقطه عنه، ولا يكون مطالباً به، والله أعلم.
- أخرجه أحمد (21453) (ج 5 / ص 159) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2166).
- أخرجه الترمذي في كتاب الفتن - باب 67 (2254) (ج 4 / ص 522) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [سورة المائدة:105] (4016) (ج 1 / ص 1332) وأحمد (23491) (ج 5 / ص 405) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7797).