الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ۝ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ۝ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [سورة المائدة:54-55].
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه، وإقامة شريعته؛ فإن الله يستبدل به من خير لها منه، وأشدَّ منعة، وأقومَ سبيلاً كما قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [سورة محمد:38]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۝ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [سورة إبراهيم:19-20] أي: بممتنع، ولا صعب، وقال تعالى هاهنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ [سورة المائدة:54] أي: يرجع عن الحق إلى الباطل، وهذا خطاب عام إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة المائدة:54] هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه، ووليه، متعززاً على خصمه، وعدوه كما قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [سورة الفتح:29] وفي صفة رسول الله ﷺ أنه الضحوك القتّال، فهو ضحوك لأوليائه، قتّال لأعدائه.
وقوله : يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [سورة المائدة:54] أي: لا يردهم عن ما هم فيه من طاعة الله، وإقامة الحدود، وقتال أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يردهم عن ذلك رادٌّ، ولا يصدهم عنه صادٌّ، ولا يحيك فيهم لوم لائم، ولا عذل عاذل.
روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: "أمرني خليلي ﷺ بسبع: أمرني بحب المساكين، والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرَتْ، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئاً، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنهن من كنز تحت العرش"[1]".

فيما يتعلق بالنظر إلى من دونه فالمراد به في أمور الدنيا خاصة، وأما في معالي الأمور، وفي طاعة الله فإنه لا ينظر إلى من دونه فيقول مثلاً: أنا أحسن من غيري، فأنا على الأقل أصلي في المسجد، فهذا لا يجوز، وإنما ينظر إلى من دونه في أمور الدنيا؛ فهذا حري به أن يعرف قدر نعمة الله عليه.

"وثبت في الصحيح: ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يتحمل من البلاء ما لا يطيق[2]".

الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أورد هذه الرواية: ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه بعد قوله تعالى: وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [سورة المائدة:54]، وبعد حديث أبي ذر الذي فيه: "أن أقول الحق ولو كان مراً" وهذا في غاية المناسبة، فهذا الأمر - وإن كان ليس له علاقة بتفسير الآية - إلا أنه يُحتاج إليه؛ فالإنسان يقول الحق، ولا يخاف في الله لومة لائم، لكن ينبغي أن يكون ذلك بمراعاة هذا المعنى، فالمؤمن ليس له أن يُذلَّ نفسه بأن يُعَرِّض نفسه لما لا يطيق من البلاء، فمن الناس من قد يقوم، ويتكلم، أو يخطب خطبة؛ ثم يحصل له بعد ذلك بلاء، أو أذى يؤذي به إلى أن ينكسر، وقد يقوم إنسان بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك يُؤذَى فينكسر، فعلى الإنسان أن يتحمل من الأعمال ما يطيق، ومعنى ما يطيق أي ما يطيقه في لحظته هذه، وما يطيق تبعته، ولذلك فإنه يسقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله إذا كان يلحقه من جراء ذلك ما يعذر بمثله، فلا يكون فرض عين عليه لو كان فرض عين، أعني أنه في بعض الصور، وفي بعض الحالات - وهذا أمر ينبغي أن يكون على بال الإنسان - تجد كثيراً من الناس يدخل في أشياء ثم بعد ذلك يحصل له من الذل ما لا يقادر قدره، ويصدر منه من التصرفات ما كان في غنىً عنه في أول الأمر، فهو لم يكن بحاجة إلى أن يدخل في هذا كله أصلاً، فالمؤمن لا يذل نفسه بهذا الاعتبار، فإن كان الشيء في طوقه فهذا مطلوب، وأما إن كان يعجز عنه إما حقيقة، أو حكماً؛ فإن ذلك يسقطه عنه، ولا يكون مطالباً به، والله أعلم.

"ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [سورة المائدة:54] أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه، وتوفيقه له وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ أي: واسع الفضل، عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه".
  1. أخرجه أحمد (21453) (ج 5 / ص 159) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2166). 
  2. أخرجه الترمذي في كتاب الفتن - باب 67 (2254) (ج 4 / ص 522) وابن ماجه في كتاب الفتن - باب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ [سورة المائدة:105] (4016) (ج 1 / ص 1332) وأحمد (23491) (ج 5 / ص 405) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7797).

مرات الإستماع: 0

"وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ خطاب على وجه التحذير، والوعيد، وفيه إعلام بارتداد بعض المسلمين، فهو إخبارٌ بالغيب قبل وقوعه، ثم وقع، فارتدّ في حياة رسول ﷺ بنو حنيفة، وقوم مسيلمة الكذاب، وبنو مُدلِج، وقوم الأسود العنسي الذي ادعى النبوءة، وقُتِلَ في حياة رسول الله ﷺ وبنو أسد؛ قوم طليحة بن خويلد، الذي ادّعى النبوءة، ثم أسلم، وجاهد، ثم كثر المرتدون، وفشا أمرهم بعد موت رسول الله ﷺ حتى كفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق وكانت القبائل التي ارتدت بعد، وفاة رسول الله ﷺ سبع قبائل: بنو فزارة، وغطفان، وبنو سليم، وبنو يربوع، وكندة، وبنو بكر بن وائل، وبعض بني تميم، ثم ارتدت غسان في زمان عمر بن الخطاب، وهم قوم جبلة بن الأيهم؛ الذي تنصر من أجل اللطمة".

في القصة المعروفة لما جاء، وطاف بالكعبة، فوطئ على طرف ثوبه، أو ردائه أعرابي، فالتفت إليه جبلة، ولطمه، فشكا إلى عمر، فأراد عمر أن يقتص للأعرابي من جبلة، وجبلة بمنزلة الملك بالنسبة لقومه، فعظُمَ ذلك في نفسه، وطلب من عمر الإمهال، ثم بعد ذلك كان قد قدم على عمر معه نحو ما يقرب من ستمائة فارس، أو قريب من هذا العدد، ثم رجع، وتنصر[1].

"فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ روي أن رسول الله ﷺ قرأها، وقال: هم قوم هذا[2] يعني أبا موسى الأشعري، والإشارة بذلك - والله أعلم - إلى أهل اليمن؛ لأن الأشعريين من أهل اليمن، وقيل: المراد: أبو بكر الصديق، وأصحابه، الذين قاتلوا أهل الردّة، ويقوي ذلك ما ظهر من أبي بكرٍ الصديق من الجد في قتالهم، والعزم عليه حين خالفه في ذلك بعض الناس، فاشتد عزمه حتى وافقوه، وأجمعوا معه، فنصرهم الله على أهل الردة، ويقوي ذلك أيضًا أن الصفات التي وصِفَ بها هؤلاء القوم هي أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وكان أبو بكر ضعيفًا في نفسه، قويًّا في الله، وكذلك قوله: وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ إشارةٌ إلى من خالف أبا بكر، ولامه في قتال أهل الردّة، فلم يرجع عن عزمه".

قوله هنا: "روي أن رسول الله ﷺ قرأها، وقال: هم قوم هذا[3] يعني أبا موسى الأشعري" هذا جاء عن أبي موسى والرواة فيه عن شعبة بن الحجاج اختلفوا في وصله، وإرساله، فاثنان من هؤلاء الرواة رووه موصولًا عن أبي موسى  وثمانية من الرواة رووه مرسلًا، وكأن الأقرب - والله أعلم - أن هذه مرسلة، وأن ذلك لا يصح في سبب النزول.

وجاء بإسنادٍ حسن عن جابر أن النبي ﷺ سُئل عنها فقال: هؤلاء قومٌ من اليمن، ثم من كندة، ثم السكون، ثم تجيب[4].

يقول: "وقيل: المراد: أبو بكر الصديق، وأصحابه".

وهنا نقل في الحاشية عن ابن عطية قال: "فيها الحسن بن أبي الحسن، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، وقتادة: نزلت الآية خطابًا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، والإشارة بالقوم الذين لم يأتِ الله بهم إلى أبي بكر الصديق، وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، وقال هذا القول: ابن جريج، وغيره"[5].

لكن الآية عامة، ولا تختص بأبي بكر ولا شك أن أبا بكر ممن يدخل في ذلك.

قال: "باعتبار أن هذه الأوصاف..." إلى آخره.

قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذل يقابل العز، والمراد هنا: اللين، والسهولة، والرحمة مع المؤمنين، والشفقة، والرأفة بهم، والحنو على أهل الإيمان، والشدة، والغلظة على أعداء الله .

"أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كقوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] وإنما تعدّى أَذِلَّةٍ بــعَلَى لأنه تضمن معنى العطف، والحنوّ".

لم يقل: مع المؤمنين، وإنما قال: عَلَى الْمُؤْمِنِينَ باعتبار أن المعنى: أنهم أصحاب حنو، وشفقة على المؤمنين.

"فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟ فالجواب: أنه محذوف، تقديره: من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ مكانهم، أو بقومٍ يقاتلونهم".

يقول: "أين العائد من الجزاء إلى الشرط؟" الجزاء: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ والشرط: مَنْ يَرْتَدَّ فأين العائد؟ يقول: تقديره: "مكانهم" فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ مكانهم بِقَوْمٍ.

  1.  حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي، وكفاية الراضي (1/355).
  2.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (1016)، وابن أبي شيبة برقم: (664)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7/1103): قلت: وهذا إسناد صحيح متصل.
  3.  سبق تخريجه.
  4.  أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم: (1392)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (7/1105): وعلى كل حال فالإسناد جيد، رجاله كلهم ثقات؛ غير معاوية بن حفص - وهو الشعبي الحلبي -.
  5.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/207).