هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام، وأهله من الكتابيين، والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي، وأخروي، يتخذونها هزواً يستهزئون بها، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد، وفكرهم البارد.
وقوله تعالى: مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ "مِن" هاهنا لبيان الجنس كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [سورة الحـج:30].
وقرأ بعضهم: (والكفارِ) بالخفض عطفاً، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ تقديره، ولا الكفار أولياء، أي: لا تتخذوا هؤلاء، ولا هؤلاء أولياء، والمراد بالكفار هاهنا المشركون، وكذلك وقع في قراءة ابن مسعود فيما رواه ابن جرير: (لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً، ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الذين أشركوا)."
فقوله - تبارك، وتعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء [سورة المائدة:57]..الخ، هؤلاء الذين ذكر الله صفتهم لا يختص النهي عن الموالاة بهم، وإنما لا يجوز موالاة المشركين بجميع طوائفهم، ولو كان الواحد منهم لا يتخذ آيات الله هزواً، ولو كان لا يستهزئ بالمسلمين، ولو كان كفره من قبيل كفر الإعراض، ولم يحصل منه شيء من الاستهزاء بآيات الله ، ودينه، ورسوله ﷺ، فالمقصود أن العداوة مع المشركين ليست لمجرد أنهم يتخذون آيات الله هزواً، أو لأنهم يقاتلوننا، أو نحو ذلك، وإنما لكفرهم، فهذا أصل كبير، فإن جمعوا معه الاستهزاء فهذا أشد، وإن جمعوا معه القتال، فكذلك، ولذلك لا يجوز لأحد أن يقول: إن العداوة إنما تكون للذين قاتلونا في الدين أبداً، وإنما للمشركين بجميع طوائفهم من أهل الكتاب، وغيرهم.
وقوله - تبارك، وتعالى -: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة:8] بمعنى الإفضاء فهذا في البر، والإحسان، والمعاملة، والمخالطة؛ لأن قوله: وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ مضمَّن معنى الإفضاء، لذلك عُدِّي بـ"إلى" فهذا في المعاملة، وفي الإحسان، والبر، وما أشبهه، وليس في الموالاة، ولذلك فإن هؤلاء لا يجوز موالاتهم، ولو لم يقاتلونا في الدين، فهذا أصل كبير ينبغي أن يكون على بال المسلم دائماً، وهو أن الكافر لا يجوز موالاته، مهما كان حاله.
وهنا قد يقول قائل: إن كل كافر متخذ لآيات الله هزواً، نقول: إن فهمت هذا، أو فهمت أن كفر الكافر من قبيل كفر الإعراض أحياناً بحيث لم يتخذ آيات الله هزواً فإنه لا يجوز موالاته، لكن الآيات قد تنزل لسبب، ويذكر معه قيد كقوله - تبارك، وتعالى -: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:28] فهذا القيد مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ قيد نزل لموافقة واقع معين، وذلك أنه حصل من بعض المؤمنين أن تولوا بعض الكافرين ضد بعض المؤمنين، فهذا لا يجوز، فنزلت الآيات بناء على ذلك، ومثل ذلك قوله تعالى: وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [سورة النــور:33]، فلا يجوز أن تمكن من البغاء أصلاً، إذا أرادت تحصناً، أو لم ترد، ولكن الآية نزلت موافقة لواقع حصل، فذكر هذا القيد، وبناء عليه لا يكون له مفهوم مخالفة، فهنا: لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا [سورة المائدة:57] فإن لم يتخذه هزواً، ولعباًَ بأن كان ذلك الشخص كافراً لم يتخذ ديننا هزواً هل يجوز أن نواليه؟ الجواب: لا يجوز موالاته بحال من الأحوال، فلو أنه حصل من الكفار استهزاء بالنبي ﷺ، فجمعوا كفراً إلى كفرهم، وغيرهم أنكروا هذا، وقالوا: هذا لا يصح، ولا يسوغ بحال من الأحوال فلم يحصل منهم هذا الاستهزاء لكنهم لم يؤمنوا به –عليه الصلاة، والسلام - فهل معنى ذلك أن نتخذهم أولياء؟ الجواب: لا يجوز أن يُتخذوا أولياء.
وهنا في قوله: مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء [سورة المائدة:57] في قراءة الجر حيث قرأ بعضهم (والكفارِ) بالخفض عطفاً، على هذا يكون هكذا لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ [سورة المائدة:57] فالذين أوتوا الكتاب هنا في محل جر بـ"من" يعني من الذين أوتوا الكتاب، ومن الكفار، يعني لا تتخذوا المستهزئين من الكتابيين، والكافرين أولياء.
وعلى النصب لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ [سورة المائدة:57] يكون منصوباً على أنه مفعولٌ، وقرأ بعضٌ آخرون بالنصب على أنه معمول لقوله: لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ يعني لا تتخذوا أهل الكتاب، والكفار أولياء، والولاية عرفنا أنها بمعنى النصرة.