"هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي: هل تعيبون علينا، وتنكرون منا إلا إيماننا بالله، وبجميع كتبه، ورسله؛ وذلك أمر لا ينكر، ولا يُعاب، ونظير هذا في الاستثناء العجيب، قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم |
بهنّ فلول من قراع الكتائب. |
ونزلت الآية بسبب أبي ياسر بن أخطب، ونافع بن أبي نافع، وجماعة من اليهود سألوا رسول الله ﷺ عن الرسل الذين يؤمن بهم، فتلا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [المائدة: 59] إلى آخر الآية، فلما ذكر عيسى قالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا بمن آمن به".
فقوله - تبارك، وتعالى - : هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الآية، يقول: "أي: هل تعيبون علينا، وتنكرون منا إلا" يعني الإيمان، وهذا كقوله - تبارك، وتعالى - : وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 8] وكقوله: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة: 74].
وما ذكر هنا من أنها نزلت بسبب هؤلاء النفر من اليهود، جاء هذا عن ابن عباس - ا - لكنه لا يصح من جهة الإسناد، فالرواية في تمامها، ولفظها مصرحة بأنه سبب النزول؛ لأنه قال في آخرها: "فأنزل الله فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا" لكنها لا تصح.
"قوله تعالى: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قيل: إنه معطوف على آمَنَّا وقيل: على مَا أُنْزِلَ وقيل: هو تعليل معطوف على تعليل محذوف تقديره: هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم؛ ولأن أكثركم فاسقون، ويحتمل أن يكون: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ مبتدأ، وخبره محذوف تقديره: فِسقكم معلوم، أو ثابت".
هذا من المواضع التي لا بد فيها من معرفة الإعراب، والإعراب كما هو معلوم مرتبطٌ بالمعنى، وكما يقال: الإعراب تحت المعنى، فقوله هنا: "وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ" يقول: "قيل: إنه معطوف على آمَنَّا" يعني التقدير: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وآمنا بأن أكثركم فاسقون، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -.
يقول: "وقيل: على مَا أُنْزِلَ" يعني معطوف على ما أُنزل، فيكون التقدير: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ وهذا قريب من الذي قبله، ومن قال بأنه معطوف على أَنْ آمَنَّا يكون المعنى: ما تنقمون إلا الجمع بين إيماننا، وبين تمردكم، وخروجكم عن الإيمان.
يقول: "وقيل: هو تعليل معطوف على تعليلٍ محذوف، تقديره: هل تنقمون منا إلا لقلة إنصافكم؛ ولأن أكثركم فاسقون" فالتعليل "ولأن أكثركم فاسقون" فقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ يكون تعليلاً لهذه النقمة.
يقول: "ويحتمل أن يكون: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فِسقكم معلوم، أو ثابت" هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ معلوم، أو وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ متقرر، لكن لا يخلو هذا من بُعد، ويحتمل أنه منصوب بفعلٍ محذوف، والتقدير: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون؛ يعني: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، ويحتمل أنه على تقدير حذف مضاف هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ واعتقاد أنكم فاسقون، أو: ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله، وبأن أكثركم فاسقون، يعني: بسبب فسقكم حصلت هذه النقمة علينا، حيث نقمتم الإيمان، أو بسبب فسقكم نقمتم علينا الإيمان، يعني لئن آمنا، ولأن أكثركم فاسقون.
وبعضهم يقول: هذا تخصيصٌ لهم بالفسق، فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم، والمعنى: "وما تنقمون منا إلا أن آمنا، وما فسقنا مثلكم" فهذه الأوجه تحتملها الآية، لكن القاعدة - كما هو معلوم - أن الأصل عدم التقدير، وإذا دار الكلام بين الاستقلال، والإضمار، فالأصل: الاستقلال، يعني أن الكلام تام بلا تقدير، وبعض هذه الوجوه - كما ترون - لا تحتاج إلى تقدير، مثلاً ما ذكر هنا أولاً: بأنه معطوفٌ على آمَنَّا هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وأن آمنا بالله، وأن أكثركم فاسقون، فهذا قريب - والله أعلم -.
ومن الأقوال القريبة مع التقدير القول الآخر الذي ذكره أنه "تعليل معطوف على تعليلٍ محذوف" يعني: "ولأن أكثركم فاسقون" والمحذوف: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا لكن ما قبله أولى منه - والله أعلم -.
وأيضًا من الأشياء التي تحتملها الآية من المعنى، والإعراب، والتقدير، يقول: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَضأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ يعني باعتبار أنه لما ذكر ما ينقمون منه من الإيمان، وليس ذلك مما يُنقم، ذكر في مقابله فسقهم، وهو مما يُنقم من باب المقابلة، كقولك مثلاً: هل تنقِم مني إلا أني عفيف، وأنك كذا؟ يعني بخلاف هذا الوصف، وبعضهم يقول بأن الواو هذه في قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ هي بمعنى (مع) يعني: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ مع أن أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ فكل هذا يحتمل - والله أعلم - وأبو حيان في البحر المحيط ذكر فيه ثمانية أوجه.