المثوبة أي الجزاء الثابت، وقد يكون الأصل فيها من الثواب بحيث تطلق في جانب الخير، تقول: أثابه بكذا، وقد تستعمل في العقاب، كما يقال في البشرى على القول المشهور بأن البشارة إنما تكون فيما يحبه الإنسان - في الخير -، وقد تستعمل في غيره من باب التهكم، هكذا قال بعضهم، وإن كان من أهل العلم من يقول بخلاف هذا، لكن على كل حال من المسلّم به أن الثواب، والبشارة، وما أشبه ذلك غالباً ما تستعمل في جانب الخير، وإلا فقد قال الله عن الكافرين بآيات الله: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة آل عمران:21]، وهكذا الأمر في التحية فهي مما يقال عند أول اللقاء كالسلام، وقولهم: حياك الله، فهذا أصلها، وقد تستعمل في غير ذلك، أي قد تستعمل هذه مكان هذه كما قال القائل:
وخيل قد دلفت لها بخيل | تحية بينهم ضرب وجيع |
قردة مثل أصحاب القرية الذين يعدون في السبت، الذين قال الله تعالى عنهم: فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ [سورة البقرة:65] كما مسخ الله بعضهم خنازير، وقد قيل: إن أولئك من الكفار من أصحاب المائدة الذين توعدهم الله بقوله: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:115]، فمن كفر منهم بعد نزول المائدة التي طلبوها قيل: إنهم مسخوا إلى خنازير، وعلى كل حال سواء كان هؤلاء، أو غير هؤلاء فالله - تبارك، وتعالى - مسخ من أهل الكتاب قردة، وخنازير، وهي أقبح الحيوانات فأكثر الحيوانات دناءة القرد، والخنزير، فالله مسخهم إلى قردة، وخنازير مسخاً حقيقياً لا مرية فيه، وهذا رد من الردود القرآنية على أهل الكتاب مما يحتاجه المسلمون اليوم لكثرة استهزاء أهل الكتاب بهذا الدين، وبأهل الدين، ورميهم بالأوصاف القبيحة، فهم يطعنون في الإسلام، ويرمون أهله بأسوأ الأوصاف، فالمفترض بدلاً من أن نجاريهم فيما يطلقون، وملئووا به الفضاء من بعض العبارات، والكلمات التي ما فتئوا يرددونها، وينسبون الإسلام إليها، بدلاً من أن نرددها جهلاً معهم، فالمفترض أن نقول لهم: هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [سورة المائدة:59-60] أي أنتم أسوأ، وأنتم الذين تستحقون كل وصف ذميم يا إخوان القردة، والخنازير، هذا هو الذي يفترض أن يرد عليهم به لا أن يجاروا في طعونهم في ديننا.
لما وُضع الضب بين يدي النبي ﷺ، ولم يأكل منه - عليه الصلاة، والسلام - جعل ﷺ يعد أصابع الضب بعود كان معه، ووجد أن له خمسة أصابع فذكر ﷺ أنه يخشى أن يكون هذا مما مسخ، وكذلك أيضاً ذكر الفأرة مرة، وأن أمة من بني إسرائيل قد ذهبت لا يُدرى إلى أي شيء صارت، وذكر أنه يخشى أن تكون الفأرة، وكان قد ذكر من حالها أنها تقرب السمن، ولا تقرب اللبن، وحيث إن بني إسرائيل حرم عليهم ذلك، فالحاصل أن النبي ﷺ كان في أول الأمر يظن ذلك، ثم أوحي إليه أن الله لم يجعل لمسخ نسلاً، فالجيل الذي يمسخ إلى قردة، أو خنازير، أو نحو ذلك لا يتوالدون، وإنما ينتهون، فهذه القردة، والخنازير التي نشاهدها الآن ليست من أولاد أولئك الذين قد مسخوا بل هي من الفصيلة الأصلية في القردة، والخنازير -والله أعلم -.
والمقصود أن الله تعالى في هذه الآيات، ونحوها يشبههم بالقردة، والخنازير، وينهى المسلمين عن موالاتهم، ويذكر الأوصاف التي تنفر المسلمين منهم فقال: اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا [سورة المائدة:57]، وقال: هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [سورة آل عمران:119]، وهناك آيات كثيرة في هذا الشأن فالقرآن مليء بهذه النصوص، واليوم يأتي من يكتب، ويتكلم فيسميهم بالآخر، ويقول: أنا، والآخر، وتجد من يقول: لا يجوز لعنهم، ولا الدعاء عليهم مع أن القرآن - كما هو واضح - يلعنهم لعناً متتابعاً، وينفر المسلمين من موالاتهم، ويذكرهم بأقبح الأوصاف، واليوم تسمع من يقول: هذا الأسلوب يثير الكراهية، والمفروض أن يكون هناك تعايش، ومحبة، وعدم إقصاء الآخر، فمشكلة هؤلاء مع القرآن، فهذا القرآن ناطق بهذه الأمور، وهو مشتمل على كثير منها، وهؤلاء ليس أمامهم إلا أن يكفروا بالقرآن، ويتخلوا عنه، ويقولون: هذا ما يصلح، ويبحثون عن قرآن آخر، أو يحذفون ما لا يقل عن ثلث القرآن، ويبقون على الآيات التي تتكلم عن بر الوالدين، وصلة الرحم، والآيات التي تتكلم عن حق الجار، وحق القرابات، والعفو، والصفح، يكتفون بهذا، والباقي يحذفونه، وأما نحن فنقول: هذه القضايا الحمد لله ثابتة مهما حصل فيها من التضليل؛ لأنها أصل كبير في القرآن ما يستطيعون أن ينفخوا على الشمس لإطفائها، وهذا إطفاء لنور الله، لن يستطيعوا إبطال هذه الحقائق الكبيرة التي في القرآن مهما فعلوا، فهذه لن تزول أبداً، وستبقى، وسيذهبون، ويبقى الحق كما قال تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [سورة الرعد:17] لكن على المسلم أن لا يغتر بهذه الدعوات المضللة - والله المستعان -.
هذه فيها قراءات متواترة، وغير متواترة، يعني مجموع القراءات التي فيها ربما تزيد عن العشر - المتواترة، وغير المتواترة - لكن القراءات المتواترة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، و(عَبُدَ الطاغوتِ) بضم الباء، وفتح العين، والإضافة، وهذه هي قراءة حمزة، وقرأ ابن عباس (عُبُد)، وعلى كل حال العُبُد: جمع عبد، يجمع على أعبد، وعبيد، وعُبُد، وعُبْدَان، إلى غير ذلك من الصيغ التي يجمع فيها.
لأنه كما هو معروف أن أفعل التفضيل الأصل فيه أنه في اثنين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما، تقول: فلان أكرم من فلان أي أنهما اشتركا في الكرم، لكن قوله: وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ هنا أفعل التفضيل ليس على بابه، وإنما المقصود مطلق الاتصاف، أي تحقيق هذا الوصف فيه، وإلا ففي الضلال لا مقارنة، إذ لا يمكن أن يقارن المسلمون مع أهل الكتاب، وإنما المسلمون على هدى، وأهل الكتاب على ضلال.
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال (3129) (ج 3 / ص 1203)، ومسلم في كتاب القدر - باب بيان أن الآجال، والأرزاق، وغيرها لا تزيد، ولا تنقص عما سبق به القدر (2663) (ج 4 / ص 2050).