الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغْسِلُوا۟ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُوا۟ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَٱطَّهَّرُوا۟ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا۟ مَآءً فَتَيَمَّمُوا۟ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُوا۟ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة:6].
قوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، ولكن هو في حق المحدث واجب، وفي حق المتطهر ندب."

في قوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ هذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب، فهل يجب ذلك على كل قائم إلى الصلاة؟
مع أن سورة المائدة من آخر ما نزل في الأحكام، أي لم ينسخ منها شيء، ومع ذلك بعض أهل العلم يقول: كان في أول الأمر يجب على الإنسان إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ ذلك لما فتح النبي  ﷺ مكة حيث صلى الصلوات بوضوء واحد فلما سئل عن ذلك قال: عمداً فعلت[1] فقالوا: كان يجب أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة، وهو ظاهر هذه الآية، ثم بعد ذلك نسخ، لكن يقال: إن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والقول بأن في سورة المائدة شيئاً منسوخاً فيه إشكال، ولهذا قال بعض أهل العلم: إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهارة أي عليكم حدث فتوضئوا، ولعله أحسن من هذا - والله تعالى أعلم - أن هذه الآية فيها أمر عام بالوضوء إذا قام الإنسان إلى الصلاة، والأصل أن الأمر للوجوب لكن قد يصرفه صارف إلى الاستحباب، فإذا جمعنا النصوص فإننا نجد ما يفسره، فنقول: الله أمر بالوضوء عند القيام إلى الصلاة، فهذا تارة يكون واجباً، وذلك إذا كان الإنسان محدثاً، وتارة يكون مندوباً، وذلك إذا كان الإنسان متطهراً، ولا شك أنه يندب، أو يستحب، أو يسن للإنسان أن يتوضأ لكل صلاة، فهذا هو الأفضل، والأكمل، فتكون الآية عامة، ولكنها في حق المحدث للوجوب، وفي حق المتوضئ - المتطهر - تكون للاستحباب، ويبقى الأمر على عمومه، وفي حق المتوضئ صرفه صارف من السنة، وهو فعل النبي ﷺ، وعلى كل حال هذا الذي ذكرته أقرب في تفسير الآية، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري، وابن كثير - رحمهما الله -، - والله تعالى أعلم -.
"وقد قيل: إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجباً في ابتداء الإسلام، ثم نسخ.
وروى الإمام أحمد بن حنبل عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ، ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله؟ قال: إني عمداً فعلته يا عمر[2]، وهكذا رواه مسلم، وأهل السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى ابن جرير قال: حدثنا الفضل بن المُبَشِّر قال: رأيت جابر بن عبد الله - ا - يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال، أو أحدث، توضأ، ومسح بفضل طهوره الخفين، فقلت: أبا عبد الله، أشيء تصنعه برأيك؟ قال: "بل رأيت النبي ﷺ يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله ﷺ يصنعه"، وكذا رواه ابن ماجه[3].
وروى أحمد عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر - ا - لكل صلاة طاهرًا كان، أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ابن الغسيل حدثها أن رسول الله ﷺ كان أُمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان، أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أُمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا مِن حدث، فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك، كان يفعله حتى مات، وهكذا رواه أبو داود[4].
وفي فعل ابن عمر - ا - هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك، كما هو مذهب الجمهور."

على كل حال حتى لو كان في أول الأمر يجب الوضوء لكل صلاة فهل يقال: إن الذي نُسخ هو آية المائدة؟ القول بهذا فيه إشكال؛ لأن القضية منفصلة، ولذلك إذا ثبت أنه كان يجب الوضوء لكل صلاة، ثم نسخ فلا يعني هذا أن آية المائدة دلت على الوجوب، ثم بعد ذلك نسخت، وإنما يمكن أن تحمل آية المائدة على معنىً آخر غير الوجوب؛ لأن سورة المائدة من آخر ما نزل فهي متأخرة جداً، وبالتالي لم يُنسخ منها شيء، وهذا هو المعروف، حتى إن الصحابة كانوا يكتفون أن يقولوا أحياناً: هذا مما نزل في المائدة أي أن هذا من المحكم الذي لم ينسخ، فلذلك لم يحتاجوا أن يقولوا: هذا مما لم يُنسخ، لذلك يمكن أن يؤخذ من السنة أن الوضوء في أول الإسلام كان واجباً لكل صلاة، ثم نسخ، أما آية المائدة فليست في هذا - والله أعلم -.
"وروى أبو داود عن عبد الله بن عباس - ا - أن رسول الله ﷺ خرج من الخلاء فقُدِّم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة، وكذا رواه الترمذي، والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن[5].

هذا الحديث أيضاً لا يدل على أنه أمر بالوضوء إذا قام إلى الصلاة بإطلاق، بمعنى أنه كلما قام إلى الصلاة يؤمر بالوضوء، ولذلك فإن بعض الفقهاء - رحمهم الله - ممن قال: إن الطواف لا يشترط له الطهارة استدلوا بهذا الحديث: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة، وقالوا: إذن إذا أراد أن يطوف فلا وضوء عليه؛ لأن مفهوم الحديث أنه لم يؤمر بالوضوء لشيء آخر غير الصلاة، لكن نقول: إن هذا غير صحيح؛ لأن النبي ﷺ إنما أراد هنا أن يبين لهم أن أكل الطعام لا يطلب فيه الوضوء، لكن يطلب الوضوء في أشياء أخرى مثل ما إذا كان الإنسان جنباً، وأراد أن يأكل، أو ينام، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بقراءة القرآن، وذكر الله ، ولذلك فإن النبي ﷺ لما سلم عليه رجل تيمّم ورد ، وبين أنه كره أن يذكر الله إلا على طهارة[6]، فالوضوء ليس للصلاة فقط، ولكن أراد أن ينبههم هناك إلى أن الأكل لا يطلب له الوضوء فحسب، وهذه طريقة معروفة في الخطاب، فالله يقول: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام:145] مع أنه توجد محرمات أخرى غير ما ذكر في هذه الآية، لكن هذا في باب الرد على المشركين الذين حرموا أشياء من عند أنفسهم، فردَّ الله عليهم بهذا - والله أعلم -، وقد يقال في هذا كلام آخر.
"وروى مسلم عن ابن عباس - ا - قال: كنا عند النبي ﷺ فأتى الخلاء، ثم إنه رجع فأُتى بطعام، فقيل: يا رسول الله، ألا تتوضأ؟ فقال: لم؟ أأصلي فأتوضأ؟[7].
وقوله: فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ [سورة المائدة:6] قد استُدل بقوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ [سورة المائدة:6] على وجوب النية في الوضوء؛ لأن تقدير الكلام: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها كما تقول العرب: إذا رأيت الأمير فقم أي: له، وقد ثبت في الصحيحين حديث الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى[8].

هذه الآية العلماء - رحمهم الله - تكلموا على ما تضمنته من أعمال الوضوء، وتكلموا على النية هل ذكرت في هذه الآية، أو لم تذكر، فبعضهم قال: لم تذكر في هذه الآية لكن دلت عليها السنة في قوله - عليه الصلاة، والسلام -: إنما الأعمال بالنيات، ومنهم من قال: بل النية مضمنة في الآية: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ [سورة المائدة:6] فنحن لا نغسل وجوهنا للتبرد، ولا للنظافة، وإنما نغسلها للطهارة الشرعية أي للصلاة، فالغسل هذا لأجل القيام للصلاة إذاً هذا الغسل إنما هو لاستباحة الفعل، وهو الصلاة، فهذه طهارة شرعية، ولذلك قالوا: النية مضمنة في الآية.
"ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه؛ لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ أنه قال: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه[9].

الحديث على كل حال فيه كلام كثير لأهل العلم في صحته، وضعفه، فمنهم من ضعفه، ومنهم من صححه، والذين صححوه اختلفوا في هذا الأمر هل هو للوجوب، أم للاستحباب، وعلى أنه للوجوب هل يسقط ذلك بالنسيان، أو لا يسقط، وعلى كل حال فالأحوط للإنسان أن لا يترك التسمية على الوضوء - والله أعلم -.
"ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء، ويتأكد ذلك عند القيام من النوم؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً، فإن أحدَكم لا يَدْرِي أين باتت يده[10]."

على كل حال ظاهر الأمر للوجوب، وأن الإنسان إذا استيقظ من النوم يجب عليه أن يغسل كفيه، وأما في غير المستيقظ من النوم في ابتداء الوضوء، فقد يقال بالاستحباب.
وهذه المسألة فيها تفاصيل كثيرة لكن ليس هذا موضعها، وإنما يدرس هذا في الفقه.
"وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس، ولا اعتبار بالصَّلع، ولا بالغَمَم إلى منتهى اللحيين، والذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً."

يقال: فلان أغم الجبهة يعني أن منابت الشعر منحدرة في جبهته أي ينبت عليها شعر، والآخر أصلع، وإذا كان منبت الشعر من جانبي الرأس يقال: فلان أجلح، فالعبرة في المنابت، وبعض أهل العلم لا يحدد الرأس بمنابت الشعر، وإنما يحدده من بداية الانحناء في أعلى الجبهة إلى أسفل الذقن، وأما في العرض فكثير من الفقهاء من أهل العلم يقولون: من الأذن إلى الأذن، ومنه العذار، والصدغ.
"وروى الإمام أحمد عن أبي وائل قال: رأيت عثمان يتوضأ - فذكر الحديث - قال: وخلل اللحية ثلاثاً حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله ﷺ فعل الذي رأيتموني فعلت [رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسنه البخاري].
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس - ا - أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها، واستنثر، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا، يعني أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح رأسه، ثم أخذ غرفة من ماء، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى، ثم قال: "هكذا رأيت رسول الله ﷺ يعني يتوضأ" [ورواه البخاري].
وقوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [سورة المائدة:6] أي: مع المرافق، كما قال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [سورة النساء:2]."

فقد أورد المؤلف هذه الرواية المتعلقة بتخليل اللحية، وهذا أحد الأحاديث الواردة في مشروعية تخليل اللحية، ومعلوم أن التخليل إنما يكون للحية الكثيفة أما إذا كانت البشرة ظاهرة لخفة اللحية فإنه يجب غسل ما تحتها، والأحاديث الواردة في الوضوء كثيرة، وبالنسبة لما يتعلق هنا بحديث ابن عباس - ا - فإن قوله: "توضأ فغسل وجهه" أُخذ منه أن غسل الكفين سنة، وليس بواجب.
ثم ذكر غسل اليدين بغد غسل الوجه، والمراد بذلك غسل اليدين إلى المرافق قال تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [سورة المائدة:6] أي مع المرافق، وذلك أن المغيّا بغاية هل تدخل فيه هذه الغاية، أو لا تدخل فيه؟ بناءً على ذلك اختلفوا في المرافق هل يجب غسلها في الوضوء، أو لا يجب؟
من نظر إلى أن المغيّا بغاية لا تدخل الغاية فيه، قال: لا يجب، وهذا الذي مشى عليه جماعة من الفقهاء، ومن المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله -، ومن نظر إلى أن الغاية داخلة أوجب غسل المرافق.
ومن أهل العلم من يفصل في ذلك - وهو تفصيل حسن - فيقول: إن كان ما بعد الغاية داخلاً فيها لولا الغاية فإنها تدخل، وإن كان لا يدخل فيها فإنها لا تدخل، فإذا قلت مثلاً: أبيعك هذه الأرض إلى المسجد فالغاية هنا هي المسجد فهي هنا غير داخلة لكن إذا قلت: أبيعك هذا الشجر إلى هذه النخلة فالنخلة داخلة فيه بهذا الاعتبار، وكذلك اليد تطلق في كلام العرب على هذا العضو بكامله إلى المنكب، فلو قال: اغسلوا أيديكم، ولم يحددها بالمرافق لكان ذلك شاملاً لليد من أولها إلى آخرها، فالغاية داخلة بهذا الاعتبار من الناحية الأصولية، والمقصود أنه يجب غسل المرافق مع اليدين - والله تعالى أعلم -.
طبعاً هنا قال: إلى المرافق، وفي الأقدام قال: إلى الكعبين، فالمرافق جمَعَها، وفي الكعبين ثنى، فبعض أهل العلم يقول: وجه ذكر الكعبين بالتثنية أن المرافق لا تلتبس فكل يد فيها مرفق واحد، وأما الرجل ففي الواحدة منهما كعبان فحتى لا يظن أن ذلك يتصل بجهة واحدة، قال: إلى الكعبين ليكون ذلك مختصاً بالرجل الواحدة، ومنهم من عكس فقال: الكعب الموجود في الرجل الواحدة هو كعب واحد له طرفان، فلما كان يتوهم، أو قد يتوهم أن في كل رجل كعبين قال: إلى الكعبين بمعنى أن المجموع في الرجلين كعبان - والله تعالى أعلم -.
"ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه؛ لما روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً، محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل[11].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت خليلي ﷺ يقول: تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء[12]."

الراجح في هذا هو ما عليه الجمهور من أن المقصود إسباغ الوضوء، وليس المقصود الزيادة على ما حده الله ، ولكن لا ينقص منه، فيكون الوضوء سابغاً بغسل سائر العضو دون أن يزيد فيه على الحد الذي أمر الله به.
"وقوله تعالى: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ [سورة المائدة:6] "الباء" للإلصاق."

هنا يقول: "الباء للإلصاق"، وهذا من أقرب ما تفسر به، وإذا قلت: إنها للإلصاق تكون دالة على أنه يجزئ مسح بعض الرأس، وإذا قلت: إن الباء للتبعيض، فبهذا يحتج من يقول: إنه يجزئ أن يمسح ببعض الرأس، ويحتجون من السنة بأن النبي ﷺ مسح على ناصيته، والعمامة، وعلى كل حال فالباء تأتي في لغة العرب لمعانٍ، فنأتي للإلصاق، وتأتي للمجاورة أيضاً، تقول: مررت بزيد، مررت بالمسجد، وتأتي للسببية كما في قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ [سورة النساء:155] أي: بسبب نقضهم ميثاقهم، فأحسن ما تفسر به هنا - والله تعالى أعلم - هو الإلصاق، وهذا الإلصاق قد يكون شاملاً للرأس، وقد لا يكون شاملاً، وإن كان الرأس يصدق على الجميع في قوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ [سورة المائدة:6] فالرأس هنا مضاف إلى الضمير - كاف الخطاب -، وذلك للعموم، حيث إن هذا الاسم - الرأس - أضيف إلى معرفة - كاف الخطاب - فهذا يكسبه العموم فيشمل سائر الرأس، وهذا يعتبر استدلالاً من الآية، وأما من السنة فالأحاديث الواردة في هذا كثيرة، حيث توجد روايات متنوعة تبين أن النبي ﷺ مسح على رأسه بيديه، أقبل بهما، وأدبر[13]، فذلك يشمل سائر الرأس.
"وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب النبي ﷺ، ورضي عنهم -: هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم، فدعا بوضوء فأفرغ على يديه، فغسل يديه مرتين مرتين، ثم مضمض، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما، وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه."

هذا الحديث فيه تنويع في العدد، أي أنه يمكن غسل بعض الأعضاء مرتين، وبعض الأعضاء تغسل ثلاثاً، ويمكن أن تغسل مرة واحدة ليس في ذلك إشكال.
وقوله: "ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما، وأدبر" هذه العبارة تكلم العلماء على معناها، واستشكلها كثير منهم من جهة أنّ أقبل بهما، وأدبر يقتضي أنه بدأ من القفا إلى مقدم الرأس، وبعضهم أراد أن يخرج من هذا، وقال: يبدأ من وسط الرأس فيقبل بيديه إلى الأمام، ثم يمسح إلى قفاه، وبعضهم يقول غير هذا، ولا حاجة لذلك فهو مفسر بما بعده، بدأ بمقدم رأسه إلى قفاه.
وإذا نظرت إلى هذه اللفظة من حيث الحروف، والألفاظ قد تستشكلها، لكن إذا نظرت إليها باعتبار المعنى تجد أن أقبل بهما، وأدبر يعني بدأ من أول رأسه إلى آخره أي أنه بدأ من قفاه، هذا هو المعنى المتبادر حينما يسمع الإنسان مثل هذا الوصف، لكن الوقوف عند الحروف، والألفاظ يصيرها مشكلة أحياناً، وهذا مثال من أمثلته.
"وفي حديث عبد خير عن علي في صفة وضوء رسول الله ﷺ نحو هذا.
وروى أبو داود، عن معاوية، والمقدام بن معد يكرب - ا - في صفة وضوء رسول الله ﷺ مثله، ففي هذه الأحاديث دلالة على وجوب تكميل مسح جميع الرأس.
روى عبد الرزاق عن حمران بن أبان قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ، فأفرغ على يديه ثلاثاً، فغسلهما، ثم تمضمض، واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثاً، ثم اليسرى ثلاثاً مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله ﷺ توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه أخرجه البخاري، ومسلم في الصحيحين[14].
وفي سنن أبي داود عن عثمان في صفة الوضوء: "ومسح برأسه مرة واحدة"[15].
وقوله: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [سورة المائدة:6] قُرئ: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب عطفا على فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [سورة المائدة:6]."

الذي قرأ بالنصب جماعة من القراء السبعة، وهي قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي، وعاصم في رواية حفص، وقراءة الجر، وأرجلِكم، أيضاً هي قراءة سبعية متواترة، ووجهها ظاهر، ومعروف، وهي قراءة ابن كثير، وحمزة، وأبي عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر.
إذا قرأت: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب يكون ذلك عطفاً على فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [سورة المائدة:6] أي أن أيديكم مفعول به منصوب عائد على غسل الوجوه، والأيدي يعني، واغسلوا أرجلكم.
ورءوسِكم من قوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ [سورة المائدة:6] مجرور بحف الجر - الباء - فإذا قرأت (وأرجلِكم) بالكسر فبعض أهل العلم يقول: الجر هنا للمجاورة.
ومن أراد التفصيل في هذا، وذكْر الشواهد من القرآن، ومن كلام العرب، والرد على من أنكر هذا الإعراب، ووهّن الجر بالمجاورة فليرجع إلى أضواء البيان فسيجد في هذا تفصيلاً، وشواهد من القرآن، ومن كلام العرب على صحة هذا الإعراب - أعني الجر بالمجاورة.
"روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - ا - أنه قرأها: وَأَرْجُلَكُمْ يقول: رجعت إلى الغسل.
وروي عن عبد الله بن مسعود ، وعروة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، والضحاك، والسدي، ومُقاتل بن حيان، والزهري، وإبراهيم التيمي نحو ذلك.
وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل كما قاله السلف، وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض على المجاورة، وتناسب الكلام كما في قول العرب: جحرُ ضبٍّ خربٍ."

قول العرب: "جحرُ ضبٍّ خربٍ" خرب ترجع إلى الجحر، فالمفروض أن يقال: جحرُ ضبٍّ خربٌ، أي أنه يكون مرفوعاً صفة للجحر، وإنما قال: "خربٍ" بالكسر للمجاورة - لمجاورة الضب -، وكذلك الأمر في قوله: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم) الجر من الناحية الصورية اللفظية، لكن من ناحية المعنى هو منصوب؛ لأنه يرجع إلى الغسل فالرجل مغسولة، وليس المقصود أنها تمسح.
ومن أهل العلم من خرج ذلك بتخريجين آخرين دون القول بأنه مجرور للمجاورة، وإنما قال: هو مجرور للمعنى، أي أن المقصود هو مسح الرجل؛ لأن للرجل حالتين، الأولى: أن تكون مغسولة، وهذا هو الأصل فيها، والثاني: أن تكون ممسوحة، وذلك إذا كان على القدم ما يواريها من خف، أو جورب، قال: والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والقراءتان إن كان لكل قراءة معنىً يخصها، وبينهما تعارض في المعنى، أي أن هذه لها معنىً آخر غير معنى هذه القراءة، قالوا: فهما كالآيتين، ففي الكسر (وأرجلِكم) يعني المسح على الخفين، والجوربين، وأرجلَكم بالنصب يعني الغسل.
ومن أهل العلم من قال: إن ذلك على ظاهره، ولا يعني عدم الغسل، وإنما المراد أن تغسل، وتمر عليها اليد فتكون ممسوحة بهذا الاعتبار، لا أنه يقتصر على المسح دون الغسل؛ لأنه جاء الوعيد: ويل للأعقاب من النار[16] في أكثر من حديث، وكذلك أيضاً صفة وضوء النبي ﷺ أنه كان يغسل رجليه، ولم يكتف - عليه الصلاة، والسلام - بالمسح، ومعلوم أن السنة تفسر القرآن، والمشهور عند أهل العلم أن ابن جرير الطبري - رحمه الله - يقول بالمسح احتجاجاً بهذه الآية، وهذا غير صحيح، وإن كان مشهوراً عنه، ومتناقل، لكنهم - والله أعلم - فهموا كلامه على غير مراده، وإنما خلاصة كلام ابن جرير أنه يرى وجوب غسل الرجل، والاستيعاب بالغسل لكن مع إمرار اليد، فهذا هو المسح المقصود الذي أراده ابن جرير.
والعلماء مختلفون أصلاً في الغسل المجزئ في أي عضو من أعضاء الوضوء، هل يكفي إمرار الماء عليه؟
والفرق بين الغسل، والمسح معروف، فالغسل هو سيلان الماء على العضو بخلاف المسح الذي يكون باليد. مسألة: هل يكفي سيلان الماء على العضو أم لا بد من المسح مع ذلك سواء كان المغسول هو الوجه، أو اليد، أو الرجل؟
هذه مسألة خلافية معروفة في الفقه، فمن أهل العلم من يرى أنه لا يجزئ مجرد الغسل، فلو أنك، وضعت رجلك تحت الصنبور، وصب عليها الماء، هل يكفي هذا، أو لا يكفي؟
الأقرب أنه يكفي، لكن من أهل العلم من يقول: إن ذلك لا يكفي، وأنه لا بد من إمرار اليد عليها، فإن قيل: لماذا خص الرجل؟ قيل: خص الرجل لأنها بحاجة لمزيد من العناية؛ لأن الماء قد ينبو عن بعضها، ولأنها محل أكثر مكان بحاجة إلى التنظيف.
وبعض أهل العلم قال: هنا ذكر المسح في الرجل، والمقصود به الغسل؛ لأن ذلك مظنة للإسراف بالماء، وتبديده، فعبر بالمسح ليكون ذلك دالاً على التخفف في إراقة الماء، وصبه عليها، هكذا فهم بعضهم - والله أعلم -.
وعلى كل حال إذا قرأنا كلام ابن جرير سيظهر أنه لا يقصد أبداً أن المسح وحده يجزئ، وإن كان ذلك قد اشتهر عنه كثيراً، وتناقله العلماء فيقولون: الذي يرى المسح على الرجلين من أهل السنة ابن جرير، ويقولون: هذا قول ابن جرير، والرافضة، لكن إذا قرأنا كلامه في الدرس القادم، فسيظهر مراده - رحمه الله -.
والإشكال أن الكثير من الناس أحياناً يتناقلون الشيء، وهم لم يقرءوه، ولم يتأملوه، وإنما ينقل بعضهم عن بعض، ومن أمثلة ذلك أن مقاتل بن سليمان البلخي المتوفى سنة مائة، وخمسين للهجرة تناقل الناس عنه كلام أبي حنيفة أنه جاءنا من قبل المشرق رأيان خبيثان جهم معطل، ومقاتل مجسم، ومقاتل له كتاب في التفسير أربعة مجلدات، وله تفسير خمسمائة آية حقق في رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية، أعني أن كتبه موجودة، وليس فيها أي شيء من التجسيم، ولذلك لما ذكره شيخ الإسلام في كتابه منهاج السنة قال: وقد لا يثبت عنه، ومع ذلك الناس يتناقلون هذا عنه، فإذا ذُكر مقاتل ذكر التجسيم، ولا يوجد في كتبه شيء من هذا - والله أعلم -.
"وكقوله تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ [سورة الإنسان:21]، وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ."

من يراجع كلام الشنقيطي - رحمه الله - في هذا الموضوع - الجر بالمجاورة - سيجد فيه ما يكفي، ويشفي بإذن الله .
وهذه القراءة عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٍ وَإِسْتَبْرَقٌ [سورة الإنسان:21] الشاهد فيها أنها على قراءة ابن كثير، وأبي بكر: سندسٍ خضرٍ، وإستبرقٌ أي أن الجر في خضر، وإستبرق تكون مرفوعة، وفي قراءة حمزة، والكسائي يكون الخفض أيضاً في إستبرقٍ.
فسندس مضاف إليه، وخضر صفة للثياب وجُرَّت في قراءة ابن كثير للمجاورة، هذا توجيه طبعاً، وإلا فإن بعضهم يقول: الخضر للسندس، أي أن السندس أخضر، وكلام المعربين، والموجهين للقراءات كثير في هذا - والله أعلم -.
"ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين، وأنه لا بد منه:
قد تقدم في حديث أميري المؤمنين عثمان، وعلي، وابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب - ، وأرضاهم - أن رسول الله ﷺ غسل الرجلين في وضوئه إما مرة، وإما مرتين، أو ثلاثاً، على اختلاف رواياتهم.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو - ا - قال: تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفرة سافرناها فأدرَكَنا، وقد أرهقتنا الصلاةُ - صلاةُ العصر -، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار[17]، وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة [18]، وفي صحيح مسلم عن عائشة - ا - عن النبي ﷺ أنه قال: أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار[19].
وعن عبد الله بن الحارث بن جزء أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعْقَاب، وبُطون الأقدام من النار رواه البيهقي، والحاكم، وهذا إسناد صحيح[20].
 وقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي ﷺ، وقال: ارجع فأحسن وضوءك.
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك أن رجلاً جاء إلى النبي ﷺ قد توضأ، وترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له رسول الله ﷺ: ارجع فأحسن وضوءك[21].
وروى الإمام أحمد عن بعض أزواج النبي ﷺ - ورضي عنهن - أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً يصلي، وفي ظهر قدمه لُمْعَة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره رسول الله ﷺ أن يعيد الوضوء، ورواه أبو داود من حديث بقية، وزاد: والصلاة، وهذا إسناد جيد قوي صحيح[22] - والله أعلم -.
وفي حديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي ﷺ: أنه خلل بين أصابعه[23].
وروى أهل السنن عن لقِيط بن صبرة قال، قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الوضوء: فقال: أسبغ الوضوء، وخَلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً[24].
روى الإمام أحمد بن حنبل عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله ﷺ توضأ، ومسح على نعليه، ثم قام إلى الصلاة[25]، وقد رواه أبو داود عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله ﷺ أتى سُبَاطة قوم فبال، وتوضأ، ومسح على نعليه، وقدميه[26].
وروى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البَجَلي قال: أنا أسلمت بعد نزول المائدة، وأنا رأيت رسول الله ﷺ يمسح بعد ما أسلمت، تفرد به أحمد[27].
وفي الصحيحين عن هَمَّام قال: بال جرير، ثم توضأ، ومسح على خفيه، فقيل: تفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله ﷺ بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه، قال الأعمش: قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، لفظ مسلم[28].
وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله ﷺ مشروعية المسح على الخفين قولاً منه، وفعلاً.
وقوله تعالى: وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ [سورة المائدة:6] كل ذلك قد تقدَّم الكلام عليه في تفسير آية النساء فلا حاجة بنا إلى إعادته؛ لئلا يطول الكلام، وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصاً بهذه الآية الكريمة، فقد روى عن عائشة - ا - قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء، ونحن داخلون المدينة، فأناخ رسول الله ﷺ، ونزل، فثنى رأسه في حجري راقدًا، فأقبل أبو بكر  فلكزني لكزة شديدة، وقال: حبست الناس في قلادة، فتمنيت الموت لمكان رسول الله ﷺ مني، وقد أوجعني، ثم إن النبي ﷺ استيقظ، وحضرت الصبح فالتمس الماء، فلم يوجَد، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ [سورة المائدة:6] إلى آخر الآية، فقال أسَيْد بن الحُضَير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر، ما أنتم إلا بركة لهم[29]."

فكثير من التفاصيل التي تضمنتها هذه الآية مضت في الكلام على سورة النساء، وعلى كل حال ليس المقصود من مثل هذه القراءة التوسع في الأحكام، وما قد يحتاج إلى تعليق هنا هو أن الله قال هنا في سورة المائدة: فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ [سورة المائدة:6] فـ"مِن" هنا تحتمل أن تكون تبعيضية، وبهذا احتج من قال: إنه لا بد أن يعلق شيء من هذا الصعيد باليد، وهو قول الإمام أحمد - رحمه الله -، والشافعي، وطائفة من أهل العلم، ومن قال: إنها لابتداء الغاية قال: لا يشترط أن يعلق بيده شيء، وهو أيضاً قول معروف قال به من الأئمة الإمام مالك، وأبو حنيفة، وعلى كل حال هذه مسألة معروفة.
"وقوله: مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ [سورة المائدة:6] أي: فلهذا سهل عليكم، ويسر، ولم يعسر، بل أباح التيمم عند المرض، وعند فقد الماء، توسعة عليكم، ورحمة بكم وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه، كما تقدم بيانه، وكما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير.
وقوله تعالى: وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة:6] أي: لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة، والرأفة، والرحمة، والتسهيل، والسماحة.
وقد وردت السنة بالحثِّ على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة، كما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي فروّحتها بعشيٍّ، فأدركت رسول الله ﷺ قائماً يحدث الناس، فأدركت من قوله: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه، ووجهه إلا وجبت له الجنة قال: قلت: ما أجود هذا! فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود منها، فنظرت فإذا عمر فقال: إني قد رأيتك جئت آنفاً، قال: ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ -، أو فيسبغ - الوضوء، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده، ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء لفظ مسلم[30].
وروى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: إذا توضأ العبد المسلم -، أو المؤمن - فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء -، أو مع آخر قطْر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء -، أو مع آخر قطْر الماء - حتى يخرج نقياً من الذنوب [رواه مسلم][31].
وروى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله ﷺ قال: الطَّهور شَطْر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله ، والله أكبر تملأ ما بين السماء، والأرض، والصوم جنة، والصبر ضياء، والصدقة بُرهان، والقرآن حُجَّة لك، أو عليك، كلُّ الناس يَغْدُو، فبائع نفسه فَمعتِقهَا، أو مُوبِقُهَا[32].
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: لا يقبل الله صدقة من غلول، ولا صلاة بغير طهور[33]."

ابن جرير - رحمه الله - له كلام فيما يتعلق بالرجْلين، وهي فائدة لو سافر أحد إلى أقصى الشرق، أو أقصى الغرب من أجلها لما كان كثيراً، وعلى كل حال فالمشهور عن ابن جرير - الذي يُتناقل عنه - أنه يقول بمسح الرجلين إلا أن الصواب خلافه، فلنقرأ كلام ابن جرير - رحمه الله - حول هذه المسألة.
"قال أبو جعفر - رحمه الله -: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه جماعة من قرأة الحجاز، والعراق: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [سورة المائدة:6] نصباً، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وأيديَكم إلى المرافق، وأرجلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برؤوسكم، وإذا قرئ كذلك كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون الأرجل منصوبة عطفاً على الأيدي، وتأول قارئو ذلك كذلك أن الله - جل ثناؤه - إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.
وقال: وقرأ ذلك آخرون من قرأة الحجاز، والعراق: (وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) [سورة المائدة:6] بخفض الأرجل، وتأول قارئو ذلك كذلك أنّ الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها وجعلوا الأرجل عطفاً على الرأس، فخفضوها لذلك.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله - عزّ ذكره - أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم."

ابن جرير ذكر القولين، والآن سيرجح، حيث إن طريقته - رحمه الله - أنه كثيراً ما يذكر القولين، والثلاثة، والأربعة، ثم يذكر ترجيحه الذي يجمع فيه بين هذه الأقوال، فهو لا يقتصر على واحد منها في كل حال، وإنما أحياناً يرجح واحداً، وأحياناً يجمع بين هذه الأقوال بوجه من الجمع.
"كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم، وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقاً اسم ماسحٍ غاسلٍ؛ لأن غسلهما إمرار الماء عليهما، أو إصابتهما بالماء، ومسحهما إمرار اليد، أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح.
ولذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم، والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض، والآخر مسح بالجميع.
اختلفت قراءة القرأة في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ [سورة المائدة:6] فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل."

يقول: إن الآية محتملة للمسح ببعض، والمسح بالجميع، وقوله: مسح ببعض هو القول الثاني في المسألة التي ذكرها، وهو ما يفعله الرافضية حيث يرون مسح ظاهر الرجل كما يمسح في التيمم.
وقوله: "والآخر مسح بالجميع" يعني مسح مع الغسل بحيث يمر يده عليها، وهذه الصورة من الفقهاء من يجعلها واجباً، وأن الغسل يُطلب فيه دلك العضو، ولا يكفي إمرار الماء عليه، ولا يقال له غسل أصلاًِ إلا بسيلان الماء على العضو.
"فنصبها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل، وإنكاراً منه المسح عليهما مع تضافر الأخبار عن رسول الله ﷺ بعموم مسحهما بالماء."

لم تتضافر الأخبار عن النبي ﷺ أنه مسح عليهما بمعنى المسح المعروف، وإنما يقصد به الدلك، ولذلك جاء استحباب تخليل الأصابع.
"وخفضها بعضهم توجيهاً منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح، ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنيّ به عموم مسح الرجلين بالماء، كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده."

مجرد صب الماء على الرجلين يقول: إنه كرهه بعضهم أي لأنه لا بد من إمرار اليد مع إمرار الماء على العضو، وليس المقصود أنه يمسح مسحاً مجرداً كما هو مشهور عنه.
"كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد توجيهاً منه قوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [سورة المائدة:6] إلى مسح جميعهما عامًّا باليد، أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء، فإذا كان المسحَ المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به، وكان صحيحًا بالأدلّة الدالة التي سنذكرها بعدُ أنّ مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل، والمسح فبيِّنٌ صواب قرأة القراءتين جميعًا - أعني النصب في الأرجل، والخفض -؛ لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلهما، وفي إمرار اليد، وما قام مقام اليد عليهما مسحهما.
قوله: "لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلُهما، وفي إمرار اليد، وما قام مقام اليد عليهما مسحُهما"، يعني أن هذا هو الجمع بين القراءتين، فعلى الجر: أن تمر يدك عليهما، وعلى النصب: أن تغسلهما بصب الماء عليهما.

"فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصباً لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما، ووجهُ صواب قراءة من قرأ خفضاً لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد مسحاً بهما غير أنّ ذلك، وإن كان كذلك، وكانت القراءتان كلتاهما حسناً صواباً فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضًا؛ لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ فالعطف به على الرءوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي، وقد حيل بينه، وبينها بقوله: وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ [سورة المائدة:6].
فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم دون أن يكون خصوصًا، نظيرَ قولك في المسح بالرأس؟ قيل: الدليل على ذلك تظاهرُ الأخبار عن رسول الله ﷺ أنه قال: ويل للأعقاب، وبُطون الأقدام من النار[34]، ولو كان مسح بعض القدم مجزئاً من عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما تُرك مسحه منها بالماء بعد أن يُمسح بعضها؛ لأن من أدَّى فرض الله عليه فيما لزمه غسلُه منها لم يستحق الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل، وفي وجوب الويل لعَقِب تارك غاسل عَقِبه في وضوئه أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحة ما قلنا في ذلك، وفساد ما خالفه."

الكلام واضح منه أن ابن جرير - رحمه الله - يرجح قراءة الجر من جهة المعنى، ومن جهة الإعراب؛ لأن فيها الجمع بين الغسل، والمسح أي بأن تصب الماء عليها، وتمر اليد، ويقول: لأن ذلك يرجع إلى ما قبله: (وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلكُِمْ) فيكون معطوفاً على الذي قبله، فلا يخالف بينه، وبينه في الإعراب، هذا هو معنى كلام ابن جرير إذا أخذت كلامه بمجموعه بأن ضممت الكلام بعضه إلى بعض، ومعروف أن أسلوب ابن جرير - رحمه الله -، ومن كان في عصره مثل ابن قتيبة، وأمثالهما كانوا يكتبون بهذه الطريقة، وهذه الطريقة تعتبر في زمانهم طريقة راقية في الأسلوب، والتعبير، والخطاب، والناس لم يكونوا يعهدونها في الأزمان التي بعدهم، ولذلك يجد القارئ إشكالات أثناء القراءة، ولهذا فإن الشيخ محمود شاكر - رحمه الله - كما قال بعض المحققين الكبار عنه: إنه يستحق أن يعطى رسالة دكتوراه فخرية لمجرد علامات الترقيم التي وضعها في تحقيقه لابن جرير؛ لأن تفسير ابن جرير بدون علامات الترقيم التي وضعها يشكل فهم كثير من المواضع فيه فلا تفهم المراد، لكن لما يضع شرطة في مكان معين دلَّ ذلك على أن الكلام الآن يتصل بما قبله، وأن ما سبق فيه نوع تفصيل، وهكذا أحياناً لا تستطيع أن تفهم المعنى حتى تفكر في الكلام الذي قاله قبلُ، وتضم بعض الجمل إلى بعض فترجع هذه هنا، وهذه هنا، وتعيد الصياغة حتى تفهم، فربما كان هذا سبب استشكال بعض كلام ابن جرير في التفسير مع أن عباراته واضحة إذا جمعناها إلى غيرها من خلال ذكره تضافر الأخبار عن رسول الله ﷺ بالمسح، وذكره حديث: ويل للأعقاب من النار[35].
وإذا كانت الآية على قراءة الجر يمكن أن يفهم منها مجرد المسح فهي تحتمل هذا المعنى لكن السنة مفسرة للقرآن فلا بد من الجمع بينهما، وإلا فمن أين عرفنا استحباب تخليل الأصابع، وتخليل اللحية في الوضوء، وكذلك بعض التفاصيل الأخرى المتعلقة بالوضوء مما لم يذكر في الآية؟!
والمضمضة، والاستنشاق هل هي داخلة في غسل الوجه، أو أنها أمر زائد عرف من السنة؟ وهكذا فالسنة مفسرة للقرآن، فلو بقينا مع الآية بمفردها فقد يفهم منها هذا على قراءة الجر، ولكن ويل للأعقاب من النار، ووضوء النبي ﷺ كل هذا يدل على أنه لا يجزئ المسح، بل لا بد من الغسل.
وبعض أهل العلم قال: القرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فالآية بقراءتيها دلت على الحالتين بالنسبة للرجْل، فإن كانت مكشوفة فالغسل، وإن كان لها الجورب، أو الخف فالمسح - أيْ بقراءة الجر -، وبعضهم قال: إن هذا عبر به بالمسح من أجل أن لا يكون هناك إسراف؛ لأن الرجل مظنة لصب الماء الكثير، هكذا فهم بعضهم، وبعضهم قال غير هذا.
ومن قال بأن المراد بالمسح من الآية المسح على الخفين فهذا قول له وجه، وكلام ابن جرير - الغسل مع المسح - أيضاً له وجه.
وهذه الآية مثل قوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ [سورة البقرة:222] فعلى القراءة الأخرى: (ولا تقربوهن حتى يطَّهَّرن)، فعلى القراءة الأولى يقال: انقطاع الدم، وعلى الثانية: الاغتسال.
وعلى كل حال فعلى القراءتين لا يجوز إتيان المرأة إلا إذا تحقق الأمران معاً - انقطاع الدم، والاغتسال -، ويحتج لذلك من نفس الآية، ومن السنة؛ أي أن القراءة الأولى لا تدل على جواز الإتيان قبل الاغتسال لأن الله قال: وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ، ثم قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ أي فلا يأتيها قبل تحقق الأمرين، وهذا قول الجمهور.
وفي آية الوضوء يقول ابن جرير: إن كل واحدة من القراءتين دلت على جزء من الطهارة، فهذه دلت على الغسل بإجراء الماء، والثانية بدلك العضو، أي إمرار اليد عليه.
وعند ابن جرير، وطائفة من أهل العلم أنه لا يكفي في الغسل أن تدخل يدك، أو رجلك تحت الماء في الوضوء، وتصب عليه الماء، وإنما لا بد عندهم من الدلك سواء الرجل، واليد، والوجه.
  1. سيأتي تخريجه.
  2. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد (277) (ج 1 / ص 232)، والترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء أنه يصلى الصلوات بوضوء واحد (61) (ج 1 / ص 89)، وأحمد (23079) (ج 5 / ص 358)، وابن حبان (1708) (ج 4 / ص 607).
  3. أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، وسننها - باب الوضوء لكل صلاة، والصلوات كلها بوضوء واحد (511) (ج 1 / ص 170)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (511 ).
  4. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب السواك (48) (ج 1 / ص 17)، وأحمد (22010) (ج 5 / ص 225)، وحسنه الأرنؤوط، والألباني في المشكاة برقم (426).
  5. أخرجه أبو داود في كتاب الأطعمة - باب في غسل اليدين عند الطعام (3762) (ج 3 / ص 404)، والترمذي في كتاب الأطعمة - باب في ترك الوضوء قبل الطعام (1847) (ج 4 / ص 282)، والنسائي في كتاب الطهارة - باب الوضوء لكل صلاة (132) (ج 1 / ص 85)، وأحمد (2549) (ج 1 / ص 282)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2337)، وأصل الحديث في صحيح مسلم كما سيأتي.
  6. أخرجه البخاري في كتاب التيمم - باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء، وخاف فوت الصلاة (330) (ج 1 / ص 129)، ومسلم في كتاب الحيض - باب التيمم (369) (ج 1 / ص 281) دون قوله: إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهئ، ورواه بهذا اللفظ أبو داود في كتاب الطهارة - باب أيرد السلام، وهو يبول؟ (17) (ج 1 / ص 8)، وذكر أنه توضأ، وصححه الألباني في المشكاة برقم (467).
  7. أخرجه مسلم في كتاب الحيض - باب جواز أكل المحدث الطعام، وأنه لا كراهة في ذلك، وأن الوضوء ليس على الفور (374) (ج 1 / ص 282).
  8. أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي - باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ (1) (ج 1 / ص 3)، ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: إنما الأعمال بالنية، وأنه يدخل فيه الغزو، وغيره من الأعمال (1907) (ج 3 / ص 1515).
  9. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب التسمية على الوضوء (102) (ج 1 / ص 37)، والترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء في التسمية عند الوضوء (25) (ج 1 / ص 37)، وابن ماجه في كتاب الطهارة، وسننها - باب ما جاء في التسمية في الوضوء (398) (ج 1 / ص 140)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7573)، وقال عنه في صحيح أبي داود برقم (102):إنه صحيح مقطوع.
  10. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الاستجمار، وتراً (160) (ج 1 / ص 72)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب كراهة غمس المتوضئ، وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً (278) (ج 1 / ص 233).
  11. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب فضل الوضوء، والغر المحجلين من آثار الوضوء (136) (ج 1 / ص 63).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء (250) (ج 1 / ص 219).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب مسح الرأس كله (183) (ج 1 / ص 80)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب في وضوء النبي ﷺ (235) (ج 1 / ص 210).
  14. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب الوضوء ثلاثاً ثلاثا (158) (ج 1 / ص 71)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب صفة الوضوء، وكماله (226) (ج 1 / ص 204).
  15. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب صفة وضوء النبي ﷺ (115) (ج 1 / ص 43)، وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (115).
  16. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب من رفع صوته بالعلم (60) (ج 1 / ص 33)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (241) (ج 1 / ص 214).
  17. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب من رفع صوته بالعلم (60) (ج 1 / ص 33)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (241) (ج 1 / ص 214).
  18. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء - باب غسل الأعقاب (163) (ج 1 / ص 73)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (242) (ج 1 / ص 214).
  19. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (240) (ج 1 / ص 213).
  20. أخرجه أحمد (17747) (ج 4 / ص 191)، والبيهقي في السنن الكبرى (331) (ج 1 / ص 70)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب برقم (220).
  21. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة (243) (ج 1 / ص 215).
  22. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب تفريق الوضوء (175) (ج 1 / ص 68)، وأحمد (15534) (ج 3 / ص 424)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (175).
  23. الحديث في الصحيحين، وسيأتي ذكره، وتخريجه.
  24. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب في الاستنثار (142) (ج 1 / ص 54)، والترمذي في كتاب الصوم - باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (788) (ج 3 / ص 155)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (405).
  25. أخرجه أحمد (16203) (ج 4 / ص 8)، وقال الأرنؤوط: إسناده ضعيف.
  26. أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة - باب 62(160) (ج 1 / ص 62)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (150).
  27. أخرجه أحمد (19241) (ج 4 / ص 363)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على هذا الحديث: "رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن مجاهداً لم يتحرر لنا أمره أسمع من جرير أم لم يسمع، وزياد بن عبد الله بن علاثة، وإن، وثقه ابن معين إلا أن في حفظه شيئاً".
  28. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين (272) (ج 1 / ص 227).
  29. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة المائدة (4332) (ج 4 / ص 1684).
  30. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب الذكر المستحب عقب الوضوء (234) (ج 1 / ص 209).
  31. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء (244) (ج 1 / ص 215).
  32. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة - باب فضل الوضوء (223) (ج 1 / ص 203).
  33. أخرجه مسلم في كتاب الطهارة -باب وجوب الطهارة للصلاة (224) (ج 1 / ص 203).
  34. أخرجه بهذا اللفظ الترمذي في أبواب الطهارة - باب ما جاء، ويل للأعقاب من النار (41) (ج 1 / ص 58)، وأحمد (17742) (ج 4 / ص 190)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب برقم (220)، وأصله في الصحيحين كما سيأتي.
  35. أخرجه البخاري في كتاب العلم - باب من رفع صوته بالعلم (60) (ج 1 / ص 33)، ومسلم في كتاب الطهارة - باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما (240) (ج 1 / ص 213).

مرات الإستماع: 0

"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [النساء: 25] الآية: نزلت في غزوة المريسيع، حين انقطع عقد عائشة - ا - فأقام الناس على التماسه، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماء، فنزلت الرخصة في التيمم، فقال أُسيد بن حُضير: ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر؟[1]".

الحديث مخرج في الصحيحين، والقصة في ذلك معروفة، ومشهورة، وكان من الناس من يقول حبست رسول الله ﷺ وليس على ماء، وكان النبي ﷺ نائمًا قد وضع رأسه على فخذها، فجاء أبو بكر يطعن في خاصرتها بأصبعه، ويقول: حبستي رسول الله ﷺ وليس على ماء، لكن كان قول أُسيد بن حضير : "ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر؟" فشُرع التيمم بسبب ذلك.

"ولذلك سميت الآية آية التيمم، وقد كان الوضوء مشروعًا قبلها ثابتًا بالسنة، وقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [النساء: 25] فمعناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة".

هذه الآية في المائدة تضمنت الوضوء، والتيمم، الوضوء كان ثابتًا في السنة قبل ذلك، والزيادة هي التيمم.

"وقوله: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا".

إذا قمتم أي: إذا أردتم القيام، ولا إشكال في هذا.

"ويقتضي ظاهرها وجوب تجديد الوضوء لكل صلاةٍ، وهو مذهب ابن سيرين، وعكرمة، ومذهب الجمهور: أنه لا يجب[2]".

وقد صلى النبي ﷺ الصلوات بوضوءٍ واحد[3].

"واختلفوا في تأويل الآية على أربعة أقوال:

الأول: أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاةٍ منسوخٌ بفعل رسول الله ﷺ إذ صلّى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوءٍ واحد".

هذا في صحيح مسلم، وذكر في الحاشية: باب جواز الصلوات، والتبويب في صحيح مسلم ليس من وضع الإمام مسلم، وهو يختلف أيضًا من تبويبٍ لآخر، وقد مضى الكلام على هذا في شرح مسلم قديمًا، والكثير يعنون بذكر الباب، وترجمته في صحيح مسلم مع أنه ليس من وضع الإمام مسلم.

قال: عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن النبي ﷺ صلى الصلوات يوم الفتح بوضوءٍ واحد، ومسح على خفيه[4] إلى آخره.

وفي رواية: "كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ، ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوءٍ واحد"[5].

وجاء أيضًا عن الفضل بن المبشر، قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوءٍ واحد، فإذا بال، أو أحدث توضأ، ومسح بفضل طهوره الخفين، فقلتُ: أبا عبد الله أشيءٌ تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت النبي ﷺ يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله ﷺ يصنعه[6].

والرواية السابقة عند الإمام أحمد واضحة.

"والثاني: أن ما تقتضيه الآية من التجديد يُحمل على الندب".

إذا قمتم فاغسلوا.

"والثالث: أن تقديرها إذا قمتم محدثين فإنما يجب على من أحدث".

ولا سيما إذا قلنا: بأن يعني سورة المائدة هي آخر ما نزل في الأحكام، ولم يُنسخ منها شيء، على قول كثير من أهل العلم، مع أنه كما سبق وجد فيها نسخ، لكنه قليل، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، فالقول بأنه إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: 6] فيكون ذلك إما على سبيل الاستحباب، وهذا لمن كان على طهارة، ومن كان محدثًا فيكون ذلك للوجوب، وهذا أولى من دعوى النسخ.

"والرابع: أن تقديرها: إذا قمتم من النوم".

إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، وهذا لا دليل عليه، ومن قال: بأنها منسوخة بالسنة هذا أيضًا فيه الخلاف المعروف بين أهل العلم: هل السنة تنسخ القرآن، أو لا تنسخ؟ ونقول: بأن السنة تنسخ القرآن إذا صح الإسناد، ولا يشترط في ذلك التواتر؛ لأن الذين يمنعون يمنعون أولاً من جهة أن السنة مبينة للقرآن، فقالوا: كيف تكون رافعة؟ والواقع أن النسخ بالمعنى الأعم للبيان يدخل في جملة البيان، ولا مانع من هذا، وكذلك أيضًا قالوا: بأن عامة ما جاء في السنة أخبار آحاد، والآحاد لا يقوى على رفع المتواتر، والقرآن متواتر، والمقصود أن ذلك ليس بلازم، لكني لا أعلم مثالاً سالمًا من معارضةً قوية: لسنة نسخت قرآن من الناحية العملية التطبيقية الواقعية، نحن نقول: هذا جائز لا إشكال فيه، لكن الأمثلة التي تُذكر في هذا يرد عليها إشكالات، وإيرادات قوية، وليست محل اتفاق، وإلا فذلك جائز، فمن قالوا: بأن هذا منسوخ بالسنة فيرد عليه عندهم ما ذُكر، ويرد عليها القاعدة التي أشرت إليها أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، والأصل عدم النسخ.

"فَاغْسِلُوا وَجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] ذكر في الآية أربعة أعضاء، اثنين محدودين، وهما اليدان، والرجلان، واثنين غير محدودين، وهما: الوجه، والرأس، أما المحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين، والرجلان إلى الكعبين وجوبًا بإجماع، فإنّ ذلك هو الحد الذي جعل الله لهما، واختُلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين، وغسل الكعبين مع الرجلين أم لا؟ وذلك مبنيٌ على معنى (إلى) فمن جعل (إلى) بمعنى (مع) في قوله: إلى المرفقين، وإلى الكعبين، أوجب غسلهما، ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غسلهما".

كقوله - تبارك، وتعالى - : وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ [النساء: 2] (إلى) هذه في الأصل تفيد الغاية، لكن هنا بمعنى (مع) وبعضهم يقول: إن قوله: وَلا تَأْكُلُوا [النساء: 2] مضمن معنى: الضم، يعني مضمومة إلى أموالكم، لكن من الناحية الأصولية المغيا بغاية هل الغاية تدخل فيه، أو لا؟ فكأن أعدل الأقوال في هذه المسألة - وقد ذكرته في بعض المناسبات قديمًا - أن يُقال: إن كان المغيا داخلاً في الغاية لولا الغاية، فإنها من جملته، وإلا فليس منه، نوضح بالمثال: حينما يقول: بعتك هذا البستان من هذه النخلة إلى هذه النخلة، فالنخلة المغيا هناك داخلة، أو غير داخلة؟ داخلة؛ لأنها من جمله البستان، فالمغيا هنا داخل؛ لأنه أصلاً من جملته، تقول: بعتك هذه الدار إلى الحجرة الفولانية، فالحجرة الفولانية داخلة، أو غير داخلة؟ داخلة؛ لأنها من جملة الدار.

لكن لو أنه قال: بعتك هذه الأرض إلى دار فلان، فدار فلان ليس من جملة الأرض، فهذا لا يدخل قطعًا، أو تقول: بعتك هذا الحائط إلى دار فلان، أو أرض فلان، ففي هذه الحال لا يدخل فيه، أو تقول: بعتك هذه الأرض إلى الشجرة الفولانية، فالشجرة غير داخلة، لكن لو قال: بعتك هذا البستان إلى الشجرة الفولانية فإنها داخلة؛ لأنها من جملة البستان، كأن هذا أعدل الأقوال.

فإن كان المغيا من جملة ما قبله فإنه داخل، وإن كان خارجًا عنه فإنه لا يدخل، فإذا قال الله : "اغسلوا أيديكم إلى المرافق" فاليد في اللغة تطلق على الكف، وتطلق على ما هو أعم من ذلك، إلى المنكب، فإذا قال: اغسلوا أيديكم إلى المرافق، فالمرفق يدخل، أو ما يدخل؟ يدخل بناءً على هذه القاعدة، وهكذا وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] الرجل تقال: للقدم، وتقال مع الساق، والفخذ، فكل ذلك يقال له: رجل، فإذا قال: إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] فالكعبان داخلان فيها، خلاف العلماء مبني على هذه الحيثية، أو على هذا المأخذ، وهو: المغيا هل يدخل، أو لا؟ وهكذا حينما يقال: العورة من السرة إلى الركبة، فهل الركبة داخلة؟ وهل السرة داخلة؟ أو فيما بينهما، وهو ما بين السرة، والركبة، هذا بناء على هذا، لكن هذا فيما ورد فيه النص، وليس كلام الفقهاء، ولذلك اختلفوا في الركبة، كما هو معلوم، والنبي ﷺ حينما دل رجليه في البئر - عليه الصلاة، والسلام -[7] وكذلك في يوم خيبر كانت ركبته ﷺ بادية، وهو على الدابة، وهو يقول: إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين[8] فالشاهد: هل خرج ذلك من غير قصدٍ؟ فمأخذ المسألة هو ما ذكرت - والله أعلم -.

وهذه القاعدة بهذه الصورة لعلها تقرب المراد، وهي: إن كان المغيا بغاية ليس أصلاً من جملة المذكور فهو لا يدخل، وإن كان من جملته فهو داخل في ذلك، والعلم عند الله .

"واختُلف في الكعبين، هل هما اللذان عند معقد الشراك، أو العظمان الناتئان في طرف الساق، وهو أظهر؛ لأنه ذكرهما بلفظ التثنية، ولو كان اللذان عند معقد الشراك لذكرهما بلفظ الجمع، كما ذكر المرافق؛ لأنه على ذلك في كل رجلٍ كعبٌ واحد". 

يقول: "واختُلف في الكعبين، هل هما اللذان عند معقد الشراك، أو العظمان الناتئان في طرف الساق، وهو أظهر؛ لأنه ذكرهما بلفظ التثنية" يعني وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] ففي كل رجل كعبان، فذكر التثنية بهذا الاعتبار، لو كان المقصود معقد الشراك، وهو الموضع الذي يكون هنالك لجاء بصيغة الجمع مثل المرافق، فلكل يد مرفق واحد، فقال: إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] فبهذا الاعتبار جاء بصيغة الجمع، ولا يقال: بأن المجموع إنما هو مرفقان؛ لأن الله قال: إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] فلكل يدٍ مرفق، فجاء بصيغة الجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان، أو باعتبار مجموع المخاطبين.

وهنا لو كان المقصود الموضع الذي عند معقد الشراك لقال: إلى الأكعب، مثل ما قال في المرافق، كل رجل ذلك الموضع يكون واحدًا، فيكون في التعبير عنه بصيغة الجمع، كما عبر عن المرافق تمامًا.

س: معقد الشراك المقصود به العظم الناتئ الخارجي أم الداخلي؟

الخارجي أين؟

س: البارز الذي في طرف القدم أم الذي في الباطن؟

أين معقد الشراك؟ خلف القدم، إلى الكعبين، فإذا قلنا: بأن الكعب داخل فيه، والكعب هو الموضع المتميز في آخر القدم بتكوره، واستدارته، فهو داخلٌ في ذلك، فيكون إلى أعلاه - والله اعلم -.

"وأما غير المحدودين، فاتُفق على وجوب استيعاب الوجه".

بعضهم يسمي هذا بالكعب، وأيضًا يقال له: العقب، ومنشأ الخلاف هو في الإطلاق في اللغة، وهذا كثير في المسائل الفقهية، فألفاظ الشارع - كما ذكرنا من قبل في بعض المناسبات - محمولةٌ على المعنى الشرعي، فإن لم يكن فالعرفي، وهو عرف المخاطبين، فإن لم يكن لهم عرفٌ خاص، فإنه يُرجع إلى اللغة.

فالكعب هل للشارع فيه معنىً خاص؟ الجواب: لا، وهل للمخاطبين عرف خاص لتحديد الكعب؟ الجواب: لا، فيُرجع إلى اللغة، فإذا كان أهل اللغة بعضهم يطلقه على العظمين الناتئين، ويطلقه بعضهم على العقب، فينشأ خلاف الفقهاء بناءً على ذلك، مثل الكلام في النمص مثلاً "لعن الله النامصات"[9] هل النمص يختص بشعر الحاجبين، ومن ثم فيجوز إزالة شعر الوجه بالنسبة للمرأة، وما بين الحاجبين، أو أن النمص هو إزالة شعر الوجه، كما يقوله بعض أهل اللغة، ومن ثم فليس لها أن تزيل ما بين الحاجبين، ولا أن تأخذ من شعر الوجه إلا إذا نبت لها لحية، أو شارب على غير المعتاد؛ لأن ذلك ليس للمرأة، فمنشأ الخلاف هو إطلاق أهل اللغة؛ ولذلك تجد الفقهاء يختلفون في حكم إزالة ما بين الحاجبين مثلاً، أو إزالة شعر الوجه بالنسبة للمرأة، ومنشأ الخلاف هو الاختلاف في معناه اللغوي، كما اختلفوا هنا في معنى الكعب في اللغة، لكن الأقرب - والله أعلم - أن المقصود بالكعبين هما العظمان الناتئان أسفل الساق، وأما دخولهما فيه فكما سبق مغيا بغاية، فهما داخلان، فيغسل ذلك - والله أعلم -.

"وحدّه طولاً من أول منابت الشعر".

منابت الشعر المعتاد، فلو كان هذا الإنسان أغم، والأغم هو الذي ينبت له شعر متقدم إلى جهة الجبهة، فمثل هذا لا عبرة به، وإنما العبرة بمنابت الشعر المعتاد، وكذلك لو كان فيه صلع، وليس له شعر، فمنابت الشعر المعتاد هي مبدأ الوجه.

"من أول منابت الشعر إلى آخر الذقن، أو اللحية".

ولا اعتبار بالصلع، ولا الغم.

"وحدّه عرضًا من الأذن إلى الأذن، وقيل: من العذار إلى العذار".

العذار هو الشعر النابت على العظم الناتئ بقرب الأذن، فيكون هذا حد الوجه، وليس الأذن."وأما الرأس فمذهب مالكٍ وجوب إيعابه كالوجه[10]

 ومذهب كثيرٍ من العلماء جواز الاقتصار على بعضه، لما ورد في الحديث أن رسول الله ﷺ مسح على ناصيته، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يُجزئ على أقوالٍ كثيرة".

النبي ﷺ مسح بناصيته هذا ثابت، وعلى العمامة، ولم يثبت عن النبي ﷺ أنه مسح على الناصية من غير عمامة، فمأخذ من قال: بأنه يجوز الاقتصار على بعض الرأس من ناحيتين:

الأولى: من اعتقد صحة، أو ثبوت شيء من ذلك، ولا يثبت، ولكن ليس ذلك فحسب، بل إن قوله - تبارك، وتعالى - : امْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ [المائدة: 6] فهذا الأمر بما يتحقق؟ وما معنى الباء؟ فمن قال: بأن ذلك يتحقق بمسح بعض الرأس، قال: لا يجب التعميم، ومن ثم وقع الخلاف بينهم، كما ذكر ابن جزي - رحمه الله - فالمشهور عند المالكية، والصحيح عند الحنابلة[11] تعميم المسح، والباء في امْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ [المائدة: 6] للإلصاق، لكن من فسرها بالتبعيض يقول: يجزئ بعض ذلك، وما هو القدر المجزئ؟ فهذا اختلفوا أيضًا فيه، فبعض المالكية يرى إجزاء النصف، وبعضهم قال غير ذلك.

وجاء عن أحمد - رحمه الله - إضافة إلى قوله بوجوب تعميم مسح الرأس كله روايات أخرى: منها: مسح الأكثر، وفسره بعض أصحابه بالثلثين، وجاء عنه في رواية: قدر الناصية، وجاء في روايةٍ أخرى: بعض الرأس من غير تحديد[12].

والمعتمد عند الحنفية: ربع الرأس، وفي رواية: الناصية، وفي روايةٍ أخرى: ثلاثة أصابع[13].

وعند الشافعية: أدنى ما يصدق عليه ذلك، ولو شعرة واحدة[14].

والذي دلت عليه السنة هو تعميم المسح للرأس كله، وقد جاء المسح بصفاتٍ متعددة، وثابتة في السنة عن رسول الله ﷺ وليس المقام يناسب التفصيل في هذه الأمور، وقد ذكرت الصفات الصحيحة الثابتة في شرح العمدة، وكلها صحيحة، وثابتة، وإن كانت بعض هذه الصفات ربما تكون هي الأشهر -والله أعلم -.

"وامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ [المائدة: 6] اختُلف في هذه الباء فقال قومٌ: إنها للتبعيض، وبنوا على ذلك جواز مسح بعض الرأس، وهذا القول غير صحيح عند أهل العربية، وقال القرافي: إنها باء الاستعانة التي تدخل على الآلات، وأن المعنى: امسحوا أيديكم برؤوسكم، وهذا ضعيف؛ لأن الرأس على هذا ماسحٌ لا ممسوح؛ وذلك خلاف المقصود، وقيل: إنها زائدة، وهو ضعيف؛ لأن هذا ليس موضع زيادتها".

والأصل أيضًا عدم الزيادة.

"والصحيح عندي: أنها باء الإلصاق، التي توصل الفعل إلى مفعوله؛ لأن المسح تارةً يتعدّى بنفسه، وتارةً بحرف الجر، كقوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [النساء: 43] وكقوله: فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ [ص: 33]".

وهذا الذي اختاره ابن كثير - رحمه الله -[15] وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد قال: "ثم مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما، وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه"[16] وجاء نحو هذا عن جماعة من الصحابة وهذه الصفة أسهل، وأبلغ، وأشهر.

"وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] قُرئ: وأرجلكم بالنصب عطفًا على الوجوه، والأيدي، فيقتضي ذلك وجوب غسل الرجلين".

هذه قراءة نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص، التي نقرأ بها، والقراءة الأخرى: بالخفض، وهي أيضًا عن عاصم، لكن من رواية أبي بكر[17].

"وقُرئ بالخفض، فحمله بعضهم على أنه عطفٌ على قوله: بِرُؤوسِكُمْ [المائدة: 6] فأجاز مسح الرجلين، رُوي ذلك عن ابن عباس[18] وقال الجمهور: لا يجوز مسحهما، بل يجب غسلهما[19] وتأولوا قراءة الخفض بثلاثة تأويلات".

قوله: "فيقتضي ذلك، وجوب غسل الرجلين" يعني على قراءة النصب، وهذا، واضح فَاغْسِلُوا وَجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] يعني: واغسلوا أرجلكم، فيكون معطوفًا على المنصوبات قبله، والمغسولات، ويكون بهذا الاعتبار دليلاً على وجوب الترتيب، حيث ذكر ممسوحًا بين المغسولات، وهذه القراءة متواترة، وهي تدل على وجوب غسل الرجلين، وبها قرأ ابن عباس، وقال: رجعت إلى الغسل[20] وبها قرأ ابن مسعود، وعُروة، وعطاء، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، والضحاك، والسدي، ومقاتل، والزهري، وإبراهيم التيمي[21] وغير هؤلاء.

"وقرئ بالخفض، فحمله بعضهم على أنه عطف على قوله: بِرُؤوسِكُمْ [المائدة: 6] فأجاز مسح الرجلين" يعني أنها ممسوحة، ورُوي ذلك عن ابن عباس - ا - وقال: وهو المسح، لكن لا يصح عنه ذلك، والصحيح ما ذكرته آنفًا، وهي قراءته، وأرجلَكم بالنصب.

يقول: "وقال الجمهور: لا يجوز مسحهما، بل يجب غسلهما" وجاء في صحيح مسلم: أن رجلاً توضأ، فترك موضع ظفر على قدمه، فأبصره النبي ﷺ فقال: ارجع فأحسن وضوءك فرجع، ثم صلى"[22] فلو كان المسح يجزئ لما رده - عليه الصلاة، والسلام - وكذلك أيضًا ثبت أن النبي ﷺ غسلهما من حديث جماعة من الصحابة كعثمان، وعلي، وابن عباس، ومعاوية، وعبد الله بن زيد، والمقداد[23].

وجاء في الصحيحين: ويلٌ للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء[24] لما رآهم يتوضؤون، ويمسحون على أرجلهم.

وقد فهم بعضهم أن ابن جرير - رحمه الله - يؤيد هذا المعنى، وهو مسح الرجلين، ولكن يبدو أن عبارته لم تُفهم على وجهها، فابن جرير - رحمه الله - ذكر إمرار اليد على الرجل[25] يريد بذلك الزيادة في المبالغة في الغسل؛ لأن الماء قد ينبو عنها؛ لأن الرجل يكون عليها من الأطيان، والخشونة، والشقوق، ونحو ذلك مما قد لا يبلغ معه الماء، فابن جرير يرى أنه لا يكفي فقط إمرار الماء؛ لأن حقيقة الغسل شرعًا هي سيلان الماء على العضو، فهو يرى أن القدم تحتاج إلى زيادة معالجة، فمع سيلان الماء يمرر اليد ليبلغ الماء إلى كامل العضو، فيبالغ في هذا.

س: هو الدلك؟

نعم الدلك.

بخلاف ما فُهم عنه من أنه يوافق الشيعة في المسح - والله اعلم -. 

"وقال الجمهور: لا يجوز مسحهما، بل يجب غسلهما، وتأولوا قراءة الخفض بثلاثة تأويلات:

أحدها: أنه خفضٌ على الجوار، لا على العطف".

يعني من الناحية الإعرابية، وهذا اختاره ابن كثير[26] وفي قراءة ابن كثير - الإمام القارئ - : (عاليهم ثياب سندسٍ خضرٍ، وإستبرقٌ) برفع إستبرق، وقرأ حمزة، والكسائي أيضًا: (عاليهم ثياب سندسٍ خضرٍ، وإستبرقٍ) بخفض إستبرق[27] فعلى قراءة حمزة، والكسائي: (إستبرقٍ) هذا باعتبار المجاورة، وإلا فهي مرفوعة في الأصل، وهذا ليس محل اتفاق على كل حال؛ لأن بعضهم ينكر الخفض على المجاورة من ناحية العربية أصلاً.

"والآخر: أنه يراد به المسح على الخفين".

وهذا بهذا الاعتبار يكون معطوفًا على (برؤوسكم) لفظًا، ومعنى، يعني جاء مجرورًا أضف على لفظ مجرور قبله، ومن جهة المعنى فهي أيضًا موافقة له في الحكم، فالرأس ممسوح، والرجل ممسوحة، فيكون ذلك موافقًا لما قبله إعرابًا، وحكمًا.

ومن هنا قال بعض أهل العلم: بأن قراءة النصب تدل على الغسل، وقراءة الخفض تدل على المسح، وأن القدم لما كان لها حالتان: إما مغسولة إن كانت مكشوفة، وإما ممسوحة إن كانت مستورة بالخف، أو الجورب، ذكر الحكمين في قراءتين، وهذا له وجه جيد، وهو من أحسن هذه الأجوبة، فتكون دلت على حكمين، والقاعدة: أن القراءتين إن كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين.

"والثالث: أن ذلك منسوخٌ بالسنة".

لكن هذا - كما سبق - لا يثبت النسخ بالاحتمال، وقال بعضهم: بأن المسح في كلام العرب يكون غسلاً، ويكون مسحًا باليد، يعني أن ذلك يُطلق على الغسل، هذا إذا قلنا: إنها معطوفة على الرؤوس، فسُمي ذلك مسحًا باعتبار أن القدم لما كانت مظنة لصب الماء الكثير عُبر عنها بالمسح ليقلل الماء الذي يصب عليها، لكن هذا مخالف لقول ابن جرير بأن لا بد من إمرار اليد، والمسح للتحقق من بلوغ الماء، أما هنا فيقول: إن ذلك سمي مسحًا للتقليل- فالله أعلم -.

"والفرق بين الغسل، والمسح أن المسح إمرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء، والغسل عند مالكٍ إمرار اليد بالماء[28] وعند الشافعي: إمرار الماء، وإن لم يدلك باليد".

الغسل الأقرب أنه سيلان الماء على العضو، يقول: "المسح إمرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء" فهذا المسح "والغسل عند مالكٍ إمرار اليد بالماء" يعني لا بد من إمرار اليد، وهذا كما يقول ابن جرير في القدم خاصة[29].

والراجح أنه يجزئ إمرار الماء، لكن بشرط أن يبلغ جميع العضو تحقق ذلك، فإذا كان لا يبلغ فإنه يحتاج إلى إمرار اليد.

وقال المروذي: وضأت أبا عبد الله - أي الإمام أحمد - بالعسكر، فسترته من الناس؛ لئلا يقولوا: إنه لا يُحسن الوضوء لقلة صبه للماء، وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى[30] لكن إذا تحقق في جريان الماء على العضو فإن ذلك يكفي.

"وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ [المائدة: 6] تقدم الكلام على نظيرتها في النساء ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] أي: من ضيق، ولا مشقة، كقول رسول الله ﷺ : دين الله يسر[31]".

لفظ الحديث: إن الدين يسر[32].

"وباقي الآية تفضلٌ من الله على عباده، ورحمةٌ، وفي ضمن ذلك ترغيب في الطهارة، وتنشيطٌ عليها. 
  1.  أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (334)، ومسلم في الحيض، باب التيمم برقم: (367).
  2.  زاد المسير في علم التفسير (1/520)، وتفسير ابن كثير ت سلامة (3/45).
  3.  أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب جواز الصلوات كلها بوضوء، واحد برقم: (277).
  4.  سبق تخريجه.
  5.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (23029)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
  6.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر برقم: (11318).
  7.  أخرجه البخاري في كتاب أصحاب النبي ﷺ. باب قول النبي ﷺ. : لو كنت متخذًا خليلاً برقم: (3674)، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عثمان برقم: (2403).
  8.  أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب ما يذكر في الفخذ قال أبو عبد الله برقم: (371)، ومسلم في كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته، ثم يتزوجها برقم: (1365).
  9.  أخرجه مسلم في كتاب اللباس، والزينة، باب تحريم فعل الواصلة، والمستوصلة، والواشمة، والمستوشمة، والنامصة، والمتنمصة، والمتفلجات، والمغيرات خلق الله برقم: (2125).
  10.  الكافي في فقه أهل المدينة (1/169)، وبداية المجتهد، ونهاية المقتصد (1/19).
  11.  المغني لابن قدامة (1/93).
  12.  الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (1/161).
  13.  تحفة الفقهاء (1/9)، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/5).
  14.  المجموع شرح المهذب (1/398).
  15.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/49).
  16.  أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله برقم: (185)، ومسلم في الطهارة، باب في وضوء النبي ﷺ. برقم: (235).
  17.  معاني القراءات للأزهري (1/326)، والمبسوط في القراءات العشر (ص: 184).
  18.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/163)، وتفسير النيسابوري = غرائب القرآن، ورغائب الفرقان (2/557).
  19.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/163)، وتفسير النيسابوري = غرائب القرآن، ورغائب الفرقان (2/557).
  20.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/51).
  21.  المصدر السابق.
  22.  أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة برقم: (243).
  23.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/54).
  24.  أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم برقم: (60)، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما برقم: (241)، واللفظ له.
  25.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/62).
  26.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/53).
  27. النكت في القرآن الكريم (ص: 532) وإعراب القرآن للأصبهاني (ص: 490)، وإعراب القرآن للنحاس (5/67).
  28.  البيان، والتحصيل (1/50) والكافي في فقه أهل المدينة (1/175).
  29. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/62).
  30. إغاثة اللهفان (ص126).
  31.  لم نجده بهذا اللفظ مرفوعًا في كتب السنة، وهو من كلام الإمام مالك في الموطأ ت الأعظمي (4/864) بلفظ: "فإن دين الله يسر"
  32.  أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الدين يسر برقم: (39).