الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
لَوْلَا يَنْهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا۟ يَصْنَعُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله تعالى: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] يعني هلَّا كان ينهاهم الربانيون، والأحبار عن تعاطي ذلك."

لَوْلاَ تأتي بمعنى التحضيض، بمعنى هلا، وتأتي بمعنى التبكيت، وتكون للتبكيت إذا كان لأمر قد فات لا يمكن استدراكه كما قال الله : فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ [سورة هود:116]، ومثل ذلك قوله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ [سورة يونس:98].
وتكون للتحضيض في الأمر الذي يمكن استدراكه كقوله تعالى: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ [سورة المائدة:63] أي هلا ينهاهم الربانيون، فإذا كان يدخل فيها المخاطب، أو الحاضر، أو الموجود منهم فيكون ذلك بالنسبة إليه للتحضيض، وبالنسبة للذين مضوا، وانقضوا، وماتوا منهم هي للتبكيت، تقول للإنسان الذي تريد منه أن يستدرك التقصير مثلاً: لولا تركت السهر، واستيقظت لصلاة الفجر، يعني هلا تركته، واستيقظت لصلاة الفجر، وتقول لإنسان لا يمكن أن يستدرك ما فات كأن يكون قد رسب في الامتحان، وتريد أن تبكته: لولا اجتهدت، وما أشبه هذه من العبارات التي تبكته.
"والربانيون: هم العلماء العمَّال أرباب الولايات عليهم."

هكذا فسره، وسبق الكلام عليها، وقلنا: إن ابن جرير - رحمه الله - يرى أنها في العلماء المصلحين الذين يرجع إليهم الناس فيما نابهم، فالناس يرجعون إليهم فيما يحتاجون إليه في أمور دينهم، ودنياهم.
والربانيون من التربيب، والتربية، فهم مربون، والأحبار هم العلماء، وبعضهم يجعل ذلك منقسماً على اليهود، والنصارى.
"والأحبار هم العلماء فقط لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63]، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: يعني الربانيين، أنهم بئس ما كانوا يصنعون، يعني في تركهم ذلك."

يقول الله تعالى: وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:62] فسماه عملاً، ولما ذكر ترك الأحبار، والرهبان لنهيهم عن هذا قال: لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63]، والصنع أدق، وأخص من مطلق العمل، والفعل، فهو نوع منه إلا أن الصنع عادة يكون بحذق، وإتقان، فصار فعل هؤلاء الأحبار، والرهبان - وهو ترك النهي عن المنكر - صنعاً، فهذا أشد، وذلك أن هؤلاء وقوع الإساءة منهم أقبح من وقوعها من غيرهم كما قيل: على قدر المقام يكون الملام، وهنا سمى تركهم للنهي عن المنكر صنعاً، وهذا مما يستدل به أهل العلم على أن الترك فعل من الأفعال، فيكون الفعل مشتملاً على أربعة أشياء هي قول اللسان، وعمل القلب، وفعل الجوارح، والترك. 
"وروى ابن جرير عن ابن عباس - ا - قال: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية: لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:63] قال: كذا قرأ.
وروى ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قال: خطب علي بن أبي طالب فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون، والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فمُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً، ولا يقرِّب أجلاً.
وروى الإمام أحمد عن جرير قال: قال رسول الله ﷺ: ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه، وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب تفرد به أحمد من هذا الوجه[1].
ورواه أبو داود عن جرير قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا، وقد رواه ابن ماجه[2].
  1. أخرجه أحمد (19236) (ج 4 / ص 363)، وقال الأرنؤوط: حديث حسن.
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم - باب الأمر، والنهى (4341) (ج 4 / ص 214)، وابن ماجه في كتاب الفتن - باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر (4009) (ج 2 / ص 1329)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (5749).

مرات الإستماع: 0

"لَوْلا يَنْهَاهُمُ عرضٌ، وتحضيضٌ، وتقريع".

يعني بمعنى: هلا ينهاهم، وقد مضى في مناسبات سابقة: أن مثل هذا إذا كان مما مضى، وفات، ولا يمكن استدراكه فيكون للتقريع، والتبكيت، كـلَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ وإذا كان لأمرٍ يمكن استدراكه، أو في المستقبل، فيكون ذلك للتحضيض، وعلى ضوء هذا تفهم الآيات، كـلَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور: 13] وما أشبه ذلك مثل: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور: 12].

"قوله تعالى: لَبِئْسَ اللام في الموضعين للقسم."