وَالصَّابِئُونَ [سورة المائدة:69] لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة من النصارى، والمجوس ليس لهم دين، قاله مجاهد."
قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] الذين آمنوا قال هنا: هم المسلمون، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وهو الأقرب، وهو المتبادر، وقيل غير ذلك فبعضهم حملها على المنافقين، يعني الذين آمنوا في الظاهر، وهذا بعيد.
قوله: وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] يعني اليهود؛ لأنهم قالوا: هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] أي رجعنا إليك، والهَوْد بمعنى الرجوع، وقد سبق الكلام على هذا المعنى.
ثم قال: وَالصَّابِئُونَ الصابئون سبق بيان المراد بهم، وقال هنا: إنهم طائفة من النصارى، يعني فرقة من النصارى على التوحيد، وهذا الاسم يطلق على طوائف متعددة، فهو يطلق على طائفة من النصارى، ويطلق على قوم ليس لهم دين يعني ليسوا من اليهود، ولا من النصارى، ولا من المسلمين، وإنما هم على أصل الفطرة لم يقعوا في الإشراك، ويطلق أيضاً على قوم من عبدة الكواكب الذين يتقربون إليها، ويقدمون لها القرابين، وما أشبه ذلك، ويقال: إنهم هم الذين اجتاز بهم إبراهيم ﷺ حينما هاجر إلى الشام، وناظرهم المناظرة المعروفة لما رأى الكوكب، وقال هذا ربي، والصابئة طائفة لا زالت موجودة إلى اليوم في العراق، وهم قوم من المشركين، وعلى كل حال فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الصابئين هنا لا يراد بهم عبدة الكواكب، ولا يراد بهم طائفة من أهل الإشراك، وإنما يمكن أن يحمل - والله تعالى أعلم - على أنهم قوم من أهل التوحيد، يعني من أهل الفطرة ممن ليسوا من اليهود، ولا من النصارى؛ لأن الله ، وعدهم بهذا الوعد، ولو كانوا من المشركين لما حصل لهم ذلك؛ لأنه قال: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:69] مع أنه لقائل أن يقول: إن الله ذكر هذه الطوائف، ووعد من آمن منهم، وهذا التعقيب في الآية: مَنْ آمَنَ هو الذي جعل بعض المفسرين يقول: إن المراد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ هم أهل النفاق، يعني المنتسبين للمسلمين، وإلى الإسلام لكنهم كفار في الباطن، فإن صححوا إيمانهم، وتابوا فهم موعودون بما ذُكر: فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:69]، والأقرب - والله تعالى أعلم - أنها في أهل الإيمان، وليست في أهل النفاق.
وعلى كل حال هذه الآية مقيدة بخاتمتها مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا [سورة المائدة:69]، ولا يصح إيمان أحد حتى يؤمن برسول الله ﷺ بعد أن بُعث، فهذه تصدق على هذه الطوائف فمن كان محققاً للإيمان قبل مبعث النبي ﷺ فهو موعود بهذا، وأما بعد مبعثه ﷺ فلا ينفعهم إيمانهم بل هم كفار إن لم يؤمنوا به - عليه الصلاة، والسلام -، وفي الحديث يقول - عليه الصلاة، والسلام -: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار [1].
ولهذا لا يجوز لأحد أن يأتي، ويحتج بهذه الآية على تصحيح الأديان سوى دين الإسلام، ويقول: نحن لا نكفِّر هؤلاء اليهود، ولا النصارى، ولا غيرهم؛ لأن الله ذكرهم في سياق واحد مع المسلمين، وقال: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ومن كان منهم يؤمن بالله، واليوم الآخر، فقد حصل المقصود، وهؤلاء يكونون من الناجين عند لله ، بل الصواب أن هؤلاء لا يكونون من الناجين، وإنما هم من حطب جهنم، والنصوص في هذا كثيرة، وواضحة، وقد تكلمتُ على هذه الآية في جملة الآيات التي يفهمها الناس على غير، وجهها - والله المستعان -.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ [سورة المائدة:69] المتبادر أن يقال: والصابئين؛ لأن هذه متعاطفات على اسم "إن"، وهو منصوب لكنه قال: وَالصَّابِئُونَ فلماذا ارتفعت بين المنصوبات؟
يقول ابن كثير: "لما طال الفصل حسن العطف بالرفع"، والقاعدة في هذا الباب أن العرب تقطع في صفة الواحد أو في الأوصاف المتعاطفة إذا استطالت في مقام المدح أو الذم بالرفع أحياناً، وبالنصب أحياناً، وذلك أبلغ في المدح، أو الذم؛ لدفع السآمة، وتنشيط السامع، وهذا من التفنن في الكلام، ويوجد له نظائر في كلام العرب، وهو أسلوب معروف، وتوجيه ذلك من جهة الإعراب تعددت فيه أقوال أهل العلم، فمنهم من قال هذا الذي ذكرته، وهو راجع إلى كلام ابن كثير - رحمه الله -، ومنهم من يقول: إن قوله: وَالصَّابِئُونَ مرفوع على الابتداء، وليس اسم "إنَّ"، ومنهم من يقول: إن الكلام فيه تقديم، وتأخير، وهذا الذي مال إليه سيبويه، والخليل بن أحمد، وقالوا: تقدير الكلام إن الذين آمنوا، والذين هادوا من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحاً فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، والصابئون، والنصارى كذلك، يعني أن الكلام فيه تقديم، وتأخير، والقاعدة أن الكلام إذا دار بين التقديم، والتأخير، والترتيب فالترتيب أولى، ولذلك فالمعنى الأول الذي ذكرته أقرب - والله تعالى أعلم -، وهو أوضح، وقيل غير ذلك في توجيهه، وإعرابه.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب، وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).