الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِينَ هَادُوا۟ وَٱلصَّٰبِـُٔونَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَعَمِلَ صَٰلِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ آمنوا  وهم المسلمون وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69]، وهم حملة التوراة.
وَالصَّابِئُونَ [سورة المائدة:69] لما طال الفصل حسن العطف بالرفع، والصابئون طائفة من النصارى، والمجوس ليس لهم دين، قاله مجاهد."

قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] الذين آمنوا قال هنا: هم المسلمون، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -، وهو الأقرب، وهو المتبادر، وقيل غير ذلك فبعضهم حملها على المنافقين، يعني الذين آمنوا في الظاهر، وهذا بعيد.
قوله: وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] يعني اليهود؛ لأنهم قالوا: هُدْنَا إِلَيْكَ [سورة الأعراف:156] أي رجعنا إليك، والهَوْد بمعنى الرجوع، وقد سبق الكلام على هذا المعنى.
ثم قال: وَالصَّابِئُونَ الصابئون سبق بيان المراد بهم، وقال هنا: إنهم طائفة من النصارى، يعني فرقة من النصارى على التوحيد، وهذا الاسم يطلق على طوائف متعددة، فهو يطلق على طائفة من النصارى، ويطلق على قوم ليس لهم دين يعني ليسوا من اليهود، ولا من النصارى، ولا من المسلمين، وإنما هم على أصل الفطرة لم يقعوا في الإشراك، ويطلق أيضاً على قوم من عبدة الكواكب الذين يتقربون إليها، ويقدمون لها القرابين، وما أشبه ذلك، ويقال: إنهم هم الذين اجتاز بهم إبراهيم ﷺ حينما هاجر إلى الشام، وناظرهم المناظرة المعروفة لما رأى الكوكب، وقال هذا ربي، والصابئة طائفة لا زالت موجودة إلى اليوم في العراق، وهم قوم من المشركين، وعلى كل حال فالذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الصابئين هنا لا يراد بهم عبدة الكواكب، ولا يراد بهم طائفة من أهل الإشراك، وإنما يمكن أن يحمل - والله تعالى أعلم - على أنهم قوم من أهل التوحيد، يعني من أهل الفطرة ممن ليسوا من اليهود، ولا من النصارى؛ لأن الله ، وعدهم بهذا الوعد، ولو كانوا من المشركين لما حصل لهم ذلك؛ لأنه قال: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:69] مع أنه لقائل أن يقول: إن الله ذكر هذه الطوائف، ووعد من آمن منهم، وهذا التعقيب في الآية: مَنْ آمَنَ هو الذي جعل بعض المفسرين يقول: إن المراد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ هم أهل النفاق، يعني المنتسبين للمسلمين، وإلى الإسلام لكنهم كفار في الباطن، فإن صححوا إيمانهم، وتابوا فهم موعودون بما ذُكر: فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:69]، والأقرب - والله تعالى أعلم - أنها في أهل الإيمان، وليست في أهل النفاق.
وعلى كل حال هذه الآية مقيدة بخاتمتها مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا [سورة المائدة:69]، ولا يصح إيمان أحد حتى يؤمن برسول الله ﷺ بعد أن بُعث، فهذه تصدق على هذه الطوائف فمن كان محققاً للإيمان قبل مبعث النبي ﷺ فهو موعود بهذا، وأما بعد مبعثه ﷺ فلا ينفعهم إيمانهم بل هم كفار إن لم يؤمنوا به - عليه الصلاة، والسلام -، وفي الحديث يقول      - عليه الصلاة، والسلام -: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار [1].
ولهذا لا يجوز لأحد أن يأتي، ويحتج بهذه الآية على تصحيح الأديان سوى دين الإسلام، ويقول: نحن لا نكفِّر هؤلاء اليهود، ولا النصارى، ولا غيرهم؛ لأن الله ذكرهم في سياق واحد مع المسلمين، وقال: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، ومن كان منهم يؤمن بالله، واليوم الآخر، فقد حصل المقصود، وهؤلاء يكونون من الناجين عند لله ، بل الصواب أن هؤلاء لا يكونون من الناجين، وإنما هم من حطب جهنم، والنصوص في هذا كثيرة، وواضحة، وقد تكلمتُ على هذه الآية في جملة الآيات التي يفهمها الناس على غير، وجهها - والله المستعان -.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ [سورة المائدة:69] المتبادر أن يقال: والصابئين؛ لأن هذه متعاطفات على اسم "إن"، وهو منصوب لكنه قال: وَالصَّابِئُونَ فلماذا ارتفعت بين المنصوبات؟
يقول ابن كثير: "لما طال الفصل حسن العطف بالرفع"، والقاعدة في هذا الباب أن العرب تقطع في صفة الواحد أو في الأوصاف المتعاطفة إذا استطالت في مقام المدح أو الذم بالرفع أحياناً، وبالنصب أحياناً، وذلك أبلغ في المدح، أو الذم؛ لدفع السآمة، وتنشيط السامع، وهذا من التفنن في الكلام، ويوجد له نظائر في كلام العرب، وهو أسلوب معروف، وتوجيه ذلك من جهة الإعراب تعددت فيه أقوال أهل العلم، فمنهم من قال هذا الذي ذكرته، وهو راجع إلى كلام ابن كثير - رحمه الله -، ومنهم من يقول: إن قوله: وَالصَّابِئُونَ مرفوع على الابتداء، وليس اسم "إنَّ"، ومنهم من يقول: إن الكلام فيه تقديم، وتأخير، وهذا الذي مال إليه سيبويه، والخليل بن أحمد، وقالوا: تقدير الكلام إن الذين آمنوا، والذين هادوا من آمن بالله، واليوم الآخر، وعمل صالحاً فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، والصابئون، والنصارى كذلك، يعني أن الكلام فيه تقديم، وتأخير، والقاعدة أن الكلام إذا دار بين التقديم، والتأخير، والترتيب فالترتيب أولى، ولذلك فالمعنى الأول الذي ذكرته أقرب - والله تعالى أعلم -، وهو أوضح، وقيل غير ذلك في توجيهه، وإعرابه.
"وأما النصارى فمعروفون، وهم حملة الإنجيل، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله، واليوم الآخر، وهو الميعاد، والجزاء يوم الدين، وعملت عملاً صالحاً، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقاً للشريعة المحمدية، بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا على ما تركوا، وراء ظهورهم، ولا هم يحزنون، وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا. " 
  1. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب، وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملة (153) (ج 1 / ص 134).

مرات الإستماع: 0

"إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا تقدم الكلام على نظيرتها في البقرة (وَالصَّابُونَ) قراءة السبعة بالواو، وهي مشكلة، حتى قالت عائشة: هي من لحن كتاب المصحف[1] وإعرابها عند أهل البصرة: مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: والصابون كذلك، وهو مقدم في نية التأخير، وأجاز بعض الكوفيين [في جميع النسخ زيادة: فيه] أن يكون معطوفًا على موضع اسم (إن)، وقيل: إن هنا بمعنى: نعم، وما بعدها مرفوعٌ بالابتداء، وهو ضعيف".

هنا في قوله: "(وَالصَّابُونَ) قراءة السبعة بالواو، وهي مشكلة" يعني أن وَالصَّابِئُونَ جاءت مرفوعةً بين منصوبات، وهي: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا فلم يقل: والصابئين اسم (إن)، وإنما قال: وَالصَّابِئُونَ وعلى القراءة الأخرى: (وَالصَّابُونَ) من غير همز.

وَالصَّابِئُونَ مضى الكلام في البقرة على المراد بهم، وأن لفظ الصابئ، أو الصابئة يطلق على عدة طوائف؛ فيُطلق على عبدة الكواكب، ويُطلق أيضًا على طوائف أخرى غير هؤلاء، ومما يُمكن أن يكون مرادًا هنا؛ لأنه وعدهم بالجزاء، كما في سورة البقرة أنهم قومٌ باقون على الفطرة، ليس لهم دين محدد، ولا نبي، كما قال مجاهد، ووهب بن منبه، وابن زيد[2] وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية[3] والحافظ ابن القيم[4] وابن كثير[5] أنه في مثل هذا في مقامات الوعد أنهم قومٌ على الفطرة من غير إشراك، ويسمونهم الصابئة الحنفاء، ويحتمل أنهم طائفة من النصارى يقال لهم: الصابئة، يعني كانوا على التوحيد.

وما ذكره من قول عائشة - ا - أن هذا من لحن كتَّاب المصحف، فمثل هذا لا يخلو من إشكال، ونكارة، ومعلوم أن المصاحف كتبها الصحابة الحفاظ المتقنون مع غاية التثبت، وهم أربعة، منهم زيد بن ثابت الذي كتب الصحف لأبي بكر، وشهد العرضة الأخيرة، وتلقى ذلك الصحابة جميعًا وتلقته عنهم الأمة، فلا يقال هذا إطلاقًا.

يقول: "وإعرابها عند أهل البصرة" يعني كلمة (الصابئون) وخبره محذوف تقديره: والصابئون كذلك" يقول: "وهو مقدم في نية التأخير" يعني إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا  والنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالصَّابِئُونَ كذلك، أو إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوامَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى كذلك، كما قال الخليل بن أحمد، وسيبويه[6] والأصل في الكلام الترتيب، لكن هذا توجيه للرفع "والصابئون كذلك" لأنه جاء مع منصوبات، وأحسن من هذا - والله أعلم - ما تدل عليه قاعدة، وهي: أن العرب إذا استطالت صفة الواحد في المدح، أو الذم، فإنها تعطف بالرفع تارةً، وبالنصب تارة، وهذا بمعنى قول ابن كثير: بأنه لما طال الفصل حسن العطف بالرفع[7].

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: إن النصارى أفضل من الصابئين، فلما قُدِّمَ عليهم يعني قُدِّم الصابئون نصب لفظ الصابئين[8] ولكن الصابئين أقدم في الزمان، فقدموا ها هنا؛ لتقدم زمنهم، ورُفِعَ اللفظ، يعني نُصِب في آية البقرة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فأخرهم لتأخر مرتبتهم، وقدمهم في آية المائدة لتقدم زمانهم على النصارى، فلما قدمهم على النصارى، والنصارى أفضل منهم، رُفع اللفظ؛ ليكون ذلك عطفًا على المحل، يقول: فإن المعطوف على المحل مرتبته التأخير؛ ليُشعر أنهم مُؤخرون في المرتبة، وإن قُدموا في الزمن، واللفظ[9] عطفًا على محل إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا يعني لو حذفت هنا (إن) يكون الَّذِينَ آمَنُوا بموضع رفع مبتدأ، هذا أصله، فلما دخلت عليه (إن) صار اسمًا لها فنُصب، فيكون وَالصَّابِئُونَ من قبيل العطف على المحل، هكذا قال شيخ الإسلام - رحمه الله -.

سؤال: ...

الصابون هنا باعتبار ما يقرأ به المؤلف - رحمه الله - بتسهيل الهمزة (وَالصَّابُونَ) لا إشكال، فالكلام هنا ليس في الصابون، أو الصابئون، وإنما الكلام في الواو، والصابئون جاءت مرفوعة بين منصوبات، فأنا تعمدت أذكرها بالهمز؛ لأنها هي القراءة التي نقرأ بها، فالسؤال وارد سواءً كانت بتسهيل الهمزة، أو بالهمزة، لماذا جاءت بالرفع؟ يقول: "وهو مقدم في نية التأخير" وبينتُ وجه هذا.

"وأجاز بعض الكوفيين أن يكون معطوفًا على موضع اسم (إن)" وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام؛ لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء، وهو هذا القول الذي ذكره هنا لبعض الكوفيين.

سؤال: ...

هو من جهة الإسناد صححوه، لكن من جهة المتن منكر، وأجاب العلماء على مثل هذا، بأن هذا لا يمكن أن يُقال في المصاحف، والنظر ليس فقط في الأسانيد، فالنكارة أحيانًا تكون في المتن.

  1.  الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/744) عن عروة قال: سألت عائشة عن لحن القرآن إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [النساء: 162 ] و إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ [طه: 63] فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب.
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/286).
  3.  الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/123)، والرد على المنطقيين (ص: 455).
  4.  أحكام أهل الذمة (1/235).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (1/287).
  6. التفسير الوسيط للواحدي (2/210)، وتفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/219).
  7.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/156).
  8. الصفدية (2/304).
  9.  المصدر السابق.