يذكر تعالى أنه أخذ العهود، والمواثيق على بني إسرائيل على السمع، والطاعة لله، ولرسوله، فنقضوا تلك العهود، والمواثيق، واتبعوا آراءهم، وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه، ولهذا قال تعالى: كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:70 - 71] أي: وحسبوا أن لا يترتب لهم شرٌّ على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق، وصموا."
لاحظ كلام ابن كثير في قوله تعالى: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] إذ يقول: "أي:، وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق، وصموا" يعني ابن كثير حمله على أن ذلك من قبيل العقوبة التي وقعت لهم، لذلك تجد أنه لم يفسر الفتنة، وكأنه يريد أن يقول: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي عقوبة، فعاقبهم الله بأن عموا، وصموا، وهذا معنىً تحتمله الآية، وقد تفسر بما هو أحسن من هذا، وذلك بجعل قوله: فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] أنه من نتيجة حسبانهم هذا لا على أنه عقوبة، وإنما على أن ذلك من قبيل أنه تفريط وقع لهم بسبب سوء حسبانهم، وظنهم كما قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] أي أنهم لما استمرءوا هذه الأيمان، ورأوا أنها تخلصهم من المواقف الصعبة، وما يوجه إليهم من التهم؛ نتج عن ذلك الصدود، أي أنهم قالوا: نستمر على هذه الحال، وإذا سُئلنا عن شيء حلفنا، فبقوا في صدود في أنفسهم، وبقوا يصدون غيرهم عن سبيل الله بالتثبيط، والتعويق، وإذا قيل لهم حلفوا أنهم ما فعلوا، فهذه نتيجة ليست من باب العقوبة، وإنما من باب أنهم استمرءوا هذا، وهكذا هؤلاء حسبوا أن لا تكون فتنة، فبسبب هذا الظن الفاسد؛ وقع منهم هذا الإعراض الكامل.
والمراد بقوله: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة المائدة:71] من أهل العلم من فسره بأن المراد أنهم حسبوا ألا يكون لهم ابتلاء، مع أن الله ، وعد بالابتلاء كما قال تعالى -: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186]، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] إلا أن هؤلاء - على هذا المعنى - حسبوا ألا تكون فتنة.
وأصل الفتنة الفتن من عرض المعدن، أو الذهب على النار لتخليصه من شوائبه، وتنقيته، وتصفيته، فيقال للإحراق بالنار كما قال الله - على أحد المعنيين بل المعاني فيه متلازمة -: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10] بمعنى أحرقوهم بالنار، وكذلك المعنى الآخر بفتنهم أي بصرفهم عن دينهم، فهم صرفوهم بالإحراق، فعلى كل حال الفتنة تقال لهذا، وتقال للاختبار، وهو راجع إلى هذا المعنى؛ لأن الذهب إذا عرض على النار فإنه يختبر بذلك، ويتبيّن الزائف من المنقود، فيكون هنا حسبوا ألا تكون لهم فتنة، أي أنهم حسبوا أن لا يكون لهم ابتلاء؛ لأنهم يزعمون أنهم أبناء الله، وأحباؤه لهم منزلة عنده فلا يوقِع بهم أمراً مكروهاً، وهذا المعنى، وإن كانت الآية تحتمله إلا أن غيره قد يكون أولى منه.
وقوله: أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة المائدة:71] فيه قراءة متواترة، وهي قراءة أبي عمرو، وحمزة، والكسائي، (أَلاَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ) بضم النون على أنَّ "أنْ" مخففة من الثقيلة، وحَسِبَ: بمعنى علم، والمعنى أن هذا الاعتقاد الفاسد عندهم - أنهم أبناء الله، وأحباؤه فلا يبتليهمَ - نزَّله منزلة العلم فعبر هنا بالحسبان، فيكون حسب بمعنى علم، فالمقصود: أن هذه الآية وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ يمكن أن تفسر - والله تعالى أعلم - بأن هؤلاء ظنوا ألا يترتب على فعلهم عقوبة، فنتج عن هذا الظن الفاسد أنهم استمرءوا السير في الباطل، وبقوا على ضلالهم، وإعراضهم فعموا، وصموا، فيكون عموا، وصموا ليس من قبيل العقوبة الناتجة عن حسبانهم بل هو تصرف منهم بنوه على هذا الظن الفاسد، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله -، وأظنه هو الأقرب في معنى الآية -والله أعلم -.
قوله تعالى: فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] يعني عموا، وصموا مرتين، ولم يبيّن هذا العمى، والصمم في كل مرة، فمن أهل العلم من يقول: إن الأول فَعَمُواْ وَصَمُّواْ إشارة إلى تركهم العمل بالتوراة، وقتلهم شعيا - كما في الروايات الإسرائيلية -، ثم تابوا، فتاب الله عليهم، ثم حصل منهم عمىً، وصمم، وذلك بقتلهم يحيى - عليه الصلاة، والسلام -، ومحاولتهم قتل المسيح، وهذا الكلام كله لا دليل عليه.
ومن أهل العلم - مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - من فسر هذه الآية بآية الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [سورة الإسراء:4] فهذا الإفساد مرتين يفسر به عموا، وصموا الأولى، وعموا، وصموا الثانية.
وبعبارة أخرى يقول: إن الإفساد الأول الذي وقع منهم هو المراد بقوله: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ [سورة الإسراء:4 - 5] أي سلط الله عليهم عباداً - قيل: إنه بختنصر - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [سورة الإسراء:5-6] أي أن هذا لما تابوا من الإفساد الأول وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [سورة الإسراء:6]، ثم قال: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [سورة الإسراء:8]، وهذا هو الإفساد الثاني، لكن هذا التفسير قد لا يخلو من إشكال، وبُعد - والله تعالى أعلم -.
ولذلك يحسُن أن يقال في تفسير الآية: إن الله ذكر منهم إفساداً مرتين، ولم يبيّن هذا الإفساد، فيُترك على هذا الإجمال، والإبهام، ولا يُتعرض له بتحديد معين إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وليس عندنا دليل لا من الكتاب، ولا من السنة نستطيع أن نجزم به بحيث نقول: الإفساد الأول هو كذا، والإفساد الثاني هو كذا، لكن حصل منهم غفلة، وإعراض، وعمىً، وصمم، ثم حصلت منهم توبة، ثم بعد ذلك حصل منهم عمىً، وصمم، وما أكثر ما يقع منهم هذا، فقد عبدوا العجل، ثم تابوا، وقالوا لموسى ﷺ: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، ثم عفا الله عنهم، وكذلك قالوا لموسى: إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]، وكذلك قالوا له: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] فكل هذه الأمور وقعت منهم، فقد يكون المراد بعض ذلك، وقد يكون المراد غير ذلك - والعلم عند الله -.