الإثنين 05 / ذو الحجة / 1446 - 02 / يونيو 2025
وَحَسِبُوٓا۟ أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا۟ وَصَمُّوا۟ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا۟ وَصَمُّوا۟ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ۚ وَٱللَّهُ بَصِيرٌۢ بِمَا يَعْمَلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ۝ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:70 71].
يذكر تعالى أنه أخذ العهود، والمواثيق على بني إسرائيل على السمع، والطاعة لله، ولرسوله، فنقضوا تلك العهود، والمواثيق، واتبعوا آراءهم، وأهواءهم، وقدموها على الشرائع، فما وافقهم منها قبلوه، وما خالفهم ردوه، ولهذا قال تعالى: كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ۝ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:70 - 71] أي: وحسبوا أن لا يترتب لهم شرٌّ على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق، وصموا."

لاحظ كلام ابن كثير في قوله تعالى: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] إذ يقول: "أي:، وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا، فترتب، وهو أنهم عموا عن الحق، وصموا" يعني ابن كثير حمله على أن ذلك من قبيل العقوبة التي وقعت لهم، لذلك تجد أنه لم يفسر الفتنة، وكأنه يريد أن يقول: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي عقوبة، فعاقبهم الله  بأن عموا، وصموا، وهذا معنىً تحتمله الآية، وقد تفسر بما هو أحسن من هذا، وذلك بجعل قوله: فَعَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] أنه من نتيجة حسبانهم هذا لا على أنه عقوبة، وإنما على أن ذلك من قبيل أنه تفريط وقع لهم بسبب سوء حسبانهم، وظنهم كما قال الله عن المنافقين: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المجادلة:16] أي أنهم لما استمرءوا هذه الأيمان، ورأوا أنها تخلصهم من المواقف الصعبة، وما يوجه إليهم من التهم؛ نتج عن ذلك الصدود، أي أنهم قالوا: نستمر على هذه الحال، وإذا سُئلنا عن شيء حلفنا، فبقوا في صدود في أنفسهم، وبقوا يصدون غيرهم عن سبيل الله بالتثبيط، والتعويق، وإذا قيل لهم حلفوا أنهم ما فعلوا، فهذه نتيجة ليست من باب العقوبة، وإنما من باب أنهم استمرءوا هذا، وهكذا هؤلاء حسبوا أن لا تكون فتنة، فبسبب هذا الظن الفاسد؛ وقع منهم هذا الإعراض الكامل.
والمراد بقوله: وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة المائدة:71] من أهل العلم من فسره بأن المراد أنهم حسبوا ألا يكون لهم ابتلاء، مع أن الله ، وعد بالابتلاء كما قال تعالى -: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [سورة آل عمران:186]، وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء [سورة البقرة:214] إلا أن هؤلاء - على هذا المعنى - حسبوا ألا تكون فتنة.
وأصل الفتنة الفتن من عرض المعدن، أو الذهب على النار لتخليصه من شوائبه، وتنقيته، وتصفيته، فيقال للإحراق بالنار كما قال الله - على أحد المعنيين بل المعاني فيه متلازمة -: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10] بمعنى أحرقوهم بالنار، وكذلك المعنى الآخر بفتنهم أي بصرفهم عن دينهم، فهم صرفوهم بالإحراق، فعلى كل حال الفتنة تقال لهذا، وتقال للاختبار، وهو راجع إلى هذا المعنى؛ لأن الذهب إذا عرض على النار فإنه يختبر بذلك، ويتبيّن الزائف من المنقود، فيكون هنا حسبوا ألا تكون لهم فتنة، أي أنهم حسبوا أن لا يكون لهم ابتلاء؛ لأنهم يزعمون أنهم أبناء الله، وأحباؤه لهم منزلة عنده فلا يوقِع بهم أمراً مكروهاً، وهذا المعنى، وإن كانت الآية تحتمله إلا أن غيره قد يكون أولى منه.
وقوله: أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ [سورة المائدة:71] فيه قراءة متواترة، وهي قراءة أبي عمرو، وحمزة، والكسائي، (أَلاَّ تَكُونُ فِتْنَةٌ) بضم النون على أنَّ "أنْ" مخففة من الثقيلة، وحَسِبَ: بمعنى علم، والمعنى أن هذا الاعتقاد الفاسد عندهم - أنهم أبناء الله، وأحباؤه فلا يبتليهمَ - نزَّله منزلة العلم فعبر هنا بالحسبان، فيكون حسب بمعنى علم، فالمقصود: أن هذه الآية وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ يمكن أن تفسر - والله تعالى أعلم - بأن هؤلاء ظنوا ألا يترتب على فعلهم عقوبة، فنتج عن هذا الظن الفاسد أنهم استمرءوا السير في الباطل، وبقوا على ضلالهم، وإعراضهم فعموا، وصموا، فيكون عموا، وصموا ليس من قبيل العقوبة الناتجة عن حسبانهم بل هو تصرف منهم بنوه على هذا الظن الفاسد، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله -، وأظنه هو الأقرب في معنى الآية -والله أعلم -.
"وهو أنهم عموا عن الحق، وصمُّوا فلا يسمعون حقاً، ولا يهتدون إليه، ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ أي: مما كانوا فيه ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ أي: بعد ذلك، كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:71]."

قوله تعالى: فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ [سورة المائدة:71] يعني عموا، وصموا مرتين، ولم يبيّن هذا العمى، والصمم في كل مرة، فمن أهل العلم من يقول: إن الأول فَعَمُواْ وَصَمُّواْ إشارة إلى تركهم العمل بالتوراة، وقتلهم شعيا - كما في الروايات الإسرائيلية -، ثم تابوا، فتاب الله عليهم، ثم حصل منهم عمىً، وصمم، وذلك بقتلهم يحيى - عليه الصلاة، والسلام -، ومحاولتهم قتل المسيح، وهذا الكلام كله لا دليل عليه.
ومن أهل العلم - مثل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - من فسر هذه الآية بآية الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [سورة الإسراء:4] فهذا الإفساد مرتين يفسر به عموا، وصموا الأولى، وعموا، وصموا الثانية.
وبعبارة أخرى يقول: إن الإفساد الأول الذي وقع منهم هو المراد بقوله: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ۝ فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ [سورة الإسراء:4 - 5] أي سلط الله عليهم عباداً - قيل: إنه بختنصر - ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [سورة الإسراء:5-6] أي أن هذا لما تابوا من الإفساد الأول وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [سورة الإسراء:6]، ثم قال: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [سورة الإسراء:8]، وهذا هو الإفساد الثاني، لكن هذا التفسير قد لا يخلو من إشكال، وبُعد - والله تعالى أعلم -.
ولذلك يحسُن أن يقال في تفسير الآية: إن الله ذكر منهم إفساداً مرتين، ولم يبيّن هذا الإفساد، فيُترك على هذا الإجمال، والإبهام، ولا يُتعرض له بتحديد معين إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وليس عندنا دليل لا من الكتاب، ولا من السنة نستطيع أن نجزم به بحيث نقول: الإفساد الأول هو كذا، والإفساد الثاني هو كذا، لكن حصل منهم غفلة، وإعراض، وعمىً، وصمم، ثم حصلت منهم توبة، ثم بعد ذلك حصل منهم عمىً، وصمم، وما أكثر ما يقع منهم هذا، فقد عبدوا العجل، ثم تابوا، وقالوا لموسى ﷺ: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، ثم عفا الله عنهم، وكذلك قالوا لموسى: إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]، وكذلك قالوا له: اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف:138] فكل هذه الأمور وقعت منهم، فقد يكون المراد بعض ذلك، وقد يكون المراد غير ذلك - والعلم عند الله  -.
"وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [سورة المائدة:71] أي: مطَّلعٌ عليهم، وعليمٌ بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم."

مرات الإستماع: 0

"وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: بلاء، واختبار".

يعني أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فـتَكُونَ هنا فعل مضارع تام، بمعنى: تقع، يعني أنها ليست ناقصة، فلا ترفع المبتدأ اسمًا لها، وتنصب الخبر، وإنما بمعنى: تقع وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني ألا تقع فتنة، قال: "أي: بلاء، واختبار" يعني باعتبار أنهم أحباء الله، فظنوا ألا يترتب على نقضهم المواثيق، وتكذيبهم الرسل، وقتلهم للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - شر، ولا عقوبة تنزل بهم، فتمادوا في غيهم، لما ظنوا هذا الظن السيء، أدى إلى الإيغال، والتمادي، والاستمرار على هذه الأعمال القبيحة، كما يقول ابن جرير - رحمه الله -[1].

وابن كثير - رحمه الله - يقول: الذي ترتب على هذا وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا هو أن هذا الظن ترتب عليه أنهم عموا عن الحق، وصموا[2].

"وقُرئ تكونُ بالرفع على أن تكون (أن) مخففة من الثقيلة، وبالنصب على أنها مصدرية".

"بالرفع على أن (أن) مخففة من الثقيلة" واسمها: ضمير الشأن محذوف، تقديره: "أنه" و(لا) هذه نافية، و(تكونُ) مضارع مرفوع تام، بمعنى: تقع فتنةٌ، ففتنة تكون هي الفاعل، وبناءً على ذلك فإن (حسب) هنا تكون لليقين، وليست للظن؛ لأن (أن) المخففة من الثقيلة لا تأتي مع أفعال الشك، وعلى الأول فهي للشك؛ لأن (أن) الناصبة للفعل لا تأتي مع (علمت) وما في معناها.

فيقول: "وبالنصب على أنها مصدرية" فيكون حسبان بمعنى اليقين، والعلم وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فـتَكُونَ" يكون منصوب بها.

وهذه القراءة بالرفع (أَلَّا تَكُونُ) هي قراءة أبي عمرو، وحمزة، والكسائي، وبالنصب قرأ بها غيرهم[3].

"قوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا عبارةٌ عن تماديهم على المخالفة، والعصيان.

ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قيل: إن هذه التوبة ردُّ ملكهم، ورجوعهم إلى بيت المقدس بعد خروجهم منه، ثم أُخرجوا المرة الثانية، فلم ينجبر حالهم أبدًا، وقيل: التوبة بعث عيسى - عليه الصلاة، والسلام - وقيل: بعث محمد ﷺ.

كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدلٌ من الضمير، أو فاعلٌ على لغة: أكلوني البراغيث، والبدل أرجح، وأفصح".

يعني بدل من الواو، عموا كثيرٌ منهم، يكون من قبيل بدل البعض من الكل.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (10/478).
  2.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/156).
  3. السبعة في القراءات (ص: 247).

مرات الإستماع: 0

"قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: 71] الآية: إقامة حجة، وتوبيخ للكفار وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا [الأنعام: 71] أي نرجع من الهدى إلى الضلال، وأصل الرجوع على العقب في المشي، ثم استعير في المعاني."

والعقب معروف، وهو مؤخر الرجل، فيعبر بذلك عن التراجع، النكوص، نعم.

"وهذه جملة معطوفة على أندعو، والهمزة فيه للإنكار، والتوبيخ.

قوله تعالى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ [الأنعام: 71] الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد: أي كيف نرجع مشبهين من اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردًا كرد الذي، ومعنى اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ: ذهبت به في مهامه الأرض، وأخرجته عن الطريق فهو: استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها.

وقال الفارسي: استهوى بمعنى: أهوى مثل استزل بمعنى أزل[1]."

قوله: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ [الأنعام: 71] الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في "نرد" يعني كحال، يقول: (كيف نرجع مشبهين من اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردًا كرد الذي، ومعنى اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ: ذهبت به في مهامه الأرض، وأخرجته عن الطريق) اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق، فضل الطريق، فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض، وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد ﷺ ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام[2].

هذا الكلام الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - هو من كلام السدي، وذكر ابن كثير - رحمه الله - في المعنى كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ ذكر على كل حال الغيلان يدعونه باسمه، واسم أبيه، وجده فيتبعها، وهو يرى أنه في شيء، فيصبح، وقد ألقته في هلكة، وربما أكلته، أو تلقيه في مضلة من الأرض، يهلك فيها عطشًا، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله وهذا أيضًا في الواقع من تمام كلامه، من تمام كلام السدي.

وقوله هنا: (فهو: استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها) يعني: استهوته هوت به، وذهبت، فضل في الأرض في حال حيرته، وذهبت به مردة الشياطين بالمفاوز البعيدة كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ.

(وقال الفارسي: استهوى بمعنى: أهوى مثل استزل بمعنى أزل) ويحتمل على كل حال هذا استهوى، يقول: مثل استزل بمعنى أزل، قال: هوى إلى الشيء أسرع إليه، وبعضهم يقول: هذا من هوى النفس، يعني زين له الشيطان هواه في قراءة حمزة، استهواه، في قراءة ابن مسعود، والحسن، وأبي، وهي غير متواترة، استهواه الشيطان.

"قوله تعالى: وحَيْرانَ [الأنعام: 71] أي: ضال عن الطريق، وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته. قوله تعالى: لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا [الأنعام: 71] أي: لهذا المستهوي أصحاب، وهم رفقة يدعونه إلى الهدى."

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فهو مستهوَى.

من هوى يهوي؟ إذا كان بهذا الاعتبار فلا إشكال، لكن إذا قلنا ذلك بمعنى أن الشياطين أخرجته عن الطريق، وصرفته، أو ألقته في مهواة، أو نحو ذلك فهو مستهوى، وهذا هو المعنى الأقرب - والله أعلم - من أنه بمعنى أهوى - والله أعلم -.

"أي: لهذا المستهوى أصحاب، وهم رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي: إلى أن يهدوه إلى الطريق، يقولون له: ائْتِنَا وهو قد تاه، وبعد عنهم فلا يجيبهم، وهذا كله تمثيل لمن ضل في الدين عن الهدى، وهو يدعى إلى الإسلام فلا يجيب، وقيل: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، حين كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام، ويبطل هذا قول عائشة ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي[3]."

هنا ذكر نقل عن ابن عطية، قال: حكى مكي يعني ابن أبي طالب، له تفسير، وغيره أن المراد بالذي في هذه الآية عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وبالأصحاب: أبوه، وأمه، لكن لم ينقل هنا في هذا التعليق كلام ابن عطية على هذا النقل عن مكي، ابن عطية يقول: هذا ضعيف[4] لأن في الصحيح أن عائشة لما سمعت قول القائل: إن قوله: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ [الأحقاف: 17] هذا في قصة مروان بن الحكم  - كما هو معروف - حينما كان على المنبر، وذكر يزيد بن معاوية، يعني أنه يكون الخليفة من بعد أبيه، وقال: سنة أبي بكر، وعمر، معنى أن أبا بكر استخلف عمر  - ا - وأن عمر جعلها في الستة نفر، وإن لم يحدد واحدًا منهم، وهو يقول: سنة أبي بكر، وعمر، فقال عبد الرحمن: سنة هرقل، وقيصر، فقال مروان للحرس: خذوه، فدخل بيت عائشة - ا - فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا [الأحقاف: 17] فقالت عائشة - ا - من وراء الحجاب: والله ما نزلت فينا، وما نزل فينا من القرآن غير براءتي، أو عذري[5].

فابن عطية رد هذا القول، وقال للماوردي، وحكى أبو صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أبي بكر، وامرأته، حين دعوا إليهما عبد الرحمن إلى الإسلام، قال: وهذا ضعيف للانقطاع، فإن أبا صالح لم يسمع من ابن عباس - ا -.

على كل حال لا يصح هذا، أنها نزلت في عبد الرحمن، وعبد الرحمن أسلم كما هو معلوم، فلا يصدق عليه هذا، يعني هذا أيضا من جهة المعنى. 

  1.  الحجة للقراء السبعة (3/325).
  2.  تفسير ابن كثير (3/279).
  3.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ رقم: (4827).
  4. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/307).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ رقم: (4827).