الأربعاء 09 / ذو القعدة / 1446 - 07 / مايو 2025
لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓا۟ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ ۖ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ ۖ إِنَّهُۥ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَىٰهُ ٱلنَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۝ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ۝ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ۝ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة:72-75].
يقول تعالى حاكماً بتكفير فرق النصارى من الملكية، واليعقوبية، والنسطورية ممن قال منهم بأن المسيح هو الله - تعالى الله عن قولهم، وتنزه، وتقدس علواً كبيراً -."

قد سبق الكلام على هذه الطوائف، وعلى اختلافهم في الأقانيم، وتفسيرهم لذلك، وعقيدة التثليث عندهم، وما المراد بالثلاثة، هل هو الله، والمسيح، ومريم أو أنه الله، والمسيح، وجبريل، فليراجع ذلك.
"هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله، ورسوله، وكان أول كلمة نطق بها، وهو صغير في المهد أن قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [سورة مريم:30]، ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله، بل قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم:30] إلى أن قال: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة مريم:36]، وكذلك قال لهم في حال كهولته، ونبوته آمراً لهم بعبادة ربه، وربهم وحده لا شريك له، ولهذا قال تعالى: وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ [سورة المائدة:72] أي فيعبد معه غيره فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [سورة المائدة:72] أي: فقد أوجب له النار، وحرم عليه الجنة كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [سورة النساء:48]، وقال تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة الأعراف:50].
وفي الصحيح أن النبي ﷺ بعث منادياً ينادي في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة[1]، وفي لفظ: مؤمنة[2].
ولهذا قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [سورة المائدة:72] أي: وما له عند الله ناصرٌ، ولا معينٌ، ولا منقذ مما هو فيه."
  1. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب كيف الحشر (6163) (ج 5 / ص 2392)، ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة (221) (ج 1 / ص 200).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ (3092) (ج 5 / ص 276)، والنسائي في كتاب مناسك الحج – باب قوله : خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31] (2958) (ج 5 / ص 234)، وأحمد (594) (ج 1 / ص 79).

مرات الإستماع: 0

"وَقالَ الْمَسِيحُ الآية ردٌّ على النصارى، وتكذيبٌ لهم.

وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ يحتمل أن يكون من كلام المسيح، أو من كلام الله".

وهذا الذي يسمونه الموصول لفظًا، المفصول معنى، الموصول لفظًا يعني أن ظاهره أنه من كلام متكلمٍ واحد، وهو لمتكلمين، إذا قلنا: إن بعضه من كلام المسيح، والبعض من كلام الله فإذا كان من كلام الله يكون انتهى كلام المسيح - عليه الصلاة، والسلام - ويكون ذلك تعقيبًا من الله  وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ انتهى كلام المسيح هنا على هذا الاعتبار، وقوله: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ يكون من كلام الله والأصل: أن الكلام على وجهه لمتكلمٍ واحد، إلا لقرينة، فهذه المواضع منها ما يتضح أنه لمتكلمين، ومنها ما يبقى موضع احتمال - والله أعلم -.

"قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ الآية رد على من جعله إلهًا.

وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ بناء مبالغة من الصدق، أو من التصديق، ووصفها بهذه الصفة دون النبوءة، يدفع قول من قال: إنها نبيئة".

يعني باعتبار أن أعلى ما وصفت به هو الصديقية، فلا يمكن أن تكون بهذا الاعتبار نبية، والله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] فذكرهم بعد النبيين، وذكرت في بعض المناسبات أن الصديق هو من كَمُلَ في صدقه، وتصديقه، فهذا الصديق، فهي صيغة مبالغة.

وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - بأنها بمعنى كمال الإيمان بما جاء به النبي ﷺ علمًا، وتصديقًا، وقيامًا، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكل من كان أعلم بما جاء به الرسول ﷺ وأكمل تصديقًا له، كان أتم صديقية.

يقول: فالصديقية شجرة أصولها العلم، وفروعها التصديق، وثمرتها العمل[1].

وفسرها غيره كالشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - بأنها العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح[2].

فإذا قيل: بأنه من كمل في صدقه، وتصديقه، فإن ذلك يؤدي المعنى - والله أعلم - وهذا بمعنى قول: من لم يكذب قط يقال له: صديق.

  1. مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/80).
  2. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 240).