مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ يرقبه، وعتيد: أي حاضر مهيأ لا يغيب، ولا يذهب لحاجة، أو ينشغل بأكل، أو شرب، أو ينام، أو يحصل له نعاس، أو غفلة، أو يتلهى بمكالمة أحد، هو يرقبه في كل لحظة لا يغيب عنه شيء من هذه التصرفات، فالمخلوق قد يرقب مخلوقاً، ولكنه ينشغل عنه، انشغل عنه بمكالمة غيره، ينشغل عنه بنوم، بنعاس، بل لربما ينظر إليه وعقله في مكان آخر يفكر فيه، ولكن هذا الملَك رقيب عتيد، فهو حاضر لا يغيب بحال من الأحوال، كل ما يصدر عن العبد فهو يرصده، ويكتبه، ومعدٌّ لكتابته متخصص في هذا، ليس عنده شغل آخر يشغله عنه، رَقِيبٌ عَتِيدٌ وهما اثنان أحدهما يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات، ولو أن الإنسان وُكل به من البشر اثنان يرقبانه، ويرصدانه؛ لضاقت به أنحاء المعمورة، وضاقت به الأرض بما رحبت، إذا كان الناس يتضايقون إذا نظر أحد إليهم بالسيارة وهم وقوف عند إشارة أو غير ذلك لا يحتملون هذا، فكيف بمن يرقبه آناء الليل وأطراف النهار؟ المخلوق الذي يرقبه إذا دخل الإنسان في بيته هو لا يعرف ما الذي يجري، إذا كان وراء الجدار لا يعرف ما الذي يجري، لربما يكون هذا الإنسان يتحدث مع آخر وذاك ينظر إليه، ولا يدري ما الذي يدور بينهم، لكن هذا الملك لا، وعلى قول شيخ الإسلام وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أنها الملائكة أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، بينما المخلوق الذي يرصده، ويرقبه؛ يكون بعيداً عنه لا يعلم ماذا يقول؛ لأنه لا يصل إليه صوته، فكيف يعلم بخطرات النفس؟!، فهذا من أعظم البواعث على مراقبة الله - تبارك وتعالى - في الخلوة والجلوة، في السر والعلانية، ومن أيقن هذا خاف الله - تبارك وتعالى -، وارعوى وكف عن كل ما لا يليق، وصار عليه رقيب من نفسه؛ لأنه يعلم أنه لا يحصل له خلوة إطلاقاً، فالخلوة على هذا الاعتبار متعذرة، هي خلوه عن الناس، ولكن الله يراه، والملكان معه يكتبان، ويرصدان، ويرقبان وينظران، لو جُعل على هذا الإنسان في بيته، وفي كل مكان حتى في مكان الخلاء وفي غيره - أكرمكم الله - كاميرات، وما ينقل الأصوات؛ لصار الإنسان يحسب الأنفاس، وحركة العين، فكيف بنظر الله - تبارك وتعالى - إلى العبد؟
ونحن بحاجة إلى هذا المعنى كثيراً في مثل هذه الأوقات التي صار الوصول فيها إلى مطالب النفس الدنية أقرب إلى العبد من اليد للفم لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ [سورة هود:43] إذا ما وجدت هذه المراقبة لله - تبارك وتعالى -، وإلا فإن العبد قد يسرح في أودية الهلكة، ويقارف مساخط الله - تبارك وتعالى -، ثم يكون حاله كحال ذاك الذي قال عنه النبي ﷺ: يأتي بأعمال كجبال تهامة البيضاء من الحسنات، ثم بعد ذلك يجعلها الله هباءً منثوراً يُذهبها، هؤلاء إذا خلو بمحارم الله انتهكوها[1].
كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث كم من كلام، كم من فعل، كم من كتابة، فالقلم أحد اللسانين، فالذين يخبطون خبط عشواء ويكتبون ما يحلو لهم في المنتديات والمواقع ووسائل التواصل وما إلى ذلك، ولابد أن يعلِّق على كل شيء، ولابد أن يبدي رأيه في كل شيء، ولابد أن يشمت في كل شيء، ولابد أن يهرف بما لا يعرف، هؤلاء لو عرفوا حقيقة ذلك لكفّهم حديث بلال بن الحارث عن كثير من هذا؛ لكن للأسف الغفلة غالبة، وكأن الإنسان قد رفع عنه القلم فيما يكتب وما يقول، وهذا القول الذي قال به الحسن، وقتادة في قوله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ قال به جماعة آخرون منهم: ابن عباس - ا -، وظاهر الآية يدل عليه لأنه قال: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ فقول: نكرة في سياق الشرط، وقد سبقت بمن، والنكرة في سياق الشرط، أو النهي، أو الاستفهام؛ تكون للعموم، فإذا سبقت بمن نقلتها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ أيّ قول: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وقال هؤلاء: إن الملك يكتب كل شيء: أكلت، وشربت، ومشيت، وذهبت، ورجعت، وقمت، وقعدت؛ كل هذا يُكتب، لكنهم يتفقون في النهاية على أن الذي يترتب عليه الجزاء هو ما يتصل بالتكليف يعني مما يقوله الإنسان من طاعة الله - تبارك وتعالى - أو من معصيته، أما الأشياء العادية ذهبت، وجئت ونحو ذلك مما لا يترتب عليها جزاء فبعضهم يقول: إن هذا لا يُكتب، وإنما المقصود مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ يعني: من قولٍ يترتب عليه جزاء، قالوا: هو بهذا الاعتبار، وبهذا التقدير، وأن هذا على طريقة العرب فهو مخصوص بهذا المعنى، والآخرون أخذوا بظاهر اللفظ فقالوا: يكتب كل شيء ثم يُمحى ما لا يترتب عليه الجزاء، وعلى أيٍّ من المعنيين مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ المقصود ما يترتب عليه الجزاء أن الإنسان يحاسب نفسه فلا يتكلم حتى يزن الكلمة، وليس المقصود أن هذه الكلمة يكون فيها مخالفة أو لا يكون فيها مخالفة؛ ليس ذلك فحسب، بل هناك معنى آخر فوق هذا هل له فيها نية أو ليس له فيها نية؟ يعني قد يكتب كلاماً جميلاً من الحكمة، أو من كلام المعصوم ﷺ، أو من كلام السلف ، أو من كلام بعض أهل العلم، قال الحافظ ابن القيم، قال فلان؛ وهو لا يقصد بذلك، ولا يريد بهذا وجه الله - تبارك وتعالى -، فيكون بذلك مرائياً، أو مسمعاً، أو له قصد فاسد فيحاسب على هذا ويقع في الشرك الأصغر.
وكثير من الناس لا يتفطن لهذا، فقد يورد ألواناً من الفوائد وهو يريد أن يعزز نفسه، أن يُذكر، وأن يُعرف، وأن يشتهر، وأن يحمد، فيكتب ثم يفتح ماذا قال الناس عنه؟ فيكتب مقالة، أو ينزل خطبة، أو من هذا القبيل؛ ثم ينظر ماذا قالوا عنه هل أُعجبوا به أو لم يعجبوا به؟ فهذا قصد فاسد يكون على صاحبه من الوزر بقدر جنايته، فهذه أمور يحتاج الإنسان أن يتبصر بها، ولو أنه تبصر بها لقل كلامه، وقلت كتابته؛ لأن ذلك جميعاً ينقش في صحيفته، وإذا نظرت إلى حالنا في كثير من هذه الملابسات كأننا غير مكلفين، وكأن هذه الآيات لم تنزل مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ غفلة عارمة - نسأل الله العافية -، وكما سبق هذا لا يختص بالأقوال بل يكون في كل شأن: في الأفعال، وفي أعمال القلوب، ما الذي يتوجه إليه القلب من المقاصد الفاسدة، والنيات؛ وما إلى ذلك، كل هذا يكتبه الملك.
- رواه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الذنوب، برقم (4245)، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم (4632)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (505).
- رواه الترمذي، كتاب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب في قلة الكلام، برقم (2319)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، برقم (3969)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (888).