الأحد 03 / محرّم / 1447 - 29 / يونيو 2025
وَجَآءَتْ سَكْرَةُ ٱلْمَوْتِ بِٱلْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله - تبارك وتعالى -: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [سورة ق:19]، يقول : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد، ولا مناص، ولا فكاك، ولا خلاص.

قوله - تبارك وتعالى -: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ سكرة الموت: المقصود بها شدته، وغلبته على الإدراك وعقل الإنسان بحيث يصير في حال تشبه الذهول والسكر كأن العقل يسلب لشدة الموت، ولشدة النزع كما قال النبي ﷺ: إن للموت لسكرات[1]، فهذه الشدة تذهب بعقل الإنسان وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ فإن هذه السكرة تارةً تكون للنزع، وتارةً تكون للفرح الشديد، وتارةً تكون هذه السكرة للهول الشديد، وتارةً كما هي أهوال القيامة وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج:2] الإنسان في مواقف الشدة قد يصيبه مثل هذا يكون في حال كأنه في حلم، قد لا يشعر بالناس حوله، ويكلمونه ولا يفقه عنهم، ويحصل هذا في أوقات الشدة أحياناً - نسأل الله العافية للجميع - الحوادث أو نحو ذلك، تجد الرجل يقوم بحالٍ؛ بعضهم يقوم يؤذن، وبعضهم يقوم ويقع، وبعضهم لربما قطعت رجله أو نحو ذلك وهو لا يشعر بها، والناس يكلمونه، ولربما كلمه بعضهم بكلام، وإذا قيل له بعد ذلك يقول: لم أكن أشعر بشيء من ذلك إطلاقاً وهو في حال لم يكن في إغماء - مثلاً - لكنه في حال من الذهول كالسكر، وهناك نوع آخر من السكر وهو سكر الرئاسة كما يسميه الحافظ ابن القيم - رحمه الله - هذا الذي يحصل له رئاسة إن لم يوفق، ويهدى قلبه، ويسدد لسانه؛ فإنه يكون في حال من السكر لا يقبل فيها نصح الناصحين، ولا يرعوى، ولا يتذكر، ولا يتبصر بعيوبه، وأخطائه، وتقصيره، وإنما يرى دائماً أنه في حال من الكمال، ولسان حاله: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [سورة غافر:29]، والحافظ ابن القيم - رحمه الله - تكلم عن مثل هذا، وأن الرجل قد يكون له صاحب، وإذا صارت له رئاسة فإنه قد يتغير عليه، فيعجب من حاله ما الذي غيره؟ لكن لو شرب المسكر وتغير عليه لم يستنكر - لم يستغرب - لأنه سكران، فيقول: سكر الرئاسة أعظم من سكر الخمر، ولذلك أحياناً الإنسان قد يتعجب كيف لا يبصر هذا مثل هذه المفاسد؟ كيف لا يبصر هذه الحقائق؟ كيف لا يتقي الله في كذا؟ لماذا لا يراقب ربه في كذا؟ لكنه لا يفكر بنفس الطريقة التي تفكر فيها؛ هو في سكرة إلا من رحم الله - تبارك وتعالى -.

قال: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ يعني ما كنت منه تفر، فلا محيد، ولا مناص عنه وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ بعضهم يقول: الحق هو الموت، السكرة هذه جاءته بالموت، وبعضهم يقول: فيها تقديم، وتأخير: جاءت سكرة الحق بالموت، والأصل عدم التقديم والتأخير قد مضى هذا مراراً أن الأصل في الكلام الترتيب، وأنه مهما أمكن حمله على معنى صحيح على النسق الذي جاء به القرآن من غير دعوى تقديم وتأخير فهذا هو الأصل.

وهنا يمكن أن يحمل على هذا المعنى وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ سكرة الموت هي التي جاءت بالحق الذي هو الموت، ولكن القول بالتقديم والتأخير هنا: جاءت سكرة الحق بالموت هذه جاءت فيها قراءة شاذة قرأ بها أبو بكر وابن مسعود  فإذا صح سندها فإن القراءة الشاذة تفسر القراءة المتواترة كما هو معلوم.

الموت يقال له: حق، ويقال: فلان جاءه الحق من ربه كما في حديث عثمان بن مظعون، الموت يقال له: حق، الموت حق، جاء فلاناً الحقُّ.

قال: وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: سبحان الله! إن للموت لسكرات.

وفي قوله: ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ قولان:

أحدهما: أن ما هاهنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد، وتتناءى، وتفر؛ قد حل بك، وقد نزل بساحتك.

والقول الثاني: أن ما نافية بمعنى: ذلك ما كنت تقدر على الفرار منه، ولا الحيد عنه.

على المعنى الأول: أنها موصولة، وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك الذي كنت منه تفر، هذا الذي كنت تفر منه طول عمرك، وتتوقاه، وتخافه، وتحاذره، ها هو يقابلك، ويلاقيك، وينزل بك.

وعلى المعنى الثاني: أن ما نافية وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ يعني ما منه مفر، ما من منه مخلص ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ يعني ما منه بد، ما منه مفر، ما منه مخرج، إذا نزل فذلك الذي أعيا الأطباء، ولو اجتمعوا من أقطارها لا يغنون عنه شيئاً، والمعنى الأول هو المتبادر جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ يعني هذا الذي كنت تحاذره، وتريد الفرار منه، وتتوقاه دائماً؛ ها هو قد حل بك، ونزل، وجاءت به سكرة الموت، فنزل بك ما كنت تخشى وتتقي لا يدفعه عنك أحد.

قوله - تبارك وتعالى -: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ۝ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ۝ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ۝ فَلَوْلا إن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ۝ تَرْجِعُونَهَا إن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة الواقعة:83-87]، وهكذا إذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ ۝ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [سورة القيامة:26-27] هاتوا الطبيب، ادعوا الطبيب، وظن وعلم أنه الفراق، تيقن وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ۝ إلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ [سورة القيامة:29-30].

وقد روى الطبراني في المعجم الكبير عن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب تطلبه الأرض بديْن، فجاء يسعى حتى إذا أُعيي، وأُسهر؛ دخل جحره، وقالت له الأرض: يا ثعلب ديْني، فخرج وله حُصَاص، فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه، ومات[2] ومضمون هذا المثل: كما لا انفكاك له ولا محيد عن الأرض؛ كذلك الإنسان لا محيد له عن الموت.
  1. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (78).
  2. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (6922).