وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا أي: جعلناها فراشًا للمخلوقات،فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ أي: وجعلناها مهدا لأهلها.
كالمهد للصبي، ووصْفُ الأرض بأنها فراش ومهاد، وأنه جعلها بساطاً كل ذلك لا ينافي أن الأرض كروية؛ لأن الجسم الهائل العظيم الواسع الشاسع لا تتبين كرويته بنظر الإنسان القصير -نظر العين-، وإنما تكون كرويته بالتدريج، لكن في أمد واسع جداً لا يلوح للعين بنظرها المعروف المجرد وهي على الأرض، فقضية كروية الأرض ذكرها العلماء منذ قرون متطاولة، ولم ينكرها السلف، ولا أحد من علماء المسلمين المحققين أبداً، فما جاء في القرآن من وصفها بأنها بساط وفراش وما أشبه ذلك فهو بالنسبة لنظر الناظر، فهي منبسطة كما نراها الآن ونشاهدها، والله يخاطب الناس بحسب ما يرون، بل لربما خوطبوا بحسب ما يعتقدون وإن كان اعتقادهم باطلاً، كما سمى الله آلهة المشركين آلهة في مواضع من القرآن، وهي ليست آلهة، لكن هذا اعتقادهم، وسمى كلامهم والشبهات التي يلقونها حجة، وهي شبهات وتُرّهات، ليست حججاً، وعبر عن آلهة المشركين وهي جمادات أصنام بما يعبر به عن العقلاء، كما قال الله :أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا[سورة الأعراف:195]، الأصل تمشي بها، هذا الذي يعبر به عن غير العاقل، تمشي، تقول: هذه السارية تقف على قاعدة، هذه السواري واقفة على قواعد، ما تقول: يقفون، فلماذا قال:أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا،أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا،أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا؟ لأنهم جعلوهم آلهة لا عقلاء فقط، فعبر عنهم بخطاب يستعمل مع العقلاء، كما قال يوسفﷺ حينما نسب إلى الشمس والقمر فعلاً من أفعال العقلاء، قال:وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ[سورة يوسف:4]، ما قال: رأيتها، الأصل أن يقول: رأيتها لغير العاقل، رأيتهم هذا للعقلاء،لِي سَاجِدِينَ الأصل أن يقول: ساجدة، لكن لما فعلت فعلاً من أفعال العقلاء نسب إليها ما يصلح للعقلاء وعبر عنها بما يعبر به عن العقلاء، وهذا كثير في القرآن، حتى القائلون والمتكلمون أنفسهم ممن نقل الله كلامهم في القرآن ربما يخاطِبون بهذا الأسلوب:يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ[سورة الحجر:6]، هم ما آمنوا أنه أنزل إليه الذكر، لا يؤمنون بهذا، وإنما أرادوا بحسب زعمك، وهكذا، كثير جداً، تارة يعتقد السامع خلافه، وتارة يقول ما يعتقد، وتارة بحسب فهم المخاطب، يقول الله مثلاً إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ[سورة الصافات:147] في قصة يونس ﷺ،مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، إذا كانت "أو" هنا بمعنى "بل" فلا إشكال، بل يزيدون، لكن إذا كانت "أو" التي تذكر للشك، أَوْ يَزِيدُونَ للتردد -وهو أحد الأقوال في تفسيرها-، فالله يعلم كم عددهم بالضبط، لكنه عبر بحسب نظر المخاطبين، فالناظر إليهم من المخاطبين يقول: مائة ألف أو يزيدون، بحسب نظر المخاطب، ولما أمر الله موسى وهارون أن يذهبا إلى فرعون، قال: لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[سورة طه:44]، لعل تأتي للترجي، على التفسير الآخر أنها للتعليل أي من أجل أن يتذكر أو يخشى، لكن على أنها للترجي فيكون بحسب نظركما، فالإنسان الداعية إلى الله عندما يذهب إلى آخر يدعوه فهو يترجى أن ينتفع بهذا ويقبل، لَّعَلَّهُ أي: بحسب نظركما،لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، فخاطبهم بحسب نظرهم، وهذا ينحل به إشكالات كثيرة جداً في التفسير، فهنا وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا[سورة الذاريات:48] ما يأتي إنسان ويقول: والله الأرض ما هي ببساط ولا فراش وإنما هي كروية، نقول: هذا لا ينافي كروية الأرض.