يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: إنما يروج على من هو ضال في نفسه؛ لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غُمْر، لا فهم له، كما قال تعالى: فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ[سورة الصافات:161-163].
قال ابن عباس والسدي: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ: يضل عنه من ضل.
تأمل ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-، يقول:يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: إنما يروج على من هو ضال في نفسه؛ لأنه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غُمْر، لا فهم له.
غُمْر بضم الغين وإسكان الميم، مأفوك ضال غُمْر لا فهم له، ويقال: غِمْر بكسر الغين، هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير كلام جيد في تفسير الآية، ومعنى كلام ابن كثير يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ الأفْك هو القلب، ومنه الإفك، ومنه المؤتفكة، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53] المنقلبة، قرى قوم لوط الله أفَكَها، يعني قلبها،يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: يُصرف بمعنى يُضل "عنه" أي: "عن" هنا تدل على السببية، يعني: يؤفك بسببه من أُفك، يُضل بسبب قولكم هذا المضطرب الذي لا يروج على أحد، ولا أدل على بطلانه من تناقضكم واضطرابكم واختلافكم، فهذا الذي تقولونه في النبي ﷺ وفي القرآن من أنه شعر أو سحر أو كهانة يُضل بسببه من أراد الله شقاءه وضلاله، هو لا يروج ولا تقوم به حجة، ولكن يضل به من أراد الله ضلاله،يُؤْفَكُ عَنْهُ أي: بسببه، فـ "عن" هنا تدل على السببية، قولكم هذا الباطل يضل به –بسببه- من أراد الله شقوته، هذا معنى كلام ابن كثير، بينما ذهب جماعة من المفسرين إلى غير ذلك، فكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يرى أن يُؤْفَكُ عَنْهُ ما جعل "عن" سببية، جعلها على أصلها، والضمير يرجع إلى القرآن، يعني إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يُصرف عن الإيمان بهذا القرآن من صرف، فيحرم الإيمان به، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُصرف عنه، عن الإيمان بهذا القرآن، عَنْهُ إذ جعل الضمير يرجع إلى القرآن، بينما على القول الأول يُؤْفَكُ عَنْهُ الضمير يرجع إلى القول المختلف، يضل بسبب هذا القول المختلف المضطرب، ولا غرابة في هذا، الآن ملل الكفر هؤلاء الذين يتبعونها بالملايين ولربما جاء إنسان وقرأ لهم ودخل في ديانتهم، بل لربما جاء بعض أبناء المسلمين ودخل بعض المواقع لهؤلاء الفرق أو الضُّلال ثم تحول إلى ملتهم ودينهم، أليس هذا يقع، يذكرون شبهات يمكن أن يردها صغار الطلبة، ومع ذلك قد يُصرف بسببها بعض الناس عن دينه تماماً، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ بسببه، يكون الضمير راجعاً إلى القول المختلف، وبعضهم جعل الضمير يرجع إلى غير ذلك كالنبي ﷺ، فيبقى أن هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير أن "عن" سببية، يعني: يُصرف بسببه عن الإيمان بالله ورسوله ﷺ والقرآن من أراد الله شقوته، ويدل على ذلك قول الله في الآية الأخرى: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ [سورة هود:53]، يعني بسبب قولك، فـ "عن" تدل على السببية، ويدل على ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير في الآية فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [سورة الصافات:161-163]، يعني: أنتم وما أنتم عليه من الباطل لا تفتنون إلا من أراد الله شقوته، يُؤْفَكُ عَنْهُ بسببه من أُفِكَ، وبعضهم جعل "عن" ترجع إلى القول المختلف لكن فسره بتفسير آخر يُؤْفَكُ عَنْهُأي: يُصرف عن هذا القول المختلف فلا يضل بسببه، عكس المعنى الذي قاله ابن كثير، فلا يضل بسببه من أراد الله عصمته،إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي: يُصرف عنه من أراد الله عصمته، لكن السياق يأبى هذا، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فقوله:مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ يدل على المراد في هذه الآية، والقرآن نسق واحد، كأنه آية واحدة، وما أشكل في موضع من جهة السياق يمكن أن يبينه موضع آخر، وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ[سورة هود:53] أي: بسبب قولك، مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ .
والقول الذي ذكرته هو الذي عليه جماعة من المحققين، وهو الذي مشى عليه الحافظ ابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، وهو اختيار ابن كثير هنا.