الثلاثاء 16 / ربيع الأوّل / 1447 - 09 / سبتمبر 2025
حِكْمَةٌۢ بَٰلِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله:حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ أي: في هدايته تعالى لمن هداه، وإضلاله لمن أضله.

هذا معنى تحتمله الآية احتمالا قريبا،حِكْمَةٌ بَالِغَةٌأي: لله تعالى في هداية أقوام وإضلال آخرينوَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ۝ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌما يكفي لبيان الحق وإيضاحه ودفعهم عن باطلهم، ولكن كفروا، ولله في ذلك حكمة بالغة، ما تغني الآيات عن هؤلاء القوم المكذبين الذين لا يؤمنون، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، ويحتمل أن يكون قوله:حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ أن المراد به القرآن، والله هنا يقول:وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ الأخبار التي قصها الله في هذا القرآن، والنبأ لا يقال إلا للخبر الذي له شأن، والنبأ بمعنى الخبر لكن الخبر المهم يقال له: نبأ وغير المهم لا يقال له: نبأ؛ ولهذا قيل: النبوة مأخوذة من هذا؛ لأنه يأتي بالخبر عن الله ، ويأتي بوحيه ولهذا تقول: جاءنا نبأ الحرب، ولا تقل: جاءنا نبأ حمار الحجام، فإن هذا لا شأن له ولا خطب له، لكن تقول: جاءنا خبر حمار الحجام، فالحاصل أن قوله هناحِكْمَةٌ بَالِغَةٌيحتمل أن يكون المراد به القرآن، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله-، ويحتمل أن يكون المراد به ضلال من ضل، إضلال الله لمن أضله وهدايته لمن هداه فكل ذلك بناء على علمه وحكمته :حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، يمكن أن يكون هذا القرآن الذي جاءتهم فيه الآيات، ويمكن أن يكون جاءهم ما فيه الكفاية لكن لله حكمة بالغة، فما تغني عنهم النذر فلا ينتفعون بذلك، ولا يؤمنون،إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ۝ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ[سورة الأنفال: 22-23].

فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ يعني: أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة، وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟!

يعني "ما" في قوله: فَمَا هذه تحتمل أن تكون نافية،فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ يقول هنا: يعني أيّ شيء تغني النذر؟ هنا فسرها على أنها استفهامية، وهذا يحتمل يقول:حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ماذا تنفع النذر في قوم كتب الله إضلالهم؟ لا تغني عنهم شيئاً، فتكون "ما" استفهامية، استفهام مضمن معنى الإنكار، ويحتمل أن تكون "ما" هذه نافية يقول: وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ۝ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ، يعني: لا تغني النذر ولا تنفع إذا كان الله قد أراد شقاء العبد، وهذا شيء مشاهد تجد الإنسان ينشأ أحياناً في بيت خير وفضل، وحوله كل الوسائل والأسباب المهيئة لهدايته، أو طلبه للعلم، وسلوكه الصراط المستقيم، فتجده في غاية الإعراض، وتجد آخر ينشأ في بيئة سيئة لا يسمع شيئا من الخير وذكر الله وما يذكره بالآخرة أبداً لا يسمع إلا اللغو، وحوله كل المغريات ومع ذلك يهتدي ويكون من أصلح الناس، وأحيانا يهتدي بسبب حكمة واحدة، وأحياناً بسبب آية سمعها حديثاً، وأحياناً بسبب حكمة أو موعظة أرسلت له برسالة جوال اهتدى، أحياناً بمشهد رآه، كأن يرى أناساً يصلون على الطريق وهم مسافرون، مشهد يتكرر رآهم فتأثر فاهتدى، وآخر سمع كلمة "حي على الفلاح" ما هو الفلاح؟ فانجذب قلبه إليها، فهناك أسباب أحياناً لا تخطر في البال، وآخر يسمع القرآن من أوله إلى آخره، ويمكن أن يكون قد حفَّظه أبوه القرآن وحفّظه من السنة الشيء الكثير ورباه وتعب في تربيته، ومع ذلك في غاية الإعراض، وهذا مشاهد يعني في أشياء تقف عندها تقول: التربية مالها أي علاقة في الموضوع، التربية لها أثر كبير لكن في صور وحالات كثيرة نعرفها التربية مالها أي علاقة بالموضوع، هذا ربَّي وهذب وبذل جهداً كبيراً في تربيته ومع ذلك أدار ظهره حتى وصل إلى حد الردة في بعض الحالات! وهناك صور صاحبها أبداً لا يعرف إلا الشر والفساد فيسمع كلمة واحدة تقلب حياته! فأحياناً لا تستطيع إلا أن تقول: هذا أمر الله،يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ[سورة الرعد: 27] فالبشر ليس لهم يد في هذا، وليس المقصود بهذا أن التربية لا تؤثر، وإنما لا تؤثر بإذن الله ، والموفق من وفقه الله.

وهذه الآية كقوله تعالى:قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ[سورة الأنعام:149]، وكذا قوله تعالى:وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ[سورة يونس:101].