ولما أمرهم أولا بالإيمان والإنفاق، ثم حثهم على الإيمان، وبين أنه قد أزال عنهم موانعه، حثهم أيضًا على الإنفاق، فقال:وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أي: أنفقوا ولا تخشَوا فقرًا وإقلالا فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض، وبيده مقاليدهما، وعنده خزائنهما، وهو مالك العرش بما حوى، وهو القائل:وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[سورة سبأ:39]، وقال:مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ[سورة النحل:96] فمن توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالا، وعلم أن الله سيخلفه عليه.
وقوله:لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ[سورة الحديد:10] أي: لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا، ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ ولهذا قال:أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى.
والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة، وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا: صلح الحديبية.
فقوله -تبارك وتعالى-:لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ النفقة هنا الأقرب -والله تعالى أعلم- أن تحمل على العموم كالنفقة في سبيل الله، كما يدل عليه قول النبي ﷺ:لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه[1]، ومن النفقة في سبيل قتال المشركين فهو نوع من النفقة في سبيل الله، وابن جرير -رحمه الله- يحمله على هذا المعنى الخاص: النفقة في قتال المشركين خاصة، ولربما تكون القرينة في ذلك هي أن الله قال:لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ذكر النفقة والقتال، وفي مواضع كثيرة الله يذكر النفقة والجهاد بالنفس والمال فعدها ابن جرير -رحمه الله- من هذا القبيل -والله أعلم-، ولو حمل ذلك على العموم: من أنفق في سبيل الله مطلقاً على أساس أنهم كانوا في حاجة وشدة لكان أولى، وكذلك المراد بقوله:مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ مثل الشعبي والزهري وابن جرير يقولون: إن المراد صلح الحديبية، وعامة أهل العلم سلفاً وخلفاً يقولون: هو فتح مكة هذا الذي عليه عامة أهل العلم، ولكلٍّ مستند، يعني: الذين قالوا: إنه فتح مكة نظروا إلى أن الفتح إذا أطلق فهو متوجه إلى فتح مكة عند الإطلاق، وذلك به أعلق، وهو المعنى الأشهر، وإنما تحمل نصوص القرآن على المعنى الأشهر، والأغلب عند الإطلاق، ولا شك أن الحال بعد فتح مكة لم تكن كالحال قبلها، انفسح المجال أمام الإسلام والمسلمين، ودخلت القبائل في دين الله، وجاءت الوفود من نواحي جزيرة العرب تبايع النبيﷺ، ولم يبقَ بعد ذلك إلا ما وراء بلاد العرب أو جزيرة العرب، قتال فارس والروم، وقبل ذلك كانت الحرب قائمة على أشدها مع العدو التقليدي وهم قريش، لكن ما جاء فتح مكة حتى انتهى ذلك جميعاً، وأمْر اليهود بجميع طوائفهم في المدينة وفي خيبر قد انتهى، والعلماء -رحمهم الله- يقسمون طبقات الصحابة ومراتب الصحابة إلى طبقات: أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ويجعلون من أسلم بعد فتح مكة بعد ذلك، كما أن أيضاً صلح الحديبية كان فتحاً، كما قال الله تعالى:إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا[سورة الفتح:1]، فسماه فتحاً، وتغيرت الحال بعده أيضاً، فانتشر الإسلام، وحصل للمسلمين سعة وغنائم كثيرة جداً، ولم تعد الحال كما كانت من الشدة والضيق في النفقة صار عندهم خيبر، وصار النبي ﷺ له سهم فَدَك، ولهذا طالبه أزواجه بعد ذلك بالتوسعة في النفقة وصارت لهم أرض قريظة والنضير، فوسع الله على المسلمين والمهاجرين أيضاً، فحصلوا ما حصلوا من هذه الغنائم، وقسم النبي ﷺ بينهم أرض النضير؛ فلهذا يقال لصلح الحديبية: فتح، وتدل عليه الآية إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لكن هنا قال:لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ فجاء معرفا بـ"ال" فمن نظر إلى الأشهر في الإطلاق قال: هو فتح مكة، ومن نظر إلى بعض القرائن الأخرى وأن صلح الحديبية يقال له: فتح، وأن الحال تغيرت بعده ويوجد بعض الأدلة كما وقع بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف -ا-، فخالد كأنه تكلم أو قال كلمة لعبد الرحمن بن عوف: تفتخرون علينا إنما هي أيام أو بأيام سبقتمونا فيها بالإسلام؟، فقال النبي ﷺ ما قال، فخالد أسلم قبل فتح مكة، بوقت ليس بالطويل، ومع ذلك خاطبهم النبي ﷺ بقوله:لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه، هذا يخاطب به رجلاً أسلم قبل فتح مكة، فمن مثل هذا أخذ مثل ابن جرير أن المقصود صلح الحديبية، ولا شك أن الحال قبل صلح الحديبية لم تكن كالحال بعده، والذين أسلموا قبل ذلك ليس كمن تأخر إسلامهم بعد صلح الحديبية، فعبد الرحمن بن عوف وأبو بكر وعثمان وأمثال هؤلاء ليسوا كخالد وعكرمة، ومن أسلم قُبيل الفتح أو بعد الفتح، وكذلك أولئك الذين تأخر إسلامهم مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية والحارث بن هشام وأمثال هؤلاء فإنهم ليسوا كمن أسلم قبل ذلك، وجاء مع رسول الله ﷺ مؤزِّراً له، وبهم فتحت مكة، فهذا السبق له اعتبار، والحال التي كانوا عليها قبلُ ثم ما صارت إليه الحال بعد الوفود الذين جاءوا إلى النبي ﷺ بعد فتح مكة جاءوا و قد تهيأ كل شيء، والأمور في سعة والغنائم والفيء والفتوحات ولا يخشون شيئا، لكن جاءه وفد عبد القيس وقالوا: لا نستطيع أن نأتيك إلا بشهر حرام، جاءوا قبلُ وقالوا: إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فالوضع كان في شدة، بخلاف الوضع حينما يركب الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.
وقد يستدل لهذا القول بما روى الإمام أحمد -رحمه الله- عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف -ا- كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها؟ فبلغنا أن ذلك ذُكر للنبي ﷺ فقال:دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفقتم مثل أحد-أو مثل الجبال- ذهبًا، ما بلغتم أعمالهم[2].
ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجَه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة، وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جَذيمة الذين بعث إليهم رسول الله ﷺ خالد بن الوليد بعد الفتح، فجعلوا يقولون: "صبأنا، صبأنا"، فلم يحسنوا أن يقولوا: "أسلمنا"، فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم، فخالفه عبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر وغيرهما، فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك، والذي في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال:لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نَصيفه[3].
هذا الحديث لا يقال معه: إن الفتح فتح مكة، وإن من أسلم بعد فتح مكة ليس كمن أسلم قبله بإطلاق، بحيث إن الذين أسلموا قبله يكونون على درجه واحدة،ٍ أبدا، هذا يدل على أنه حتى الذين اسلموا قبل فتح مكة كانوا يتفاوتون؛ ولهذا يمكن أن يقال: إن الذين أسلموا قبل صلح الحديبية ليسوا كالذين أسلموا بعد صلح الحديبية، والذين أسلموا بعد صلح الحديبية ليسوا كالذين أسلموا بعد فتح مكة، والحال تقتضي هذا وهذا، والحديث-والله أعلم- يفهم منه ما يدل على القول الأول، لكن لا يعني أن القول الآخر مردود، لكن إذا أثبتنا وأقررنا هذا التفاوت اتضح الأمر، والله أعلم، فأهل السنة يقولون: إن الصحابة على طبقات ومراتب، وليسوا على مرتبة واحده، فالعشرة ليسوا كغيرهم، وأهل بدر ليسوا كغيرهم، وأهل بيعة الرضوان ليسوا كغيرهم، لكن لا يوجد منهم أفضل من أهل بيعة الرضوان ممن وراءهم يعني ممن جاء بعد ذلك، بعدما حصل الأمر، فالذي حضر فتح مكة لم يكن بمنزلة من شهد بدراً، أو من بايع تحت الشجرة.
- رواه أبو داود، كتاب السنة، باب في النهي عن سب أصحاب رسول الله ﷺ، برقم (4658)، والطبراني في المعجم الأوسط، برقم (687)، وصححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم، برقم (988).
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (13812)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أحمد بن عبد الملك الحراني، فقد روى له النسائي وابن ماجه، وهو ثقة، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5698).
- رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي ﷺ (لو كنت متخذا خليلا) (3/1343)، برقم (3470)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب تحريم سب الصحابة (4/1967)، برقم (2540).
- رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز، والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (4/2052)، رقم (2664).
- رواه النسائي، كتاب الزكاة، باب جهد المقل، برقم (2527)، والحاكم في المستدرك، كتاب الزكاة، برقم (1519)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم و لم يخرجاه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3606).