وقوله:وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذا تمام لجملة وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون.
قال العَوْفي: عن ابن عباس في قوله:وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ.
أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الصدّيق مبالغة من الصادق، والمقصود بذلك من كمل في صدقه، وفي تصديقه، المعاني التي ذكرت في الصديق: بعضهم قال: الذين كمل تصديقهم أبو بكر ، ما ذكر النبيﷺ شيئا إلا صدقه به فلقب بالصديق؛ لكثرة تصديقه، وكذلك لكمال صدقه، فإن من كمل صدقة وتحريه للصدق يقال له: صديق، يعني كثير الصدق فتكون هذه المعاني مجتمعة في الصديق، صيغة مبالغة، وهي درجة عالية بعد درجة الأنبياء وفوق درجة الشهداء، وقوله هنا: رواية العوفي عن ابن عباس -وهذه الطريق من الطرق التي لا تثبت عن ابن عباس- يقول:وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة"، يعني: الآية في ظاهرها تحتملوَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يعني: أن المؤمنين بالله ورسله هم الصديقون وهم الشهداء، وأن هذا من باب عطف الأوصاف، فتارة تكرر الأوصاف، أو تتابع الأوصاف مع حذف أداة العطف، أو حرف العطف مثل:سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[سورة الأعلى:1-2]، وتارة مع ذكره وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى[سورة الأعلى:3-4]، فهذا كله يرجع إلى موصوف واحد، فهنا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ يعني أن هؤلاء هم الشهداء فهذا على أنها موصولة، أن هذه كلها أوصاف متتابعة لموصوف واحد، وهنا على هذا المروي عن ابن عباس -ا- تكون مفصولة بمعنى أن ما بعدها جملة استئنافية جديدة،وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ انتهى، ثم يُبدَأ كلام جديد مستأنف.
وهو اختيار ابن جرير، وكل هذا من قول أبي الضحى ومسروق و الضحاك ومقاتل، وهو القول المروي عن ابن عباس أنها مفصولة مستأنفة، بعدها مستأنف وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ كيف يكون المعنى على الوصل والفصل؟ الآن إذا قلنا: إن قوله:وَالشُّهَدَاءُ عطف على ما قبله وليس مستأنفاً،وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ معنى كلمة الشهداء: من أهل العلم من فسرها بـ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ والأنبياء، يعني الأنبياء يشهدون على أممهم، ويشهدون لهم أيضا،فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا[سورة النساء:41]، فيقول:وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء فيكون ترقى من الأدنى إلى الأعلى، وقوله:وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، قال: "هم هؤلاء أصحاب الأوصاف الكاملة من الصديقين والشهداء عند ربهم" يعني: الذين يشهدون عند ربهم على أممهم، يشهدون عليهم، ويحتمل أنّ جميع المؤمنين المحققين للإيمان وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِأن هؤلاء يوصفون بأنهم صديقون وشهداء، وهذا قال به بعض السلف، هذا كله على أساس أنها ترجع إلى موصوف واحد على العطف، وهؤلاء هم الجديرون بهذه الأوصافوَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، هؤلاء هم الصديقون حقا والشهداء حقا، وبهذا الاعتبار يكون كل من حقق الإيمان بالله ورسله فهو من الشهداء، حكما، وهذا وإن كان يحتمله ظاهر الآية إلا أن غيره قد يكون أرجح منه، ويوجد بعض الآثار التي لربما يستدل بها أصحاب هذا القول، ولكن إن كانت موصولة فيفسر وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ بالذين يشهدون، وكذلك غير الأنبياء، فهذه الأمة تشهد على الأمم، وعلى أنها مستأنفةوَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ يكون الشهداء بمعني الذين قتلوا في سبيل الله، المعنى المتبادر المعروف المشهور للشهيد، وهذا هو الأصل: أن تحمل النصوص على المعنى المتبادر إلا لقرينة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-: أن معنى وَالشُّهَدَاءُهنا الشهيد بالمعركة، ومعنى:وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِنْدَ رَبِّهِمْ: يعني لهم أجرهم وثوابهم محفوظ مدخر لا يضيع منه شيء، والآية تحتمل هذا، وتحتمل هذا، وأكثر السلف على أن قول:وَالشُّهَدَاءُ مستأنف، والله أعلم.
فيكون وَالشُّهَدَاءُ شهيد المعركة بهذا الاعتبار.
ولا شك أن الصدّيق أعلى مقامًا من الشهيد، كما رواه الإمام مالك بن أنس -رحمه الله- في كتابه الموطأ عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهﷺ قال:إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال:بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين[1]، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه.
وقوله:وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: في جنات النعيم، كما جاء في الصحيحين:إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تريدون؟ فقالوا: نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك، فنُقتل كما قُتِلنا أول مرة، فقال: إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون[2]
وقوله:لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أي: لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال، كما روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال: سمعت النبي ﷺ يقول:الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو فصدق الله فقُتل، فذلك الذي ينظر الناس إليه هكذا -ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول اللهﷺ أو قلنسوة عمر-، والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح، جاءه سهم غَرْب فقتله، فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قُتل، فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا، لقي العدو فصدق الله حتى قُتل، فذاك في الدرجة الرابعة[3]، وهكذا رواه علي بن المديني، وقال: هذا إسناد مصري صالح، ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال: حسن غريب.
هذا الحديث إسناده ضعيف، فيه أبو يزيد الخولاني مجهول، وفيه أيضاً ابن لهيعة، ولكن يمكن أن يقال: إن ابن لهيعة هنا رواه عمن تقبل روايته عنه: أحد العبادلة.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3083)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف كما يرى الكوكب في السماء، برقم (2831).
- رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، برقم (1887).
- رواه الترمذي، كتاب فضائل الجهاد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل الشهداء عند الله، برقم (1644)، وأحمد في المسند، برقم (150)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (7188).