الثلاثاء 20 / ذو الحجة / 1446 - 17 / يونيو 2025
ٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌۢ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَوْلَٰدِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمًا ۖ وَفِى ٱلْءَاخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ ۚ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ۝ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[سورة الحديد:20-21].

يقول تعالى مُوهنًا أمر الحياة الدنيا ومحقّرا لها:أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ أي: إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال:زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [سورة آل عمران:14].

قوله:أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ اللعب واللهو من أهل العلم من يقول: هما بمعنى واحد، ومنهم من فرق بينهما، بعضهم يقول: اللعب هو الباطل، واللهو كل ما يتلهى به ثم يذهب يزول، والواقع أن المعنى متقارب؛ لأن الباطل إنما قيل له: باطل لزواله، واضمحلاله؛ ولهذا البطلُ قيل له: بطل، كأنه أبطل دمه في أرض المعركة لشدة إقدامه وثباته أمام العدو وجراءته وشجاعته، وبعضهم يقول: "اللعب" هو ما رغّب في الدنيا، و"اللهو" ما صرف وشغل عن الآخرة، وبعضهم يقول: "اللعب" ما كان بالجوارح، و"اللهو" ما كان في القلب، لهَا عن الشيء بمعنى انصرف عنه واشتغل عنه، والنبي ﷺ أخبر أن كل لهو باطل، ثم استثنى من ذلك ملاعبة الرجل لولده وامرأته، وتأديبه للفرس، فهذه أمور عملية، فهي من اللهو مما يدل-والله أعلم- على أن اللهو أعم من اللعب، فاللهو كل ما يلهو به الإنسان، واللعب نوع منه، منه ما يكون حقًّا، ومنه ما يكون من الباطل، هذا بالنسبة للعب، وكل ما يتلهى به فهو لهو، والدنيا لعب ولهو، بمعنى أنه لا بقاء لها وتشغل عن الآخرة، وهي مضمحلة زائلة عما قريب، وما كان هذا شأنه فهو لعب ولهو؛ ولهذا قال: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ[سورة العنكبوت:64] يعني: الحياة الكاملة الثابتة الأبدية السرمدية، والنعيم المقيم الحقيقي، أما هذه فلا تستحق ذلك، ومن تبصر فيها ونظر بعين كاشفة للغطاء الذي يحول بين كثير من الناس، وبين معرفة حقيقتها فإنه يعرف ذلك، تجد الرجل يشتغل فيها عشرات السنين، وتشغله عن ذكر الله ، وعن طاعته، ويُحصِّل ألوان المكاسب، والتجارات بالحلال والحرام ثم آخر ذلك يتهافت، وأقرب الناس إليه، والجميع وكل أحد يريد أن يحثو حثوة على قبره! وذلك العناء الطويل، والتعب الكثير، بقي عليه الحساب، ولم يأخذ منه شيء لقبره، ولم يكن ذلك سبباً لبقائه، وتمتعه بهذا النعيم، وكذلك انظر إلى حال الناس اليوم في الأسهم –لعب- فإذا ارتفع المؤشر كالأطفال فرحوا وسروا وأخرجتهم الشاشات والصور في الصحف، يضحكون وفي غاية السرور، وإذا هبط المؤشر رأيت هذا وضع يده على رأسه، وهذا أصيب بجلطة، وهذا فتح فمه، وهذا يضحك بطريقه جنونية لا يعقل معها، ثم لعبٌ ولهو أبدا، مثل شغل الأطفال إذا قاموا يلعبون التيل! أبدا هكذا حقيقتها، هي لا تعدو هذا، لكن من الذي يتبصر فيها؟ الله المستعان.

ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية، ونعمة زائلة فقال:كَمَثَلِ غَيْثٍ وهو: المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال:وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِمَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ[سورة الشورى:28].

وقوله:أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ أي: يُعجب الزراعَ نباتُ ذلك الزرع الذي نبت بالغيث؛ وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تُعجب الحياةَ الدنيا الكفارُ، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها،ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا أي: يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًّا بعدما كان خضرًا نضرا، ثم يكون بعد ذلك كله حطامًا، أي: يصير يَبَسًا متحطمًا، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزًا شوهاء، والإنسان كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضًّا طريًّا لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وَيَنْفَد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخًا كبيرًا، ضعيف القوى، قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى:اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ[سورة الروم:54]، ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حَذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير، فقال:وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا، إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.

وقوله:وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ أي: هي متاعٌ فانٍ غارٌّ لمن ركن إليه، فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال: قال رسول اللهﷺ:لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك[1].

انفرد بإخراجه البخاري في "الرقاق"، من حديث الثوري.

ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك؛ فلهذا حثه الله على المبادرة إلى الخيرات، من فعل الطاعات، وترك المحرمات، التي تكفر عنه الذنوب والزلات، وتحصل له الثواب والدرجات،

  1. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك، برقم (6123)، وأحمد في المسند، برقم (3667)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.