قوله:كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أن الغلبة له ولرسله، والمواضع التي ذكر الله فيها الغلبة من أهل العلم من حمل ذلك على الغلبة بالحجة والبيان، ومنهم من حمله على الغلبة بالسيف والسنان، وهؤلاء الذين حملوه على الحجة كأنهم نظروا إلى بعض المواضع أو بعض المقامات التي لم يحصل فيها نصر بالسيف، فيحيى ﷺ قُتل، والله يقول:وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ[سورة آل عمران:146] على هذه القراءة إذا وقفت هنا؛ لأن أنبياء كثيرين قتلوا، وعيسى ﷺ أراد اليهود قتله فرفعه الله ولم يحصل غلبة بالسيف وميدان المعركة، فبعض أهل العلم قال: المقصود بالحجة والبيان، الحجة والبيان لا شك أنها داخلة في الغلبة، ولكن هذا الاستعمال كما يقول الشنقيطي -رحمه الله- في بعض المناسبات، هذا اللفظ –الغلبة- يأتي غالباً في القرآن مراداً به الغلبة في ميدان المعركة، مثل:وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ[سورة النساء:74] يعني: ينتصر، وأيضاً فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ[سورة الأعراف:119].
وقوله -تبارك وتعالى-:ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب، الشنقيطي -رحمه الله- تكلم على هذه الآية قال: إنه قابل القتل بالغلبة، فدل على أن المقتول مغلوب؛ لأن الذي يقابله غالب، يعني هذا مستند للذين يقولون: إن الغلبة بالحجة، قالوا: إن بعض الأنبياء قُتل، والمقتول مغلوب،فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ[سورة النساء:74]، وأجاب عن هذا وحاصل ذلك أن الغلبة قد لا تكون على يده هو، وإنما تكون باعتبار العاقبة، وأن العبرة ليست بنقص البدايات وإنما بكمال النهايات، والرسل -عليهم الصلاة والسلام- دعوتهم واحدة، والظهور الذي وعد الله به المسيح -عليه الصلاة والسلام- ودينه وأتباعه، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[سورة آل عمران:55]، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ[سورة الصف:14]، فإن هذا التأييد لعيسى ﷺ، وأتباعه من أهل التوحيد من النصارى كانوا مستضعفين مقهورين من قِبل اليهود، ثم بعد ذلك لما جاء قسطنطين وأظهر الدخول في النصرانية وأقر عقيدة التثليث صاروا يستضعفون أهل التوحيد وهم قلة، فأين كان هذا الظهور، وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ،فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ؟ ببعث محمد ﷺ، هذا على الأقرب -والله أعلم-، وفيها قول آخر وهو الذي مال إليه ابن القيم -رحمه الله- من أن المراد لما كان لهم شائبة من اتباع المسيح كانوا أقرب إليه من اليهود وإن كانوا على انحراف، فصار النصارى ومن ينتسبون للمسيح قاهرين لليهود، وينادون عليهم في ممالكهم حيناً بعد حين بالقتل، كما هو معروف في التاريخ.
وهذا التعقيب:إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ؛ لأنه مقام غلبة، وهذا يؤيد أن تكون هذه الغلبة أيضاً في ميدان المعركة.