ثم قال تعالى مخبراً عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم، وسماعه كلامهم، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا، فقال تعالى:أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍأي: من سر ثلاثة إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا أي: مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسلُه أيضاً مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله به وسمعه له، كما قال تعالى:أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ[سورة التوبة:78] وقال تعالى:أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ[سورة الزخرف:80]؛ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى ولا شك في إرادة ذلك، ولكن سمعه أيضاً مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو سبحانه تعالى مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء.
ثم قال تعالى:ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.
هو هذا، قوله -تبارك وتعالى-:أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ، هذا ابتداء الآية بالعلم، واختتامها كذلك بالعلم إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، فهذه قرينة تدل على المراد، فليس هذا من التأويل، وأهل السنة والجماعة لم يؤولوا شيئاً من نصوص الصفات، فالله -تبارك وتعالى- فوق عرشه، كما تضافرت النصوص بذلك، وكذلك أيضاً هو مطلع على خلقه محيط بهم، فهذه معيته العامة التي هي بمعنى الإحاطة -العلم-، فبصره نافذ فيهم، وكذا سمعه -تبارك وتعالى.
فهنا أَلَمْ تَرَ، الرؤية هنا رؤية علمية؛ لأن مثل هذا لا يُرى بالأبصار،مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ، يعني: بعلمه -تبارك وتعالى.
مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ النجوى في الأصل مصدر، وهي بمعنى حديث السر، وبعضهم يقول: أصلها مأخوذ من النَّجْوة وهي المكان المرتفع من الأرض، أي مكان بائن، وبعضهم يقول: لأن السر يصان عن الغير، فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى حال الخفاء، يعني: هذا المكان المرتفع النجوة، فعلى كل حال هذا المكان المرتفع هو متميز عن غيره، فكأن هؤلاء الذين يتناجون يمتازون عن الآخرين، يقصدون الانفراد عنهم والتميز، والاختصاص بهذا الحديث، فالمناجاة لا تكون إلا بين اثنين فأكثر، فإذاً هي حديث في السر يقصد به الاختصاص والانفراد، وحينما نقول: الحديث في السر قد يذهبون ويتحدون في ما بينهم بصوت مرتفع، لكن بحيث لا يسمعهم أحد، فهو بهذا الاعتبار يكون سراً، فيقصد به الانفراد، ويدخل في حكمه كل ما كان يرجع إلى ذلك، بمعنى حتى لو تكلموا بحضرة الناس، ولكن يتكلمون ويتقصدون أن يتحدثوا بلغة لا يفهمها الآخرون، لا يفهمها الطرف الآخر الموجود، فهذا الطرف الثالث لا يعرف اللغة الأعجمية، فيتحدثون بالأعجمية من أجل ألا يفهم، وهو جالس معهم ويسمع الكلام، فهذه تعتبر من النجوى من حيث الحكم، لكن هي هكذا في أصلها أنها الحديث الذي يقصد به الانفراد عن الناس،مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ليس بعد هذا شيء، فإذا كان الإنسان يتحدث ويقصد بهذا الحديث الانفراد والسر، فإن الله -تبارك وتعالى- مع هؤلاء المتناجين بعلمه، لا يخفى عليه منهم خافية، بل إنه أسمع لكلامهم من بعضهم لبعض، وهذا يحمل العبد على مراقبة الله -تبارك وتعالى- والتحرز،لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ[سورة النساء:114]، فكل حديث لربما يبالغ أصحابه في التخفي وفي صيانته عن الظهور مما يُكاد به الإسلام وتُحارب به الفضيلة فإن الله -تبارك وتعالى- يعلمه، وقد أحاط بهؤلاء وسمع كلامهم، وكتب ذلك جميعاً، ثم سينبئهم به ويقول: قلتم كذا وكذا في وقت كذا وكذا، وفي مكان كذا، فالذي يعرف هذا الكلام وهذه النتيجة فإنه يتحرز ولا يستطيع أن يتناجى إلا بما يرضي الله -تبارك وتعالى-، مما يكون حقاً في موضعه، وله فيه نية صحيحة، لابد من هذه الأمور الثلاثة، قد يكون حقاً لكن ليس في موضعه، فيكون ذلك عائداً إلى الفساد، ويكون له فيه نية صحيحة، فقد يناجي الإنسان لأغراض ومقاصد فاسدة، وإن كان موضوع النجوى بظاهر الأمر محموداً، فقد يقصد بهذه النجوى حظوظاً نفسية، ورفعة، وحظوة، أو ثناء الخلق، وما إلى ذلك، يعني أنه يُعنى بكذا، وأنه حريص على كذا، أو أنه يخفي عمله، أو أنه لا يريد الاشتهار بالمعروف والخير، وإنما يقصد به ما عند الله -تبارك وتعالى- فهو لا يذكره إلا على أضيق نطاق مما عنده من أعمال البر والخير التي يريد أن يعملها فيستشير فيها فلاناً وفلاناً، هذه كلها عند الله لا يعلمها إلا هو، فلابد من هذه الأمور الثلاثة، يكون المضمون صحيحاً، ويكون أيضاً ذلك في موضعه الصحيح، والثالث: أن يكون له قصد صالح، وإلا فإن ذلك يرجع إلى الفساد، كما سبق، -والله المستعان.