الجلاء يعني الخروج لكنه خروج خاص، يعني الجلاء أخص من مطلق الخروج، ما كل خروج يقال له: جلاء، أنت حينما تخرج الآن من البلد مسافرًا وسترجع هذا يقال له: جلاء؟ لا، ليس بجلاء، إنما هو خروج خاص، وذلك أنهم يقولون: الجلاء لا يكون إلا بالأهل والولد، هذه أولًا، يقول: أجلاهم أُجلوا، جَلَوْا يعني خرجوا بأولادهم وأهلهم ومن ثَمّ فإن الجلاء لا يكون إلا بجماعة، خروج الواحد لا يقال له: جلاء، فالجلاء في اللغة هو الخروج من الوطن، والتحول عنه بنية عدم العودة إليه، يخرج خروجًا نهائيًا، لكن لاحظ هنا أنه قال:وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ "لولا" تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، أي امتناع لوجود، امتنع العذاب لوجود الكَتْب، أي ما كتب الله عليهم من الجلاء، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا امتنع التعذيب في الدنيا بسبب وجود التقدير الأزلي وهو أن هؤلاء يُجلون، فيلزم من ثبوت الجلاء عدم التعذيب مع أن الجلاء عذاب، يعني أنه لم يحصل لهم العذاب في الدنيا بسبب أن الله كتب عليهم الجلاء وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ إذاً لم يعذبهم؛ لأنه كتب عليهم الجلاء، فالسؤال أليس الجلاء الخروج من الدار والوطن أليس عذابًا وقد قرنه الله بالقتل كما مضى في قوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ[سورة البقرة:85] فقرن الإخراج من الديار بالقتل فهو ليس بالشيء السهل فكيف قال الله -تبارك وتعالى- إذاً:وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا هذا الجلاء عذاب وظاهر الآية أنه امتنع العذاب لوجود ما كتب الله عليهم من الجلاء، ما الجواب؟.
الجواب أن المقصود بقوله:لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا يعني بالقتل كما وقع لقريظة، أي عذبهم بالقتل، وإلا فالإخراج من الديار لا شك أنه عذاب ومعاناة وخروج في غاية الإهانة، ما يخرجون بسلاح، كل أهل ثلاثة بيوت على بعير واحد، هم يحملون عليه الشيخ الكبير، أو الأطفال، أو المرأة الحامل، أو حديثة الولادة، أو يحملون عليه المتاع، وهم ليسوا ذاهبين لمسافة خمسمائة متر مثلا وإنما سيذهبون مسافة شاسعة تتجاوز الألف كيلو متر إذا كانوا سيذهبون إلى أطراف الشام، في مناطق جبلية وعرة وفيها عقبات، ويذهبون على الأقدام يحملون الأمتعة على ظهورهم، وكل أهل ثلاثة بيوت على جمل، تصور وهم يتقاسمون الحصص في الحمل على هذا الجمل هم يتعاقبون الركوب، أو الأطفال الذين يبكون، أو النساء اللاتي قد أوهنهن المشي، هذا عذاب في غاية الإهانة، إخراج مهين، لكنه مقبول بالنسبة لليهودي ما دام حياة،أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ[سورة البقرة:96] نكرة في سياق الإثبات يعني أقل ما يصدق عليه الحياة يتمسك بأهدابه، أيّ حياة ولو كانت في غاية الذل والمهانة المهم حياة، والمقصود بالعذاب القتل، فهو ألم محسوس بالأبدان، بعض أهل العلم يقول: إن الإخراج ألم محسوس بالوجدان، يعني فقد الوطن.