الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
وَجَعَلُوا۟ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ۖ وَخَرَقُوا۟ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتٍۭ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنعام:100] هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره، وأشركوا في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له في العبادة - تعالى الله عن شركهم، وكفرهم -.
فإن قيل: فكيف عُبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟
فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن، وأمرهم إياهم بذلك، كقوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا ۝ لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ۝ وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا ۝ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:117-120] وكقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي الآية [سورة الكهف:50].
وقال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [سورة مريم:44] وكقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۝ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة يس:60-61] وتقول الملائكة - عليهم السلام - يوم القيامة: سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41]".

هذا التوجيه الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لعبادتهم للجن أحسن من تفسير من فسر الآية بأن المقصود بالجن الملائكة لاجتنانهم بمعنى أنهم لا يراهم الناس، وإنما يجتنُّون بمعنى أنهم مستترون عنهم.
ومن العرب - وليس كل العرب - من عبدت الملائكة كما هو معلوم، وادعى طائفة منهم أن الملائكة بنات الله، وعلى كل حال فهذا التفسير - والله تعالى أعلم - الذي ذكره الحافظ لعله من أفضل ما يقال في معنى الآية، ويدخل في ذلك أيضاً صرف أنواع من العبادة مباشرة للجن، مثل الذبح للجن الذي كان موجوداً عندهم، ومن ذلك الاستعاذة بالجن حيث كان يقول قائلهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، ويدخل أيضاً ما أشبه ذلك من العبادات المباشرة التي يصرفونها للجن كما هو معروف، هذا كله داخل في قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100].
والجن يحتمل هنا أن يكون بدلاً من شركاء أي: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء ثم فسره بقوله: الْجِنَّ أي أن المقصود بهؤلاء الشركاء هم الجن، والله أعلم.
"ولهذا قال تعالى: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ [سورة الأنعام:100] أي: وخلقهم، فهو الخالق وحده لا شريك له فكيف يعبد معه غيره كقول إبراهيم : قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:95-96] ومعنى الآية أنه هو المستقل بالخلق وحده، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له".

على هذا يكون قوله: وَخَلَقَهُمْ [سورة الأنعام:100] جملة حالية، يعني والحال أنه خلقهم، أو الحال أنهم علموا أنه خلقهم، أو وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100] والحال أنهم قد علموا أنه خلقهم.
"وقوله تعالى: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] ينبه به - تعالى - عن ضلال من ضل في وصفه - تعالى - بأن له ولداً كما يزعم من قاله من اليهود في عزيرٍ ، ومن قاله من النصارى في عيسى ، ومن قال من مشركي العرب في الملائكة - عليهم السلام -: إنها بنات الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً -.
ومعنى وَخَرَقُواْ أي: اختلقوا، وائتفكوا، وتخرصوا، وكذبوا كما قاله علماء السلف، ولهذا قال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنعام:100] أي: تقدس، وتنزه، وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد، والأنداد، والنظراء، والشركاء".

بعض هذه المعاني التي ذكرها السلف والتي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أيضاً ترجع إلى شيء واحد، ولذلك ما احتاج إلى أن يرجح شيئاً منها، بل سرد جملة منها وقال: هذا كله داخل في معنى هذا الآية، أي أن قوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] يعني اختلقوا، واخترعوا، وما أشبه ذلك.
وقوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ [سورة الأنعام:100] قرأه نافع بالتشديد هكذا: وخرَّقوا له ومعلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فقوله: وخرّقوا يدل على التكثير، أي لكثرة ما وقع من ذلك حيث زعم اليهود ما زعموا، وزعم النصارى ما زعموا، وهكذا العرب حينما قال بعضهم: الملائكة بنات الله - والله تعالى أعلم -.
وفي قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وقوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] بيان أن هذه من مخازيهم، وفضائعهم، وجناياتهم العظيمة.
وبعضهم فسر قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّْ [سورة الأنعام:100] بأن المراد بذلك الزنادقة الذين قالوا: إن الله والشيطان هما إلهان يختص كل واحد منهما بشيء من المخلوقات، فالله هو الذي خلق الخير، والشيطان هو الذي خلق الثعابين، والعقارب، والهوام، والدواب الضارة، والحشرات الضارة، والنار وما أشبه ذلك، هذا قول الزنادقة، وهو يشبه قول بعض الزنادقة المعاصرين الذين يقولون: إن الله هو الشيطان وجهان لعملة واحدة - قبحهم الله -.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بقوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100] أي مثل أولئك المجوس، والمانوية اللذين قالوا: إن للخالق إلهين فهذا خلق النور، وهذا خلق الظلام، وعلى كل حال ما ذكره الحافظ ابن كثير يكفي في بيان المراد - والله تعالى أعلم -.

مرات الإستماع: 0

"شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] نصب الجنّ على أنه مفعول أول لـ(جعلوا) و(شركاء) مفعول ثانٍ، وقُدِّم لاستعظام الإشراك، أو (شركاء) مفعول أول، و(لله) في موضع المفعول الثاني، و(الجنّ) بدل من (شركاء) والمراد بهم هنا: الملائكة، وذلك ردٌ على من عبدهم، وقيل: المراد: الجن، والإشراك بهم طاعتهم".

فقوله: شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] ذكر هنا وجه "نصب الجنّ على أنه مفعول أول لـ(جعلوا)" يعني: جعلوا لله الجن، مفعول أول، وشركاء المفعول الثاني، وذكر علة تقديم المفعول الثاني، وهي: تعظيم شأن الإشراك لخطره، وشناعته.

"أو شركاء مفعول أول" وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ [الأنعام: 100] "ولله في موضع المفعول الثاني" والجنّ بدل، يعني: كأنهم جعلوا شركاء الله، أو يكون متعلقًا بمحذوف، أعني: اسم الجلالة، على أنه المفعول الثاني. 

يقول: "والجن بدل من شركاء" على الوجه الآخر الذي ذكره، جعلوا شركاء لله، من هؤلاء الشركاء؟ الجن، فيكون من قبيل البدل. 

"والمراد بهم هنا: الملائكة" وهذا خلاف الظاهر المتبادر؛ فإن الجن إذا ذكروا فالمقصود بهم ما يعرف بذلك، وإن كان الملائكة يتفقون بهذا الاسم من جهة أصل المعنى اللغوي، وهو الاجتنان، والاستتار، فهم لا يراهم الناس، فأصل هذه المادة (جنن) تدل على الستر، فالجنة لأنها تستر من بداخلها، والجنين لأنه مستتر في بطن أمه، والجن لأنهم لا يرون، فهؤلاء الملائكة لا يرون كذلك، فهم مجتنون بهذا الاعتبار، لكن إذا أطلق فإنه لا يصح حمل القرآن إلا على المتبادر، والجن إذا أطلق فإن المراد به الخلق المعروف غير الملائكة.

يقول: "وقيل: المراد الجن، والإشراك بهم طاعتهم" وهذا هو الصحيح، فكانت عبادتهم الأصنام عن طاعة الجن، حيث أمرتهم الشياطين بذلك، وزينوا لهم، كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[1] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء: 117] ولذلك الأصنام المعبودة ربما قارنها شياطين، وهذا معروف، ولربما خاطبتهم هذه الشياطين من هذه المعبودات، فيسمعون صوتًا؛ ولما أمر النبي ﷺ خالد بن الوليد أن يقطع العزى، وهي شجرة يعبدها المشركون، ويعظمونها، فذهب وقطعها، ورجع إلى النبي ﷺ فأخبره أنه لم يفعل شيئًا، فرجع إليها، فوجد امرأةً سوداء ناشرةً شعرها، فعلاها بالسيف، فقال النبي ﷺ: تلك العزى[2] يعني: أنها شيطانة، كانت مقترنة مع هذه الشجرة التي يعبدونها من دون الله، وهكذا فقد ذكر أهل العلم أن الشياطين تتمثل لمن يعبد الملائكة، والأنبياء، والصالحين، وذكر هذا شيخ الإسلام - رحمه الله - في كتابه "الفرقان" وذكره غيره كما هو معلوم، وكذلك كانوا أيضًا يصرفون للجن أنواعًا من العبادات، فيذبحون لها إذا حفروا بئرًا، ويأمرهم الكهان، والدجالون، والسحرة بالذبح للجن، وإذا عمَّر دارًا فإنه أيضًا يذبح للجن، وكذلك أيضًا يستغيث بهم، ويدعوهم من دون الله وإذا نزل منزلاً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي، أو بعزيز هذا الوادي، أو بعظيم هذا الوادي من سفهاء قومه، فهذه عبادة من دون الله - تبارك، وتعالى - والله يقول: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [الكهف: 50] يعبدونهم من دون الله وهكذا في قول إبراهيم : يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [مريم: 44] فسمى عبادة هذه الأصنام، وعبادة غير الله  عبادة للشيطان؛ لأنها من تسويله، وتزيينه، قال الله : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس: 60] وهكذا قول الملائكة: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ [سبأ: 41] فهذا كله صريح، وواضح في هذا المعنى، ولا يصح حمله على الملائكة باعتبار أن بعض العرب عبدوهم.

"قوله تعالى: وَخَلَقَهُمْ [الأنعام: 100] الواو للحال، والمعنى الرد عليهم، أي: جعلوا لله شركاء، وهو خلقهم، والضمير عائد على الجنّ، أو على الجاعلين، والحجة قائمة على الوجهين".

وَخَلَقَهُمْ يقول: "الواو للحال" يعني: حال من فاعل (جعلوا) فواو الجماعة هنا في (جعلوا) هو الفاعل، وأي: وقد خلقهم، ويحتمل أن يكون مستأنفًا، يعني جملة جديدة وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] انتهى الكلام، ثم قال: وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 100].

"قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ [الأنعام: 100] أي: اختلقوا، وزوّروا، والبنين: قول النصارى في المسيح، واليهود في عزير، والبنات قول العرب في الملائكة". 

وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ [الأنعام: 100] أي: اختلقوا، وزوّروا، وأصل الخرق: مزق الشيء، كما هو معلوم، وقطعه على سبيل الفساد من غير تفكر، ولا تدبر، فيعني أنهم اختلقوا له ذلك، وادعوه كذبًا، وزورًا.

"قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 100] أي: قالوا ذلك بغير دليل، ولا حجة، بل مجرد افتراء. "
  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/307).
  2. أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده برقم: (902) وقال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".