فإن قيل: فكيف عُبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟
فالجواب: أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن، وأمرهم إياهم بذلك، كقوله: إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [سورة النساء:117-120] وكقوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي الآية [سورة الكهف:50].
وقال إبراهيم لأبيه: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [سورة مريم:44] وكقوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ [سورة يس:60-61] وتقول الملائكة - عليهم السلام - يوم القيامة: سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سورة سبأ:41]".
هذا التوجيه الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لعبادتهم للجن أحسن من تفسير من فسر الآية بأن المقصود بالجن الملائكة لاجتنانهم بمعنى أنهم لا يراهم الناس، وإنما يجتنُّون بمعنى أنهم مستترون عنهم.
ومن العرب - وليس كل العرب - من عبدت الملائكة كما هو معلوم، وادعى طائفة منهم أن الملائكة بنات الله، وعلى كل حال فهذا التفسير - والله تعالى أعلم - الذي ذكره الحافظ لعله من أفضل ما يقال في معنى الآية، ويدخل في ذلك أيضاً صرف أنواع من العبادة مباشرة للجن، مثل الذبح للجن الذي كان موجوداً عندهم، ومن ذلك الاستعاذة بالجن حيث كان يقول قائلهم: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، ويدخل أيضاً ما أشبه ذلك من العبادات المباشرة التي يصرفونها للجن كما هو معروف، هذا كله داخل في قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100].
والجن يحتمل هنا أن يكون بدلاً من شركاء أي: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء ثم فسره بقوله: الْجِنَّ أي أن المقصود بهؤلاء الشركاء هم الجن، والله أعلم.
على هذا يكون قوله: وَخَلَقَهُمْ [سورة الأنعام:100] جملة حالية، يعني والحال أنه خلقهم، أو الحال أنهم علموا أنه خلقهم، أو وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100] والحال أنهم قد علموا أنه خلقهم.
ومعنى وَخَرَقُواْ أي: اختلقوا، وائتفكوا، وتخرصوا، وكذبوا كما قاله علماء السلف، ولهذا قال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنعام:100] أي: تقدس، وتنزه، وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد، والأنداد، والنظراء، والشركاء".
بعض هذه المعاني التي ذكرها السلف والتي ذكرها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أيضاً ترجع إلى شيء واحد، ولذلك ما احتاج إلى أن يرجح شيئاً منها، بل سرد جملة منها وقال: هذا كله داخل في معنى هذا الآية، أي أن قوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] يعني اختلقوا، واخترعوا، وما أشبه ذلك.
وقوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ [سورة الأنعام:100] قرأه نافع بالتشديد هكذا: وخرَّقوا له ومعلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فقوله: وخرّقوا يدل على التكثير، أي لكثرة ما وقع من ذلك حيث زعم اليهود ما زعموا، وزعم النصارى ما زعموا، وهكذا العرب حينما قال بعضهم: الملائكة بنات الله - والله تعالى أعلم -.
وفي قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وقوله: وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [سورة الأنعام:100] بيان أن هذه من مخازيهم، وفضائعهم، وجناياتهم العظيمة.
وبعضهم فسر قوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّْ [سورة الأنعام:100] بأن المراد بذلك الزنادقة الذين قالوا: إن الله والشيطان هما إلهان يختص كل واحد منهما بشيء من المخلوقات، فالله هو الذي خلق الخير، والشيطان هو الذي خلق الثعابين، والعقارب، والهوام، والدواب الضارة، والحشرات الضارة، والنار وما أشبه ذلك، هذا قول الزنادقة، وهو يشبه قول بعض الزنادقة المعاصرين الذين يقولون: إن الله هو الشيطان وجهان لعملة واحدة - قبحهم الله -.
ومن أهل العلم من قال: إن المراد بقوله: وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ [سورة الأنعام:100] أي مثل أولئك المجوس، والمانوية اللذين قالوا: إن للخالق إلهين فهذا خلق النور، وهذا خلق الظلام، وعلى كل حال ما ذكره الحافظ ابن كثير يكفي في بيان المراد - والله تعالى أعلم -.