فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] كقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30] فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا [سورة الأنعام:99] أي: زرعاً، وشجراً أخضر".
يقول تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:98] وحينما ذكر إخراج النبات، وإنزال المطر قال: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:99] وقبل هذه الآية قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:97] ثم قال: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:97] فنوع في أواخر هذه الآيات حيث ذكر العلم، ثم ذكر الفقه، ثم ذكر الإيمان، ومعلوم أن الفقه أخص من مطلق العلم، فالفقه علم خاص يحتاج إلى دقة، واستنباط، فليس كل علم يكون فقهاً، ولذلك تقول: علمت بنزول المطر، ولا تقول: فقهت ذلك، وتقول: علمت أن الارتواء يحصل بالماء ولا تقل: فقهت ذلك، فلما كان هذا المذكور هنا هو الإنشاء من نفس واحدة، واحتاج قوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [سورة الأنعام:98] إلى شيء من دقة النظر، ولطافته؛ لخفاء ذلك عُبَّر عنه بالفقه، وأما ما ذُكر قبله وبعده فإنه لا يحتاج إلى دقة في النظر، ولذلك عبر بالتعبير المناسب، أعني في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:97] فهذا أمر يعلمه كل أحد، وهكذا الأمر في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:99] فهذا أيضاً يدركه أهل الإيمان، ويقرُّون أن الله هو الخالق المدبر، المحيي المميت، الذي ينزل الغيث، ويحيي الأرض بعد موتها.
قوله - تبارك وتعالى -: وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "كقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30] وقال: "أي بقدر مباركاً، ورزقاً للعباد، وإحياء وغياثاً للخلائق" تفسيره لهذه الآية بقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء:30] يكون باعتبار أن المعنى في قوله: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] أي أنه ينبت منه كل شيء، فتنتب منه أجسام الآدميين، وتنبت منه أيضاً الدواب بجميع أنواعها، وينبت منه النبات بجميع أنواعه، أي أن قوله: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ [سورة الأنعام:99] يعني ينبت منه كل شيء من الأجسام، وسائر الكائنات الحية، وليس المقصود البناتات، والزروع فقط، وهذا التفسير هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - أيضاً، لكن من أهل العلم أيضاً من فسره بالنبات المعروف أي: سائر أنواع النباتات المختلفة من الثمار والزروع، فكل ذلك يخرجه الله بالماء الذي أنزله من السماء.
قوله: فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا [سورة الأنعام:99] أي: أخرجنا من هذا الماء الذي أنزلناه؛ لأن المُحدَّث عنه هو الماء وليس الإخراج من النبات، وذلك أن إخراج الخضر ليس من النبات وإنما يكون من الماء الذي يُسقى منه.
قوله: فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا [سورة الأنعام:99] قال: "أي زرعاً، وشجراً أخضر" ففسر الخضر بالأخضر، وبعضهم يقول: الخضر هو الرطب من البقول، وهو ما يتشعب من الأغصان الخارجة من الحبة، وبعضهم يقول: المراد بالخضر سائر أنواع الحبوب كالبر، والشعير، والذرة وما أشبه ذلك - والله تعالى أعلم -.
وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] أي: جمع قنو وهي عذوق الرطب، دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي قريبة من المتناول كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - ا -: قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض [رواه ابن جرير]".
قوله: نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا [سورة الأنعام:99] أي كما نرى في السنبلة فإن الحبة فيها بهذه الصفة التي ذكرها الله .
قال: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] الطلع فُسِّر بالكُفُرى وهو الذي يسميه العامة "الكافور"، وهو الغلاف الذي يحوي الإغريض، وذلك أنه أول ما تطلع النخلة فإنه يخرج منها الكُفُّرى الذي نسميه الكافور؛ وهذه التسمية من الكَفر حيث يستر ما بداخله من الإغريض، والإغريض هو الشيء الأبيض في أوله الذي يؤبَّر ثم بعد ذلك يخضر، ثم بعد ذلك تبدأ تنعقد منه أصول البُسر، وهو ما يسمى بعد ذلك بالقنو أو العذق أي عذق النخيل وهو بمنزلة عنقود العنب، فإذا تطاول عليه الزمن، وذهب ما فيه من البسر أو الرطب؛ قيل له: العرجون.
قال الله - تبارك وتعالى -: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] يعني يخرج من طلعها قنوان، والقنوان جمع قنو وهو العذق، وقد فسره بعضهم بهذا الكفرى أي الغلاف، وفسره بعضهم بنفس الإغريض، وكل هذا يقال له: طلع في اللغة، فهذا الغلاف في الواقع يخرج منه الإغريض، ويخرج من هذا الإغريض - الذي في أوله، ومبدئه؛ بالهيئة المعروفة - حبات صغيرة جداً تتحول بعد ذلك إلى الرطب، والتمر؛ الذي تكون في غاية الحلاوة.
قال تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي: قريبة من المتناول، وفي سورة "ق" قال: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ [سورة ق:10] والباسقات هي الطوال، والثمر الأجود في النخل الطوال لا القصار؛ والسبب هو وصول الماء والغذاء بسهولة، فكلما ارتفعت الشجرة إلى الأعلى كلما كان وصول الغذاء إلى أعلاها أصعب، ولذلك نجد أهل الزراعة يقومون بتسميد النباتات بالنجاسات، ويقولون: إن ذلك يكون للشجر الطوال، ولا يكون للزروع؛ لأن الزروع تتشرب ذلك وتتشبع به، ولذلك إذا نظرنا إلى زروع تسقى من هذه النجاسات كالكراث، وأنواع البقول، والنعناع، وما أشبه ذلك لرأيناها في غاية النظارة أي تكون مترعرعة جيدة في مظهرها تستهوي الناظر، وذلك أنه يؤثر فيها تأثيراً سريعاً مباشراً بخلاف الأشجار الطويلة.
ومما يذكر هنا أن الله في سورة "ق" قال: وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ [سورة ق:10] أي طويلة وهنا قال: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي قريبة لمن أراد أن يتناولها، ولهذا التفاوت في الوصف وجه، فعلى قول بعضهم - كالزجاج - أن هذا من باب الاكتفاء فقال سورة الأنعام: وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ [سورة الأنعام:99] أي: وبعيدة، فاكتفى بأشرف النوعين ليدل به على الآخر.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [سورة الأعلى:9] على قول الفراء: أي: وإن لم تنفع فذكر، فاكتفى بأشرف القسمين ليدلل به على الآخر، ومن ذلك قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [سورة النحل:81] أي: والبرد، وهكذا، وهذا لا إشكال فيه.
لكن إذا قيل: إن دانية مقصود بالذكر فيكون هذا من باب الامتنان، ويكون قوله في سورة "ق": وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ [سورة ق:10] من باب ذكر مظاهر العظمة، والقدرة على الخلق، ومظاهر العظمة، والقدرة على الخلق؛ يكون في النخل الطوال، وفي الامتنان يكون بذكر النخل القصار التي تكون قنوانها في متناول اليد بحيث لا يحتاج مريدها إلى كلفة، وصعود، وتعب، ولذلك فالمشاهد عند أهل النخيل أنهم ربما تركوا فيه الثمر؛ لأن مؤونة إخراج هذا الثمر، وقطافه؛ أكثر من الانتفاع به عند بيعه، والتصرف فيه؛ حيث يكلفهم أكثر من قيمته، فيتركونه، ثم يصرمونه بعد ذلك للدواب في آخر الوقت، فهذا مشاهد، والخلاصة أن المنة تكون بالقصار أكثر من المنة في الطوال، والعظمة تظهر في الطوال أجلى من ظهورها في القصار، والله أعلم.
وفي قوله: قِنْوَانٌ [سورة الأنعام:99] القنوان هي العذق - وهذا هو المشهور - وبعضهم فسروا القنوان بالجُمَّار، وهذا بعيد، والجمار هو الذي نسميه قلب النخلة، وهو مادة بيضاء تؤكل، توجد في مكمن الحياة في قلب النخلة الذي يخرج منه الفروع الجديدة أو العسب الجديدة، فإذا مات هذا انتهت النخلة، والمقصود أن تفسير القنوان بهذا بعيد، والله أعلم.
قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ [سورة الأنعام:99] في قراءة عاصم بالرفع وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ [سورة الأنعام:99] والتقدير ولهم جنات من أعناب، وهذه القراءة - بالجر - يكون على العطف.
وهنا سؤال مقدر هو لماذا اقتصر الله على ذكر هذين النوعين من الثمار - النخيل، والأعناب - مع أنه توجد ثمار أخرى؟
فالجواب هو قول الحافظ - رحمه الله -: "وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز"؛ أي لأن هذان النوعان هما الذي يعرفه العرب، وهو أفضل وأنفع ما عندهم من الثمار، فالله يمتن على المخاطبين بما يعرفونه، وقد جرت عادة القرآن أنه يخاطب العرب بمعهودهم، ولذلك لما ذكر ثمار الجنة أيضاً لم يذكر لهم ألوان الثمار الأخرى الموجودة في الدنيا مما قد يكون أجود طعماً من التمر، والعنب، وإنما خاطبهم بمعهودهم، وكذلك لما ذكر لهم عجائب الخلق في الحيوان ذكر لهم الجمل، ولم يذكر لهم الفيل، ولا وحيد القرن، ولا الزرافة، ولم يذكر لهم أيضاً بعض الحيوانات البحرية الضخمة كبعض الحيتان ونحو ذلك؛ لأنهم ربما ما رأوا ذلك، ولا عرفوه؛ فخاطبهم بما يعرفون.
هذا بناء على تفسير السكر بالمسكِر - مع أن ذلك أباه جمع من أهل العلم، وقالوا: المقصود بالسكر يعني العصير الحلو المستلذ - ومعلوم أنهم كانوا ينتبذون في الأسقية بأن يلقون التمر أو الرطب في جرة ماء أو نحوها، فيتحول لون الماء أو طمعه إلى لون من الشراب يقال له: النبيذ حيث يكون حلو الطعم، وربما ألقوا العنب ونحوه بدل التمر فيصير حلواً، فإذا مضى عليه مدة ربما اشتد، وألقى بالزبد، وصار مسكراً.
يعني أن أشكالها في الظاهر ربما تتشابه، لكن الطعوم تتخلف، فالزيتون أنواع كثيرة جداً، والرمان كذلك، وهكذا سائر الثمار، والآن تقام معارض لبعض الثمار كما هو معروف، ونجدها تتشابه بالشكل، وتختلف في الطعم، وكل نوع له خصائصه، فالتمر متشابه في الظاهر ولكنه مختلف في أنواعه، وطعومه، وخصائصه، وتركيبه، وهكذا يشتبه شجره في ورقه، وأغصانه، وفروعه، ولكن ثماره تكون مختلفة، فهذه شجرة عنب، وهذه شجرة عنب، وهذه نخلة، وهذه نخلة، إلا أن هذه يخرج منها لون من الثمر، وهذه يخرج منها لون آخر، تختلف ألوانه من أحمر، إلى أصفر، وتختلف أيضاً طعومه، وأنواعه.
قوله تعالى: صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ [سورة الرعد:4] يعني تجد النخلة أحياناً تشترك في أصل واحد، ثم يخرج من جوانبها نخيل، وأحياناً تجد كل نخلة مستقلة عن الأخرى.