الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَهُوَ ٱلَّذِىٓ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا ٱلْءَايَٰتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ۝ وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام:98-99].
يقول تعالى: وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة الأنعام:98] يعني آدم كما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء [سورة النساء:1].
وقوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [سورة الأنعام:98] قال ابن مسعود، وابن عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي، وقيس بن أبي حازم، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم النخعي، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي، وعطاء الخرساني وغيرهم: فَمُسْتَقَرٌّ أي: في الأرحام، قالوا أو أكثرهم: وَمُسْتَوْدَعٌ أي: في الأصلاب.
وعن ابن مسعود وطائفة عكسه، وعن ابن مسعود أيضاً وطائفة: فمستقر في الدنيا، ومستودع حيث يموت".

فقوله - تبارك وتعالى -: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [سورة الأنعام:98] ذكر القول الأول وهو أن المستقر أي في الأرحام، وأن المستودع أي في الأصلاب، وهذا عزاه القرطبي - رحمه الله - إلى أكثر المفسرين، أي أن عامة المفسرين من السلف ومن بعدهم يقولون بذلك، والتقدير: فلكم مستقر، أي: على ظهر الأرض، ولكم مستودع أي: في الأصلاب، أو فلكم مستقر على ظهرها ومنكم مستودع في الرحم يعني منكم من لم يخرج إلى الآن على وجه البسيطة بل هو لا يزال في الأرحام، أو فَمُسْتَقَرٌّ يعني على ظهر الأرض، وَمُسْتَوْدَعٌ أي: منكم مستودع في بطنها قد ضمته بعد أن فارق الحياة، أو فمستقر على ظهرها، ومستودع في الأصلاب لم يخرج بعد إلى الحياة.
وبعضهم يقول: المستقر في الأرحام، والمستودع في الأرض، وبعضهم يقول: المستقر في القبر، وبعضهم يقول: المستقر من خُلِق، والمستودع من لم يخلق، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها، وليس عندنا دليل يحدد واحداً من هذه المعاني، والذي عليه عامة أهل التفسير هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، أي: مستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب.
وابن جرير - رحمه الله - حمل الآية على أعم معانيها فقال: هذه الأقوال التي ذكرت كلها جائز أن يكون مراداً بهذه الآية.
قوله: فَمُسْتَقَرٌّ هذه اللفظة فيها قراءة أخرى متواترة وهي قراءة أبي عمرو بن العلاء - بكسر القاف - أي: فمستقِرٌّ وفسرت بمعنى أن منكم مستقِرٌّ يعني على ظهر الأرض، والله أعلم.
"وقوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [سورة الأنعام:98] أي: يفهمون ويعون كلام الله ومعناه".

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الأنعام: 98] من كَسَرَ القاف من (فَمُسْتَقِرٌّ) فهو اسم فاعل وَمُسْتَوْدَعٌ اسم مفعول، والتقدير: فمنكم مستقرّ، ومستودع، ومن فتحها فهو اسم مكان، أو مصدر وَمُسْتَوْدَعٌ مثله، والتقدير على هذا: لكم مستقرّ، ومستودع، والاستقرار في الرحم، والاستيداع في الصلب، وقيل: الاستقرار فوق الأرض، والاستيداع تحتها".

فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يقول: "من كسر القاف من فَمُسْتَقَرٌّ" يعني (فَمُسْتَقِرٌّ) وهذه قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وقراءة الجمهور بالفتح[1] فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فعلى قراءة الكسر (فَمُسْتَقِرٌّ) اسم فاعل، والمراد: الولد القار في الرحم إلى وقت الولادة وَمُسْتَوْدَعٌ اسم مفعول.

يقول: "والتقدير: فمنكم مستقِرّ، ومستودَع، ومن فتحها فَمُسْتَقَرٌّ فهو اسم مكان" يعني اسم مكان، وهو موضع استقرار الولد، وهو الرحم فَمُسْتَقَرٌّ (فَمُسْتَقِرٌّ) هو الولد، ومستقَر هو الموضع الذي يكون فيه الولد، وهو الرحم "أو مصدر" وَمُسْتَوْدَعٌ مثله" أي يكون مصدرًا "والتقدير على هذا: لكم مستقرّ، ومستودع" ويبقى هذا المستقر، والمستودع على هذه القراءة، قراءة الفتح: على المصدر، يقول: "والاستقرار في الرحم" "والاستيداع في الصلب" مستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب، وهذا القول عزاه القرطبي لأكثر المفسرين[2].

وجاء عن ابن مسعود أيضًا أن المستقر في الدنيا، والمستودع حيث يموت[3].

وبعضهم يقول: المستقر في القبر، وبعضهم يقول: المستقر من خُلق، والمستودع: من لم يخلق، فكل هذا يحتمل، ولا دليل على واحد منها.

ولهذا حمله ابن جرير - رحمه الله - على أعم معانيه، يعني في الأصلاب، والأرحام، وفوق الأرض، وفي القبر[4].

وأصل الاستقرار يدل على التمكن، وأصل ودع يدل على الترك، والتخلية، لكن القول الأول الذي ذكره ابن جزي - رحمه الله - على قراءة الفتح فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ فالاستقرار في الرحم، والاستيداع في الصلب، فهذا كما ذكرنا قول أكثر أهل العلم من المفسرين، وهو مروي عن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وعطاء، والسدي، وقتادة، والضحاك، وابن زيد[5] وهو اختيار الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[6].

وكما سبق أن ابن جرير حملها على المعاني التي ذكرها ابن جزي، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - فسر ذلك بأن المستقر في الآخرة، والمستودع في الدنيا، والبرزخ[7] لكن المعنيان اللذان ذكرهما ابن جزي، وهما: الاستقرار في الرحم، والاستيداع في الصلب، أو الاستقرار فوق الأرض، والاستيداع تحتها، هذان أقوى هذه الوجوه، من ناحية السياق، ودلالة الألفاظ - والله أعلم -.

يعني لو قيل مثلاً: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي: في الأصلاب، والأرحام، وفوق الأرض، وتحتها، كما قال ابن جرير - رحمه الله - فيكون هذا كأنه أقرب - الله أعلم -.

  1.  السبعة في القراءات (ص: 263) والتيسير في القراءات السبع (ص: 105).
  2.  تفسير القرطبي (7/46).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (11/563).
  4.  المصدر السابق (11/571).
  5.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/305).
  6.  المصدر السابق (3/306).
  7.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 266).