وثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاًَ: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه[3].
وفي الكتب المتقدمة إن الله - تعالى - قال لموسى لما سأل الرؤية: "يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده"، أي تدعثر.
وقال تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف:143] ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة لعبادة المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله، وعظمته؛ على ما هو عليه - تعالى وتقدس، وتنزه - فلا تدركه الأبصار".
يقول تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [سورة الأنعام:103] الإدراك غير الرؤية؛ فالإدراك يعني الإحاطة، فنحن نرى السماء لكننا لا ندركها، والله قال لموسى ﷺ - ووعده صدق وحق لا يتخلف - قال له: لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طه:77] يعني أن فرعون لن يدركك، قال تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طه:77]، ومع ذلك قال الله عن قول قوم موسى: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ [سورة الشعراء:61] يعني كل طائفة نظرت إلى الأخرى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا [سورة الشعراء:61-62] لاحظ؛ فنفى الإدراك، أما الرؤية فتحققت مع أن الله وعده بقوله: لَّا تَخَافُ دَرَكًا [سورة طه:77] فرؤية الفراعنة لموسى ومن معه ليست من الإدراك؛ لأن الله وعده بأن لا يقع الإدراك، وبهذا نعرف الفرق بين الإدراك وبين الرؤية، فالله قال: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [سورة الأنعام:103] أي: لا تحيط به وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] أي: يحيط بها، فنظر الناظرين إليه كما قال : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ [سورة القيامة:22] يعني من النضرة والحسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23] يعني تنظر إلى الله .
والنظر إذا عُدِّي بـ"إلى" فالمقصود به نظر العين، وإذا عدي بـ"في" فالمقصود به نظر القلب، والتفكر، تقول: نظرت في كذا، سأنظر في أمرك، بمعنى التفكر، وهنا قال الله في النظر إلى الله - تبارك وتعالى -: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:23]، وفي الحديث: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته[4].
وأحاديث الرؤية متواترة، فعقيدة أهل السنة والجماعة أن أهل الإيمان يرون الله - تبارك وتعالى - في الآخرة، أما في الدنيا فإن هذه الرؤية لا تكون، ولم يره لا النبي ﷺ، ولا غير النبي ﷺ، ولهذا لما طلب موسى ﷺ الرؤية قال له ربه: لَن تَرَانِي [سورة الأعراف:143] ثم علق هذه الرؤية - أعني إمكانها - على أمر ممكن وليس مستحيلاً فقال: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا [سورة الأعراف:143] فكون الجبل يبقى، وأن الله يقويه على هذا؛ هو أمر ممكن، فلما لم يعلقه بشيء مستحيل دل على أن الرؤية ممكنة ولكنها ممتنعة في الدنيا لضعف قوى الخلق عنها، وأما في الآخرة فإن الله ينشئوهم نشأة أخرى، والله أعلم.
وقوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] أي: يحيط بها، ويعلمها على ما هي عليه؛ لأنه خلقها كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك:14] وقد يكون عبَّر بالإبصار عن المبصرين، كما قال السدي في قوله: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] لا يراه شيء، وهو يرى الخلائق".
على هذا يكون معنى الأبصار أي: الناس، ويكون قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [سورة الأنعام:103] أي: لا يدركه الناس وهو يدركهم، لكن هذا القول لا حاجة إليه.
أحد معاني اللطيف أي الرفيق، والمعنى الآخر أي: الذي يعلم دقائق الأشياء، فالخبير هو الذي يعلم بواطن الأشياء، واللطيف هو الذي يعلم دقائقها، فالله تعالى ذكر هنا اللطيف، والخبير فقال: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ [سورة الأنعام:103] أي هو الذي يعلم دقائق الأمور، ويعلم بواطنها، والله أعلم.
- أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق - باب إذا قال أحدكم: آمين، والملائكة في السماء، فوافقت إحداهما الأخرى؛ غفر له ما تقدم من ذنبه (3062) (ج 3 / ص 1181) ومسلم في كتاب الإيمان - باب معنى قول الله : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [سورة النجم:13] وهل رأى النبي ﷺ ربه ليلة الإسراء؟ (177) (ج 1 / ص 159) إلا أن لفظ البخاري: "فقد أعظم" بدل قولها: "فقد كذب" ولفظ مسلم: "فقد أعظم على الله الفرية".
- سنن الترمذي في كتاب التفسير - باب تفسير سورة الأنعام (3068) (ج 5 / ص 262) وصححه الألباني.
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب في قوله ﷺ: إن الله لا ينام، وفي قوله حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه (179) (ج 1 / ص 161).
- أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة - باب فضل صلاة العصر (529) (ج 1 / ص 203) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (633) (ج 1 / ص 439).