يقول - تبارك وتعالى -: قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ [سورة الأنعام:104] البصائر: جمع بصيرة وهي نور القلب، فالبصر هو نور العين، والبصيرة هي نور القلب، والمقصود بالبصيرة هنا الحجج، والبراهين، والبينات التي تدل على الحق، وتوضحه.
يقول - تبارك وتعالى -: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] وَلِيَقُولُواْ يمكن أن تكون معطوفة على محذوف أي: وكذلك نصرف الآيات لتقوم الحجة، وليقولوا درست.
أو يكون علة لفعل محذوف يقدر متأخراً هكذا: وليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا المعنى فاللام تكون للعاقبة أو للصيرورة، وعلى كل حال فهذان المعنيان يرجعان إلى شيء واحد - والله تعالى أعلم -، أي سواء كان المعنى وليقولوا درست صرفناها، أو وكذلك نصرف الآيات لإقامة الحجة، وليقولوا درست، فعلى المعنى الأول تكون اللام لام التعليل التي تسمى لام كي، وعلى المعنى الثاني يمكن أن تكون للصيرورة، وعلى كل منهما يكون في عاقبة الأمر، ونهايته أنهم يقولون: درست.
قال الحافظ ابن كثير: وليقول المكذبون: دارست يا محمد من قبلك، هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير، أي (دارست) من المدارسة، والمفاعلة غالباً تأتي لما كان بين طرفين فأكثر، والمعنى إنك دارست أهل الكتاب، ودارسوك.
وعلى قراءة ابن عامر (وليقولوا درَسَت) أي أن الآيات درست بمعنى ذهبت، واضمحلت، وتقادم عهدها، وعفت، وانقطعت، وقيل غير ذلك لكن هذا هو الأقرب في تفسير هذه القراءة - والله تعالى أعلم -، وهو الذي مشى عليه القرطبي، وجماعة، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -.
وقرأ الباقون وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] وهي بمعنى قراءة (دارستَ) أي درست على غيرك كما قال الله - تبارك وتعالى - أنهم قالوا: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سورة النحل:103] وكما في قوله: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5] والمقصود أن هؤلاء زعموا أن النبي ﷺ كان يدرس على غيره، أو كان يتلقى القرآن من غيره.
وهذه القراءات الثلاث قراءات متواترة، والمعنى في القراءة الأولى، والثالثة؛ يرجع إلى شيء واحد، وأما القراءة الثانية فمعناها يختلف، ومعلوم أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، وخلاصة معنى القراءتين عفت، وتقادم عهدها، أو تلقيت هذا القرآن، ودرسته، وتعلمته من غيرك؛ وليس من الله .
وقوله: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:105] أي: ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه، فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك، وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً الآية [سورة البقرة:26] وكقوله: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [سورة الحج:53] وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الحج:54]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [سورة المدثر:31] وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين، وأنه يضلُّ به من يشاء، ويهدي من يشاء".
هذا الكلام يوضح فيه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وجه ما ذكر من أن الله يوضح الآيات ويبينها، أي أن قوله: وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] معناه لكي يقولوا درست، - على القول أن اللام في قوله: وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] لام كي، وهذه الآيات توضح هذا المعنى، فالله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهؤلاء الذين هذه صفتهم يكون القرآن، وسماع الآيات لهم عمى كما قال الله عنهم: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [سورة فصلت:44].
وعلى القول الآخر أن اللام للعاقبة فالمعنى أن الله قد علم أنهم ليسوا بأهلٍ لفقه هذه الآيات، والعمل بها، والاهتداء بها، فصار سماع هذه الآيات لا يزيدهم إلا إعراضاً، ولهذا قال بعده: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:105] مع أن القرآن بيان للجميع، ولكنه خص الذين يعلمون؛ لأنهم الذين ينتفعون به كما قال الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] مع أنه هدى لجميع الناس، فصح أن يخص به المنتفع به دون غيره مع أنه هدىً لجميع الخلق.