الأحد 04 / ذو الحجة / 1446 - 01 / يونيو 2025
وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ وَلِيَقُولُوا۟ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُۥ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وقوله: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ [سورة الأنعام:105] أي: وكما فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان التوحيد، وأنه لا إله إلا هو؛ هكذا نوضِّح الآيات، ونفسرها، ونبيّنها في كل موطن لجهالة الجاهلين، وليقول المشركون، والكافرون المكذبون: دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب، وقارءتهم، وتعلمت منهم، هكذا قاله ابن عباس - ا - ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك وغيرهم".

يقول - تبارك وتعالى -: قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ [سورة الأنعام:104] البصائر: جمع بصيرة وهي نور القلب، فالبصر هو نور العين، والبصيرة هي نور القلب، والمقصود بالبصيرة هنا الحجج، والبراهين، والبينات التي تدل على الحق، وتوضحه.
يقول - تبارك وتعالى -: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] وَلِيَقُولُواْ يمكن أن تكون معطوفة على محذوف أي: وكذلك نصرف الآيات لتقوم الحجة، وليقولوا درست.
أو يكون علة لفعل محذوف يقدر متأخراً هكذا: وليقولوا درست صرفناها، وعلى هذا المعنى فاللام تكون للعاقبة أو للصيرورة، وعلى كل حال فهذان المعنيان يرجعان إلى شيء واحد - والله تعالى أعلم -، أي سواء كان المعنى وليقولوا درست صرفناها، أو وكذلك نصرف الآيات لإقامة الحجة، وليقولوا درست، فعلى المعنى الأول تكون اللام لام التعليل التي تسمى لام كي، وعلى المعنى الثاني يمكن أن تكون للصيرورة، وعلى كل منهما يكون في عاقبة الأمر، ونهايته أنهم يقولون: درست.
قال الحافظ ابن كثير: وليقول المكذبون: دارست يا محمد من قبلك، هذه قراءة أبي عمرو وابن كثير، أي (دارست) من المدارسة، والمفاعلة غالباً تأتي لما كان بين طرفين فأكثر، والمعنى إنك دارست أهل الكتاب، ودارسوك.
وعلى قراءة ابن عامر (وليقولوا درَسَت) أي أن الآيات درست بمعنى ذهبت، واضمحلت، وتقادم عهدها، وعفت، وانقطعت، وقيل غير ذلك لكن هذا هو الأقرب في تفسير هذه القراءة - والله تعالى أعلم -، وهو الذي مشى عليه القرطبي، وجماعة، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -.
وقرأ الباقون وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] وهي بمعنى قراءة (دارستَ) أي درست على غيرك كما قال الله - تبارك وتعالى - أنهم قالوا: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [سورة النحل:103] وكما في قوله: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:5] والمقصود أن هؤلاء زعموا أن النبي ﷺ كان يدرس على غيره، أو كان  يتلقى القرآن من غيره.
وهذه القراءات الثلاث قراءات متواترة، والمعنى في القراءة الأولى، والثالثة؛ يرجع إلى شيء واحد، وأما القراءة الثانية فمعناها يختلف، ومعلوم أن القراءتين إذا كان لكل قراءة معنى يخصها فهما بمنزلة الآيتين، وخلاصة معنى القراءتين عفت، وتقادم عهدها، أو تلقيت هذا القرآن، ودرسته، وتعلمته من غيرك؛ وليس من الله .
"وروى الطبراني عن عمرو بن كيسان قال: سمعت ابن عباس - ا - يقول: "دارست تلوت، خاصمت جادلت، وهذا كقوله - تعالى - إخباراً عن كذبهم، وعنادهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا ۝ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [سورة الفرقان:4-5] وقال - تعالى - إخباراً عن زعيمهم، وكاذبهم: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ۝ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ۝ ثُمَّ نَظَرَ ۝ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ۝ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ۝ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ۝ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [سورة المدثر:18-25].
وقوله: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:105] أي: ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه، فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك، وبيان الحق لهؤلاء كقوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً الآية [سورة البقرة:26] وكقوله: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [سورة الحج:53] وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الحج:54]، وقال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [سورة المدثر:31] وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82]، وقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت:44] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين، وأنه يضلُّ به من يشاء، ويهدي من يشاء".

هذا الكلام يوضح فيه الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وجه ما ذكر من أن الله يوضح الآيات ويبينها، أي أن قوله: وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] معناه لكي يقولوا درست، - على القول أن اللام في قوله: وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ [سورة الأنعام:105] لام كي، وهذه الآيات توضح هذا المعنى، فالله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهؤلاء الذين هذه صفتهم يكون القرآن، وسماع الآيات لهم عمى كما قال الله عنهم: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [سورة فصلت:44].
وعلى القول الآخر أن اللام للعاقبة فالمعنى أن الله قد علم أنهم ليسوا بأهلٍ لفقه هذه الآيات، والعمل بها، والاهتداء بها، فصار سماع هذه الآيات لا يزيدهم إلا إعراضاً، ولهذا قال بعده: وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:105] مع أن القرآن بيان للجميع، ولكنه خص الذين يعلمون؛ لأنهم الذين ينتفعون به كما قال الله : ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] مع أنه هدى لجميع الناس، فصح أن يخص به المنتفع به دون غيره مع أنه هدىً لجميع الخلق.

مرات الإستماع: 0

"قوله تعالى: وَلِيَقُولُوا [الأنعام: 105] متعلق بمحذوف، تقديره: ليقولوا صرفنا الآيات". 

"وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ متعلق بمحذوف تقديره: ليقولوا صرفنا الآيات، وهذه اللام فسرها كثير من أهل العلم بأنها لام الصيرورة، والعاقبة، أي: ليكون عاقبة أمرهم تكذيبًا، كقوله - تعالى -: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] هم ما التقطوه من أجل أن يكون كذلك، ولكن اللام هذه للعاقبة، وإلا لو علموا أنه سيكون سببًا لما ذُكر لقتلوه، وإنما رجو أن يتخذوه ولدًا، أو أن ينفعهم، فهذه لام العاقبة، فتصريف الآيات هذا التصريف ليكون عاقبة ذلك التكذيب؛ فيأخذهم الله ويعذبهم على كفرهم، وإعراضهم.

يقول: "وَلِيَقُولُوا متعلق بمحذوف، تقديره ليقولوا: صرفنا الآيات" يعني وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وصرفنا الآيات، ويحتمل أن يكون وَلِيَقُولُوا معطوف على محذوف، أي: نصرف الآيات لتقوم الحجة، وليقولوا درست، مع أن بعض أهل العلم لم يستبعد أن تكون اللام في وَلِيَقُولُوا أن تكون للتعليل، يعني من أجل أن يقولوا ذلك صرفنا الآيات.

"قوله تعالى: دَرَسْتَ [الأنعام: 105] بإسكان السين، وفتح التاء، أي: درست العلم، وقرأته، ودارست بالألف أي: دارست العلماء، وتعلمت منهم، ودرست بفتح السين، وإسكان التاء، بمعنى قدُمت هذه الآيات، ودثرت". 

قوله: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ فيه هذه القراءات التي ذكرها المؤلف، وهي:

(دارست) وهذه قراءة ابن كثير، وأبي عمرو.

و(دَرَسَت) هذه قراءة ابن عامر.

و(دَرَسْتَ) قراءة الباقين، وهي التي نقرأ بها[1].

يقول: "دَرَسْتَ بإسكان السين، وفتح التاء، أي: درست العلم، وقرأته" أي: من كتب أهل الكتاب، وهذا ظاهر البطلان، باعتبار أن النبي ﷺ لم يكن يقرأ، ولا يكتب وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] فكيف يقولون: بأنك درست ذلك؟!

"ودارست بالألف؛ أي: دارست العلماء" يعني: أهل الكتاب "وتعلمت منهم" والمدارسة في الأصل: مفاعلة، فتكون بين طرفين، وأكثر.

"ودرست بفتح السين، وإسكان التاء، بمعنى قَدُمت هذه الآيات، ودثرت" ومعنى: دثرت: مضت، وانمحت، وتقادمت، وانمحى أثرها من القلوب، كما يقول القرطبي[2] والشنقيطي[3] يعني كأن هذه الآيات، طرقت أسماعنا منذ زمن، وزال أثرها، درست، من دراس الشيء، وهو محوه، وزوال أثره، فهذه قراءات متواترة صحيحة، وأما قوله - تبارك، وتعالى -: (دَارَسْتَ) يعني: أهل الكتاب، كما يقولون: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] وهكذا في قوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ۝ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان: 4 - 5].

"قوله تعالى: وَلِنُبَيِّنَهُ [الأنعام: 105] الضمير للآيات، وجاء مذكرًا لأن المراد بها القرآن".

يعني باعتبار المعنى. 

  1. معاني القراءات للأزهري (1/376) وحجة القراءات (ص: 264).
  2. تفسير القرطبي (7/59).
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/489).