يقول تعالى: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك، ويعادونك، ويعاندونك؛ جعلنا لكل نبي من قبلك أيضاً أعداء فلا يحزنك ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ الآية [سورة الأنعام:34]، وقال تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [سورة فصلت:43] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ الآية [سورة الفرقان:31]، وقال ورقة بن نوفل لرسول الله ﷺ: "إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي".
وقوله: شَيَاطِينَ الإِنسِ [سورة الأنعام:112] بدل من عَدُوًّا أي: لهم أعداء من شياطين الإنس، والجن.
والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء - قبحهم الله ولعنهم -".
بعضهم يقول: قيل له شيطان لخروجه عن نظائره، ولهذا يفسره بعضهم بقوله: إنه مأخوذ من شطنة البئر إذا بعد غورها، وقعرها، وبعضهم يقول: قيل للشيطان ذلك لبعده عن طاعة الله ، وعن الخير، وبعضهم يقول: إن الشيطان بمعنى العاتي المتمرد، فكل عاتٍ متمرد هو شيطان، ولهذا قال الشاعر:
أيام يدعونني الشيطان من غزل | وكنَّ يهوينني إن كنت شيطانا |
فالشياطين ربما قيل لهم شياطين لعتوهم، وتمردهم، ولهذا قال كثير من أهل العلم كابن جرير: الشياطين يعني المردة، وهذا لا إشكال فيه، وبعضهم يقول ما ذكره الحافظ ابن كثير: "كل من خرج عن نظيره بالشر"، وهذا أيضاً لا إشكال فيه؛ فهؤلاء إنما كانوا مردة لخروجهم عن صفة نظائرهم.
وهذه الآية نص صريح في أن الإنس فيهم شياطين، والنبي ﷺ قال: الكلب الأسود شيطان[1]، وعلى كل حال فالمردة من الإنس والجن يقال لهم شياطين، وأعداء الرسل الذين ذكرهم الله هم من النوعين - من شياطين الإنس، وشياطين الجن -، ولا يختص ذلك بزمان الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وأيام حياتهم، بل يبقون ما شاء الله في كل زمان، ومكان.
وقوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] أي: يلقي بعضهم إلى بعض القول المزيَّن المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره".
يقول الحافظ - رحمه الله - في قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ "أي: يلقي بعضهم لبعض" الإيحاء أو الوحي أصح معانيه التي يفسر بها من كلام العرب هو كل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه، ولا يختص ذلك بالإلقاء السريع الخفي - كما هو المشهور -، بل يكون بهذا وبغيره، فجبريل ﷺ جاء إلى النبي ﷺ في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر... إلى آخر الحديث[2]، والمقصود أن لم يُلقِ الوحي بسرعة وخفاء، ولذلك يقال: لا يلزم في الوحي أن يكون بسرعة، وخفاء؛ بل يطلق على ما ألقي بسرعة، ويطلق على غيره، كما يقال في الكتابة: إنها وحي، ولهذا يقولون: وحي في حجر، ويقال للرمز والإشارة أيضاً وحي، ويطلق على غير ذلك أيضاً، والله أعلم.
فقوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ [سورة الأنعام:112] أي: يلقي بعضهم إلى بعض.
وقوله: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] يعني ما تموه به الحقائق، وتضلل به الأفهام؛ سواء كان ذلك بتغيير الأسماء كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - كلاماً عن هذا في غاية الحسن، والجودة؛ حيث قال: يسمون الخمرة بغير اسمها، ويسمون الزنا بغير اسمه، ويسمون الربا بالفائدة، ويسمون الإفساد بالإصلاح، وقد قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] إلى غير ذلك من الأسماء المبهرجة التي يروجون بها الباطل، فيستهوي ذلك بعض النفوس، ويغتر به بعض أهل البلادة، فيرددون خلفهم هذه الألفاظ، ويتابعونهم في هذا التزيين والتضليل، فيقع بسبب ذلك مطلوبهم، ومبتغاهم.
- أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب قدر ما يستر المصلي (510) (ج 1 / ص 365).
- جزء من حديث جبريل الطويل أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله (8) (ج 1 / ص 36).