الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ۝ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:112-113].
يقول تعالى: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك، ويعادونك، ويعاندونك؛ جعلنا لكل نبي من قبلك أيضاً أعداء فلا يحزنك ذلك، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ الآية [سورة الأنعام:34]، وقال تعالى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [سورة فصلت:43] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ الآية [سورة الفرقان:31]، وقال ورقة بن نوفل لرسول الله ﷺ: "إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي".
وقوله: شَيَاطِينَ الإِنسِ [سورة الأنعام:112] بدل من عَدُوًّا أي: لهم أعداء من شياطين الإنس، والجن.
والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء - قبحهم الله ولعنهم -".

بعضهم يقول: قيل له شيطان لخروجه عن نظائره، ولهذا يفسره بعضهم بقوله: إنه مأخوذ من شطنة البئر إذا بعد غورها، وقعرها، وبعضهم يقول: قيل للشيطان ذلك لبعده عن طاعة الله ، وعن الخير، وبعضهم يقول: إن الشيطان بمعنى العاتي المتمرد، فكل عاتٍ متمرد هو شيطان، ولهذا قال الشاعر:
أيام يدعونني الشيطان من غزل وكنَّ يهوينني إن كنت شيطانا
يحكي عن الغواني اللاتي أعرضن عنه حينما لاح الشيب في رأسه، فهو يذكِّر بما كان في زمن مضى أيام عتوه، وشبابه، وقوته؛ حين كنَّ هؤلاء النسوة يسمينه بالشيطان، وقوله: "من غزلٍ" يعني كنَّ يتغزلن به، ويطلقن عليه هذا.
فالشياطين ربما قيل لهم شياطين لعتوهم، وتمردهم، ولهذا قال كثير من أهل العلم كابن جرير: الشياطين يعني المردة، وهذا لا إشكال فيه، وبعضهم يقول ما ذكره الحافظ ابن كثير: "كل من خرج عن نظيره بالشر"، وهذا أيضاً لا إشكال فيه؛ فهؤلاء إنما كانوا مردة لخروجهم عن صفة نظائرهم.
وهذه الآية نص صريح في أن الإنس فيهم شياطين، والنبي ﷺ قال: الكلب الأسود شيطان[1]، وعلى كل حال فالمردة من الإنس والجن يقال لهم شياطين، وأعداء الرسل الذين ذكرهم الله هم من النوعين - من شياطين الإنس، وشياطين الجن -، ولا يختص ذلك بزمان الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وأيام حياتهم، بل يبقون ما شاء الله في كل زمان، ومكان.
"قال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [سورة الأنعام:112] قال: من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض.
وقوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] أي: يلقي بعضهم إلى بعض القول المزيَّن المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره".

يقول الحافظ - رحمه الله - في قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ "أي: يلقي بعضهم لبعض" الإيحاء أو الوحي أصح معانيه التي يفسر بها من كلام العرب هو كل ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه، ولا يختص ذلك بالإلقاء السريع الخفي - كما هو المشهور -، بل يكون بهذا وبغيره، فجبريل ﷺ جاء إلى النبي ﷺ في صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر... إلى آخر الحديث[2]، والمقصود أن لم يُلقِ الوحي بسرعة وخفاء، ولذلك يقال: لا يلزم في الوحي أن يكون بسرعة، وخفاء؛ بل يطلق على ما ألقي بسرعة، ويطلق على غيره، كما يقال في الكتابة: إنها وحي، ولهذا يقولون: وحي في حجر، ويقال للرمز والإشارة أيضاً وحي، ويطلق على غير ذلك أيضاً، والله أعلم.
فقوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ [سورة الأنعام:112] أي: يلقي بعضهم إلى بعض.
وقوله: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [سورة الأنعام:112] يعني ما تموه به الحقائق، وتضلل به الأفهام؛ سواء كان ذلك بتغيير الأسماء كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - كلاماً عن هذا في غاية الحسن، والجودة؛ حيث قال: يسمون الخمرة بغير اسمها، ويسمون الزنا بغير اسمه، ويسمون الربا بالفائدة، ويسمون الإفساد بالإصلاح، وقد قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [سورة البقرة:11] إلى غير ذلك من الأسماء المبهرجة التي يروجون بها الباطل، فيستهوي ذلك بعض النفوس، ويغتر به بعض أهل البلادة، فيرددون خلفهم هذه الألفاظ، ويتابعونهم في هذا التزيين والتضليل، فيقع بسبب ذلك مطلوبهم، ومبتغاهم.
"وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [سورة الأنعام:112] أي: وذلك كله بقدر الله، وقضائه، وإرادته، ومشيئته؛ أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء، فَذَرْهُمْ أي: فدعهم وَمَا يَفْتَرُونَ أي: يكْذِبون، أي دع أذاهم، وتوكل على الله في عداوتهم؛ فإن الله كافيك، وناصرك عليهم".
  1. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب قدر ما يستر المصلي (510) (ج 1 / ص 365).
  2. جزء من حديث جبريل الطويل أخرجه مسلم في كتاب الإيمان -  باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله  (8) (ج 1 / ص 36).

مرات الإستماع: 0

"وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا [الأنعام: 112] الآية، تسلية للنبي ﷺ بالتأسي بغيره". 

نعم هذا تسلية للنبي ﷺ وأيضًا كما يقول الشاطبي - رحمه الله - [1] والحافظ ابن القيم، وشيخ الإسلام - رحمه الله -[2]: بأن مثل هذه المواضع يكون لأمته نصيب منها، بحسب اتباعهم، فيكون لهم أعداء أيضًا من شياطين الإنس، والجن، في كل زمان، كما جعل للأنبياء - عليهم الصلاة، والسلام - وكذلك فيما يتعلق بالأمور المطلوبة، والمرغوبة، ونحو ذلك، يكون لهم منها أيضًا نصيب حسب اتباعهم، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] فالحافظ بن القيم - رحمه الله - يقول: هذا الشرح يكون لأتباعه بحسب اتباعهم وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ۝ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ۝ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 2 - 4] يقول: ويكون لهم من رفع الذكر بحسب اتباعهم للنبي ﷺ وهكذا، الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات تكلم على مثل: نصرت بالرعب[3] والأشياء التي يعطيها النبي ﷺ يقول: التي أعطيها الأنبياء أُعطي النبي ﷺ من جنسها، إما له، وإما لأحد من أتباعه[4] حتى الحرق بالنار الذي حصل لإبراهيم وقع أيضًا لبعض أتباعه، وما يُسمى بالكرامة للأولياء فهو من جملة آيات الأنبياء، فهذا حاصل، وكذلك ما أعطيه النبي ﷺ من غير النبوة: من النصر بالرعب، ونحو ذلك يكون لأتباعه بحسب اتباعهم. 

"قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] أي: المتمردين من الصنفين، ونصب (شياطين) على البدل من (عدوًا) إذ هو بمعنى الجمع، أو مفعول أول، و(عدوًا) مفعول ثان".

الشياطين يقول: "المتمردين من الصنفين" لأنه من شطن إذا بعد، أو من شاط يشيط، فكل عاتٍ، متمرد فهو شيطان، يقول: "ونصب شياطين على البدل" فهو بدل من (عدوًا) يعني لو وضعته موضع المبدل منه لقلتَ: وكذلك جعلنا لكل نبي شياطين الإنس، والجن يوحي بعضهم إلى بعض.

يقول: "إذ هو بمعنى الجمع" يعني: عدوًا، بمعنى أعداء، واسم الجنس، ولو كان مفردًا فإنه يكون بمعنى الجمع، سواء كان مضافًا، أو من غير إضافة لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ [الممتحنة: 1] يعني: أعدائي، هذا بالإضافة؛ ولهذا جمع فقال: أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ فهو بمعنى الجمع، كما في قوله: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا [النور: 31] قال: يظهروا، فَجَمَع، مع أن (الطفل) مفرد، لكنه جنس بمعنى الجمع، وهكذا.

"قوله تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [الأنعام: 112] أي: يوسوس، ويلقي الشر".

هذا بعض معاني (الوحي) بإطلاقه العام في القرآن، فالوحي يأتي بالمعنى الخاص: وهو وحي الله إلى أنبيائه، ورسله - عليهم الصلاة، والسلام - وهو الذي جاء في قوله: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا [الشورى: 51] فيدخل فيه الإلهام، والإلقاء في الروع، والرؤيا الصالحة أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى: 51] التكليم المباشر أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً [الشورى: 51] ملائكيًا إلى الرسول البشري، فيراه على صورته الحقيقية، أو بصورة رجل، أو يسمع مثل صوت الجرس، إلى غير ذلك من الأحوال، والصور التي يأتي بها.

وبالمعنى العام يأتي الوحي لمعانٍ منها: وحي الشياطين وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] وكما جاء عن ابن عمر، وابن عباس - ا - لما قيل لهما بأن الثقفي المختار يدعي أنه يوحى إليه، فقال: صدق، وذكر الآية وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام: 121][5] وابن عمر كان زوجًا لأخت المختار، والمختار كان من قادة ابن الزبير، ثم بعد قتل مصعب بن الزبير في العراق، أظهر التشيع، وصار يدعي أنه يوحى إليه، وادعى عقيدة البداء، وأن الله بدا له كذا، وكان يخبرهم عن أمور غيبية، فإذا لم تقع قال: بدا لله.

"قوله تعالى: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112] ما يزينه من القول".

ما يزينه من القول، غرورًا، يقال: غره، يعني: أصاب غرته، وهي غفلته في اليقظة، أو أوقعه في شراكه، وأوقعه فيما يريد.

"قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام: 112] الضمير عائد على وحيهم، أو على عداوة الكفار".

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام: 112] فالضمير في (فعلوه) يرجع إلى أقرب مذكور، والأقرب، وهو الذي اختاره الواحدي[6] والقرطبي[7] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي[8] وهو الوحي، والوسوسة، والمعنى: ولو شاء ربك ما حصل هذا الوحي، أو أن ذلك يعود على عداوة الكفار وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] باعتبار أن الكلام سيق لهذا أصلاً، وما بعده ذُكر للبيان يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام: 112] يعني: ما حصلت هذه العداوة للرسل - عليهم الصلاة، والسلام - وهذا ظاهر اختيار ابن جرير[9] وابن كثير[10] باعتبار أن السياق في الكلام على بيان وقوع العداوة، وأنها أمر محتم، قضاه الله وقدره، فهذا لا شك أنه أبلغ في التسلية، أن هذه العداوة، والكيد الكُبار، والمحاربة للرسل - عليهم الصلاة، والسلام - ولأتباعهم، أن ذلك أراده الله، وقضاه، ولا بد من وقوعه، ولو شاء ما فعلوه، فلا يبتئس المؤمن من عداوة الكفار، وحربهم لله، ورسوله - عليه الصلاة، والسلام - فهذا أمر لا بد من وقوعه، ولو شاء الله ما حصل.

"قوله: فَذَرْهُمْ [الأنعام: 112] وعيد وَما يَفْتَرُونَ (ما) في موضع نصب على أنها مفعول معه، أو عطف على الضمير".

فَذَرْهُمْ وذر ما يفترون، إذا كان عطف على الضمير، وقوله: فَذَرْهُمْ وعيد؛ اعتبار أن المعنى: نحن نتولى حسابهم، وعذابهم، وليس عليك إلا البلاغ، فذرهم لنا.

  1.  الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/484).
  2.  منهاج السنة النبوية (8/487).
  3.  أخرجه البخاري في كتاب التيمم برقم: (335) ومسلم في أول كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، برقم: (521).
  4.  الموافقات (2/415).
  5.  المعجم الأوسط برقم: (924) والبداية، والنهاية ط إحياء التراث (6/265).
  6. التفسير الوسيط للواحدي (2/313) والوجيز للواحدي (ص: 371).
  7.  تفسير القرطبي (7/68).
  8.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/156).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/53).
  10.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/321).