يقول تعالى لنبيه ﷺ: قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا أي: بيني وبينكم وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [سورة الأنعام:114] أي: مبيناً".
الهمزة للإنكار في قوله: أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا والحَكَم أبلغ من الحاكم - كما هو معلوم -، وأصل الحكم معروف أنه يدور على معنى المنع في كل استعمالاته، وذلك على قول كثير من أهل العلم - والله تعالى أعلم -، فالحَكَم هو الذي يمنع أحد الخصمين من التعدي على الآخر، أو من أخذ حقه، وقل ذلك كذلك في مثل موارد هذه اللفظة، فالحَكَمَة هي الحديدة التي توضع في فم الدابة لتمنعها من الانفلات، والحِكْمَة تمنع صاحبها من الشطط في القول، والرأي، والفعل - والله أعلم -.
فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ كقوله: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة يونس:94] وهذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه".
من أهل العلم من يربط بين قوله: فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة الأنعام:114] وبين ما قبله مباشرة، أعني قوله: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة الأنعام:114] يعني أنهم يعلمون ذلك فلا تشك في هذا، والاحتمال الآخر أن قوله: فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يعني لا تكن من الشاكين في حقيقة الأخبار التي أوحى الله إليك بها في هذا الكتاب، فالله أخبره في هذا القرآن عن أمور ومنها أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق، فإذا كان هؤلاء الجهلة من المشركين يكذبونه، ويقولون: إنه أساطير الأولين فإن الذين أوتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه منزل من ربه بالحق لما يعرفون من دلائل صدقه التي يجدونها في كتابهم، ولما يجدون من الموافقة، والمطابقة؛ بين هذه الحقائق التي يُبين عنها القرآن، وبين ما في كتبهم من الأخبار الغيبية، سواء كان ذلك عن أمور مضت، أو عن أمور مستقبله، أو كان ذلك مما يتعلق بصفات الله ، فهناك مطابقة كبيرة بين ما في القرآن وبين ما في التوراة، ولذلك فإن الصفات الإلهية في التوراة - إلا ما حرفوه بسبب كذبهم على الله، وافترائهم عليه - نجد أن الله وصف نفسه فيها كما جاء في القرآن وفي سنة النبي ﷺ.
وخبر الحَبر الذي جاء إلى النبي ﷺ، وذكر ما يكون في اليوم الآخر معروف، ومنه قوله: إذا وضع الله السماوات على ذه، والأرضين على ذه.. إلى آخره، فضحك النبي ﷺ[1]؛ إقراراً لما قاله الحبر.
وقوله: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ [سورة يونس:94] يقول الحافظ: "هذا شرط، والشرط لا يقتضي وقوعه" هذه قاعدة معروفة، ومن أمثلتها قوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81] على أحد المعاني التي فسرت بها هذه الآية.
- أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة الزمر (3240) (ج 5 / ص 371) وصححه الألباني.