يقول - تعالى -: واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم، وتنذرهم به: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم، ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ أي: ثم يقول: يا معشر الجن، وسياق الكلام يدل على المحذوف، ومعنى قوله: قد استكثرتم من الإنس أي: من إغوائهم، وإضلالهم كقوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [سورة يس:60-62].
وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:128] يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله - تعالى - عن ذلك بهذا.
قال الحسن: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس، وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم، فاعذروا به يوم القيامة، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم باستعانتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس، والجن وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] قال السدي: يعني الموت".
فقوله - تبارك وتعالى -: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ يشمل كل ما قاله السلف ، فاستمتاع الإنس بالجن له صور متعددة، والذي ذكره السلف إنما هو من قبيل المثال، ومن ذلك أن الإنس يتحقق لهم بعض ما يطلبون عن طريق الجن كالسحر الذي يتم عن طريق الشياطين، وكذلك ما يحصل للكهان من الأخبار الغيبية التي تأتي عن طريق استراق السمع، فيضللون بها الناس، ويلقون لهم أشياء من الأمور الغيبية التي يبحث عنها هؤلاء الناس.
ومن ذلك ما يحصل لهم من الانتفاع عن طريق تحصيل الضالة بتصرفات تقع من المشعوذين، والدجالين الذين يستعينون بالشياطين.
ومن ذلك ما يحصل لهم من أنواع من الانتفاع المحرم من خلال ما يحصل من سرقات للأموال عن طريق الجن، فيعطونها لأوليائهم، ومن ذلك ما يتوهمونه أيضاً من الحماية حيث إنهم إذا نزلوا وادياً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي، ومن ذلك ما يظنون أنهم يتداوون به.
وأما استمتاع الجن بالإنس فهذا أيضاً يقع على صور كثيرة منها: أنهم قد يذبحون لهم، ويعظمونهم، ويستعيذون بهم إلى غير ذلك مما يبذله الإنس للجن والشياطين، فيحصل لهم التذاذ بسبب ذلك، ويتعاظمون به، ويحصل لهؤلاء الجن بسبب هذا بعض الانتفاع المحرم.
وعلى كل حال فإنهم يقولون: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:128] قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس، يعني عملت بما زينه لهم الجن - هذا أحد المعاني الداخلة فيه - بمعنى أن الشياطين يضلون الناس، ويزيِّنون لهم الباطل والمنكر؛ فيعمل به من شاء الله، فيحصل للشياطين التذاذ، وفرح بإغوائهم للناس.
وقوله: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] قال: يعني الموت، مع أنهم قالوا هذا الكلام في اليوم الآخر، فيحتمل أن يكون الموت؛ لأن هذا الصراع، وهذا الالتذاذ ،وهذا الإغواء؛ كله يحصل في الحياة الدنيا، فينتهي بموت الإنسان.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] هو المشار بقوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ [سورة الأنعام:2] فالأجل الأول هو الموت، والأجل الثاني هو البعث، وهذا اختاره ابن القيم - رحمه الله - أي: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا بالموت، وبالأجل الآخر الذي وقفنا فيه بين يديك للحساب وهو أجل البعث.
وقولهم: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] يعنون أن ذلك الاستمتاع والاستلذاذ الذي وقع منهم قد انتهى، وقد يفهم من أسلوبهم هذا في الخطاب أنهم أرادوا استجلاب الرحمة كما قد يعبر عنه في كلام الناس بالاستعطاف، فهم يقولون إنما كان ذلك في وقت، ثم تصرم، وزال، وصار خبراً بعد عين، والآن قد صرنا إلى هذه الحال بعيداً عن هذا الالتذاذ الذي تصرم وانقطع فلم يبقَ له أثر، فكأنهم يقولون: هذا الكفر كان في مدة محددة، وقد مضت وانتهت، فتجاوز عنا، وهذا ما فهمه ابن القيم - رحمه الله -، والآية تحتمل هذا - والله أعلم -.
من أهل العلم من قال في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128]: إن المستثنى هنا هو مدة الحشر من القبور، والحساب، وبعضهم - ككبير المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله - يقول: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] أي: إلا مدة بقائهم في القبور إلى مصيرهم إلى جهنم، يعني ما بين الموت ودخول النار، وبعضهم يقول غير هذا، لكن هذه التأويلات لا تخلو من تكلف وبُعد؛ لأن الله يخبر عن بقائهم في النار فيقول: خَالِدِينَ فِيهَا [سورة الأنعام:128] يعني إذا دخلوها، فهم يبقون فيها أبداً بلا انقضاء كما قال الله : وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [سورة الزخرف:77] وأخبر أن عذابهم لا يفتر عنهم، وأنهم لا يموتون، ولا يخفف عنهم من عذاب النار فقال تعالى: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [سورة الزخرف:75]، وقال تعالى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36]، وقال: وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الخلود.
فقوله تعالى: إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] أظهر الوجوه في تفسيره - والله تعالى أعلم - أن هذا التعليق على المشيئة إنما هو من قبيل التعليق على المشيئة في الأمر المتحقق دون أن يراد به مطلق التعليق، يعني هذا الاستثناء إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] على وجه التحقيق لا على وجه التعليق، ومعنى على وجه التحقيق يعني في الأمر الذي يكون قطعاً لكن تذكر المشيئة؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله كقوله - تبارك وتعالى -: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ [سورة الفتح:27] فهم داخلوه قطعاً، ومع ذلك علقه على المشيئة.
والله لما ذكر خلودهم في النار في سورة هود قال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107]، ولما ذكر خلود أهل الجنة قال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108] فهذه الآية مثل هاتين الآيتين حيث ذكر فيهما الاستثناء في حق أهل الجنة، وحق أهل النار مما يبيّن ويوضح أن الاستثناء هنا ليس المراد به - بحال من الأحوال - أن أهل النار يخرجون منها في وقت من الأوقات كما قد يفهمه من شذَّ في فهم مثل هذه النصوص.
وقد جاءت روايات أن النار تفنى، وأنه ينبت على شفيرها، أو على نواحيها، أو جوانبها، أو فيها؛ ينبت الجرجير وما أشبه ذلك، وهذه الروايات كلها لا تصح بحال من الأحوال، لذلك يقال: هذا الاستثناء كالاستثناء في نعيم أهل الجنة الذي لا ينقطع، وكالاستثناء في قوله - تعالى -: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ [سورة الفتح:27]، ثم إن الأدلة كلها تدل على أن أهل النار لا يخرجون منها بحال من الأحوال، ولذلك يقال - والله تعالى أعلم -: إن الاستثناء هنا إنما هو من باب التحقيق، أي علق ذلك على مشيئة الله ؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته، وليس المراد التعليق المطلق الذي قد يفهم منه أنهم قد يخرجون، وأن عذاب أهل النار يفنى، وينقطع.
وأما التأويلات التي ذكرها بعض أهل العلم في الاستثناء أنه مدة الحساب، أو من الموت إلى دخولهم النار؛ هذه تأويلات بعيدة؛ لأن قوله: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] هو كلام عن بقائهم في النار فإذا قلنا: إن المقصود بالاستثناء أي من الموت إلى كذا، أو أنه البقاء في القبور؛ فإنهم ما دخلوا النار بعد فكيف يكون ذلك مستثنى من خلودهم فيها؟ هذا لا يصح أن يقال - والله تعالى أعلم -.
يقول الله - تعالى -: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] في هذه الآية دليل على أن الكفار من الجن يدخلون النار، ويعذبون فيها كالكفار من الإنس قال - تعالى -: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] يعني الكفار من الجن، والإنس، وأما دخول المؤمنين من الجن إلى الجنة فالذي عليه الجماهير من السلف، والخلف؛ أن المحسن منهم والمؤمن يدخل الجنة أيضاً.
ومن أهل العلم من قال: إن الجن لا يدخلون الجنة، وإنما يكون جزاؤهم النجاة من العذاب، واستدلوا بقوله - تبارك وتعالى -: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف:31] أي أنه لم يذكر دخولهم الجنة؛ لكن ليس بلازم أن يذكر في المقام الواحد جميع ما يترتب على الإيمان، والعمل الصالح، بل اكتفى بذكر بعض الأمور المترتبة على إيمانهم، ولهذا فإننا نقول: إن الجن المؤمنين يدخلون الجنة كالإنس، فهم مكلّفون، ومتعبدون بالشرائع، وبعد مبعث النبي ﷺ كل الجن متوجه إليهم خطاب الشارع الذي يخاطب به الإنس في الجملة، وهم متعبدون بالقرآن تلاوة، وعملاً، وتحاكماً وما أشبه ذلك، فهم تبع للإنس في مثل هذه الأمور، وحتى في السنة، وما يتعلق بها، فأهل السنة منهم يعملون، ويشرحون القرآن، ويفهمونه بما ورد عن رسول الله ﷺ من السنة الشارحة المبينة له، وهذه الكتب مثل: الكتب الستة، والكتب المعتمدة عند المسلمين، هي معروفة لديهم، ويقرؤون بها، ويحفظون منها كالإنس، فهم تبع للإنس في مثل هذه القضايا، وإن كانت توجد فروقات في الخلق، وفي بعض التفصيلات أو الجزئيات وما أشبه ذلك، لكن يبقى أنهم متعبدون مكلفون كالإنس، وفيهم الطوائف من الرافضة، والزيدية، والمعتزلة، والخوراج وغيرهم من أهل الأهواء قديماً وحديثاً كالإنس، وفيهم المتلبس بالشهوات، وفيهم الطيب، والرديء، والصالح، والفاسد.