الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مِّنَ ٱلْإِنسِ ۖ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلْإِنسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِىٓ أَجَّلْتَ لَنَا ۚ قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَىٰكُمْ خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۗ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

قال المفسر - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ [سورة الأنعام:128].
يقول - تعالى -: واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم، وتنذرهم به: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم، ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً.
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ أي: ثم يقول: يا معشر الجن، وسياق الكلام يدل على المحذوف، ومعنى قوله: قد استكثرتم من الإنس أي: من إغوائهم، وإضلالهم كقوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ۝ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ۝ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [سورة يس:60-62].
وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:128] يعني أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله - تعالى - عن ذلك بهذا.
قال الحسن: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس، وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم، فاعذروا به يوم القيامة، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم باستعانتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس، والجن وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] قال السدي: يعني الموت".

فقوله - تبارك وتعالى -: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ يشمل كل ما قاله السلف ، فاستمتاع الإنس بالجن له صور متعددة، والذي ذكره السلف إنما هو من قبيل المثال، ومن ذلك أن الإنس يتحقق لهم بعض ما يطلبون عن طريق الجن كالسحر الذي يتم عن طريق الشياطين، وكذلك ما يحصل للكهان من الأخبار الغيبية التي تأتي عن طريق استراق السمع، فيضللون بها الناس، ويلقون لهم أشياء من الأمور الغيبية التي يبحث عنها هؤلاء الناس.
ومن ذلك ما يحصل لهم من الانتفاع عن طريق تحصيل الضالة بتصرفات تقع من المشعوذين، والدجالين الذين يستعينون بالشياطين.
ومن ذلك ما يحصل لهم من أنواع من الانتفاع المحرم من خلال ما يحصل من سرقات للأموال عن طريق الجن، فيعطونها لأوليائهم، ومن ذلك ما يتوهمونه أيضاً من الحماية حيث إنهم إذا نزلوا وادياً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي، ومن ذلك ما يظنون أنهم يتداوون به.
وأما استمتاع الجن بالإنس فهذا أيضاً يقع على صور كثيرة منها: أنهم قد يذبحون لهم، ويعظمونهم، ويستعيذون بهم إلى غير ذلك مما يبذله الإنس للجن والشياطين، فيحصل لهم التذاذ بسبب ذلك، ويتعاظمون به، ويحصل لهؤلاء الجن بسبب هذا بعض الانتفاع المحرم.
وعلى كل حال فإنهم يقولون: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ [سورة الأنعام:128] قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعملت الإنس، يعني عملت بما زينه لهم الجن - هذا أحد المعاني الداخلة فيه - بمعنى أن الشياطين يضلون الناس، ويزيِّنون لهم الباطل والمنكر؛ فيعمل به من شاء الله، فيحصل للشياطين التذاذ، وفرح بإغوائهم للناس.
وقوله: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] قال: يعني الموت، مع أنهم قالوا هذا الكلام في اليوم الآخر، فيحتمل أن يكون الموت؛ لأن هذا الصراع، وهذا الالتذاذ ،وهذا الإغواء؛ كله يحصل في الحياة الدنيا، فينتهي بموت الإنسان.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] هو المشار بقوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ [سورة الأنعام:2] فالأجل الأول هو الموت، والأجل الثاني هو البعث، وهذا اختاره ابن القيم - رحمه الله - أي: وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا بالموت، وبالأجل الآخر الذي وقفنا فيه بين يديك للحساب وهو أجل البعث.
وقولهم: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] يعنون أن ذلك الاستمتاع والاستلذاذ الذي وقع منهم قد انتهى، وقد يفهم من أسلوبهم هذا في الخطاب أنهم أرادوا استجلاب الرحمة كما قد يعبر عنه في كلام الناس بالاستعطاف، فهم يقولون إنما كان ذلك في وقت، ثم تصرم، وزال، وصار خبراً بعد عين، والآن قد صرنا إلى هذه الحال بعيداً عن هذا الالتذاذ الذي تصرم وانقطع فلم يبقَ له أثر، فكأنهم يقولون: هذا الكفر كان في مدة محددة، وقد مضت وانتهت، فتجاوز عنا، وهذا ما فهمه ابن القيم - رحمه الله -، والآية تحتمل هذا - والله أعلم -.
"قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ [سورة الأنعام:128] أي: مأواكم، ومنزلكم أنتم، وإياهم، وأولياؤكم خَالِدِينَ فِيهَا [سورة الأنعام:128] أي: ماكثين فيها مكثاً مخلداً إلا ما شاء الله".

من أهل العلم من قال في قوله: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128]: إن المستثنى هنا هو مدة الحشر من القبور، والحساب، وبعضهم - ككبير المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله - يقول: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] أي: إلا مدة بقائهم في القبور إلى مصيرهم إلى جهنم، يعني ما بين الموت ودخول النار، وبعضهم يقول غير هذا، لكن هذه التأويلات لا تخلو من تكلف وبُعد؛ لأن الله يخبر عن بقائهم في النار فيقول: خَالِدِينَ فِيهَا [سورة الأنعام:128] يعني إذا دخلوها، فهم يبقون فيها أبداً بلا انقضاء كما قال الله : وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [سورة الزخرف:77] وأخبر أن عذابهم لا يفتر عنهم، وأنهم لا يموتون، ولا يخفف عنهم من عذاب النار فقال تعالى: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [سورة الزخرف:75]، وقال تعالى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36]، وقال: وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الخلود.
فقوله تعالى: إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] أظهر الوجوه في تفسيره - والله تعالى أعلم - أن هذا التعليق على المشيئة إنما هو من قبيل التعليق على المشيئة في الأمر المتحقق دون أن يراد به مطلق التعليق، يعني هذا الاستثناء إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] على وجه التحقيق لا على وجه التعليق، ومعنى على وجه التحقيق يعني في الأمر الذي يكون قطعاً لكن تذكر المشيئة؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله كقوله - تبارك وتعالى -: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ [سورة الفتح:27] فهم داخلوه قطعاً، ومع ذلك علقه على المشيئة.
والله لما ذكر خلودهم في النار في سورة هود قال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [سورة هود:107]، ولما ذكر خلود أهل الجنة قال: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود:108] فهذه الآية مثل هاتين الآيتين حيث ذكر فيهما الاستثناء في حق أهل الجنة، وحق أهل النار مما يبيّن ويوضح أن الاستثناء هنا ليس المراد به - بحال من الأحوال - أن أهل النار يخرجون منها في وقت من الأوقات كما قد يفهمه من شذَّ في فهم مثل هذه النصوص.
وقد جاءت روايات أن النار تفنى، وأنه ينبت على شفيرها، أو على نواحيها، أو جوانبها، أو فيها؛ ينبت الجرجير وما أشبه ذلك، وهذه الروايات كلها لا تصح بحال من الأحوال، لذلك يقال: هذا الاستثناء كالاستثناء في نعيم أهل الجنة الذي لا ينقطع، وكالاستثناء في قوله - تعالى -: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ [سورة الفتح:27]، ثم إن الأدلة كلها تدل على أن أهل النار لا يخرجون منها بحال من الأحوال، ولذلك يقال - والله تعالى أعلم -: إن الاستثناء هنا إنما هو من باب التحقيق، أي علق ذلك على مشيئة الله ؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته، وليس المراد التعليق المطلق الذي قد يفهم منه أنهم قد يخرجون، وأن عذاب أهل النار يفنى، وينقطع.
وأما التأويلات التي ذكرها بعض أهل العلم في الاستثناء أنه مدة الحساب، أو من الموت إلى دخولهم النار؛ هذه تأويلات بعيدة؛ لأن قوله: خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] هو كلام عن بقائهم في النار فإذا قلنا: إن المقصود بالاستثناء أي من الموت إلى كذا، أو أنه البقاء في القبور؛ فإنهم ما دخلوا النار بعد فكيف يكون ذلك مستثنى من خلودهم فيها؟ هذا لا يصح أن يقال - والله تعالى أعلم -.

يقول الله - تعالى -: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] في هذه الآية دليل على أن الكفار من الجن يدخلون النار، ويعذبون فيها كالكفار من الإنس قال - تعالى -: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [سورة الأنعام:128] يعني الكفار من الجن، والإنس، وأما دخول المؤمنين من الجن إلى الجنة فالذي عليه الجماهير من السلف، والخلف؛ أن المحسن منهم والمؤمن يدخل الجنة أيضاً.
ومن أهل العلم من قال: إن الجن لا يدخلون الجنة، وإنما يكون جزاؤهم النجاة من العذاب، واستدلوا بقوله - تبارك وتعالى -: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف:31] أي أنه لم يذكر دخولهم الجنة؛ لكن ليس بلازم أن يذكر في المقام الواحد جميع ما يترتب على الإيمان، والعمل الصالح، بل اكتفى بذكر بعض الأمور المترتبة على إيمانهم، ولهذا فإننا نقول: إن الجن المؤمنين يدخلون الجنة كالإنس، فهم مكلّفون، ومتعبدون بالشرائع، وبعد مبعث النبي ﷺ كل الجن متوجه إليهم خطاب الشارع الذي يخاطب به الإنس في الجملة، وهم متعبدون بالقرآن تلاوة، وعملاً، وتحاكماً وما أشبه ذلك، فهم تبع للإنس في مثل هذه الأمور، وحتى في السنة، وما يتعلق بها، فأهل السنة منهم يعملون، ويشرحون القرآن، ويفهمونه بما ورد عن رسول الله ﷺ من السنة الشارحة المبينة له، وهذه الكتب مثل: الكتب الستة، والكتب المعتمدة عند المسلمين، هي معروفة لديهم، ويقرؤون بها، ويحفظون منها كالإنس، فهم تبع للإنس في مثل هذه القضايا، وإن كانت توجد فروقات في الخلق، وفي بعض التفصيلات أو الجزئيات وما أشبه ذلك، لكن يبقى أنهم متعبدون مكلفون كالإنس، وفيهم الطوائف من الرافضة، والزيدية، والمعتزلة، والخوراج وغيرهم من أهل الأهواء قديماً وحديثاً كالإنس، وفيهم المتلبس بالشهوات، وفيهم الطيب، والرديء، والصالح، والفاسد.

مرات الإستماع: 0

"وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ [الأنعام: 128] العامل في (يوم) محذوف، تقديره: اذكر، وتقديره: قلنا، ويكون على هذا عاملاً في (يوم) وفي يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ [الأنعام: 128]".

يقول: "العامل في يوم محذوف، تقديره: واذكر" وهذا ذكرنا نظائره مرارًا، واذكر يومًا، واذكروا يوم نحشرهم.

يقول: "أو تقديره: قلنا، ويكون على هذا عاملاً في يوم يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [الأنعام: 128] يعني يكون، ويوم نحشرهم جميعًا قلنا: يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، أو يكون: وقلنا يوم نحشرهم: يا معشر الجن، والإنس، على كل قول هناك مقدر محذوف، والمشهور أنه: اذكر - والله أعلم -.

"قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي: أضللتم منهم كثيرًا، وجعلتموهم أتباعكم، كما تقول: استكثر الأمير من الجيش".

المعشر كل جماعة أمرهم واحد، وأصل هذه المادة يدل على مداخلة، ومخالطة، والعشيرة يقال لها: عشيرة لأنها قرابة أدنون، يعني خلطتهم كثيرة، ومعاشرتهم، وتداخلهم كثير، وكذلك أيضًا يقال للزوج: عشير، لكثرة المعاشرة بين الزوجين.

يقول: قد استكثرتم من الإنس أي أضللتم منهم كثيرًا، واستكثرتم من إضلالهم.

"اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ [الأنعام: 128] استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم، واستمتاع الإنس بالجن كقوله: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] فإن الرجل كان إذا نزل واديًا قال: أعوذ بصاحب هذا الوادي، يعني كبير الجن".

هذا الاستمتاع استمتاع الجن بالإنس، قال: "طاعتهم لهم" وكذلك عبادتهم، وتعظيمهم، والاستعاذة بهم، والذبح لهم، فكل ذلك من استمتاع الجن بالإنس.

واستمتاع الإنس بالجن ما يتحقق على أيديهم من أمور يطلبها الإنس من الجن، مثل أعمال السحر، وكذلك تسخير هؤلاء الجن في تحقيق بعض مطالب الإنس، وما إلى ذلك، فهذا من الاستمتاع، ويدخل فيه كل نوع من أنواع الانتفاع، ولو كان محرمًا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام: 128] فهؤلاء يعظمونهم، ويذبحون لهم، ويستعيذون بهم، فيتعاظم الجن بهذا، ويقولون: ملكنا الجن، والإنس؛ لما يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيتعاظمون، وكما قال الله : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6] يعني: رأوا أن الإنس يخافون منهم، ويستعيذون بهم، فازدادوا تسلطًا عليهم، وهؤلاء من الإنس يحصل لهم مع ذلك منافع بهذه القرابين التي يتقربون بها، وعبادة الجن، وتتحقق بعض مطالبهم، وربما سرقوا له المتاع، وجاءوا له بالمال المسروق، أو ربما حملوه من مكان إلى آخر، وأجروا على يده بعض الخوارق التي هي من جنس السحر، أو الشعبذة، أو نحو ذلك.

"وَبَلَغْنا أَجَلَنَا [الأنعام: 128] هو الموت، وقيل: الحشر".

القول بأنه الموت اختاره ابن جرير[1] والقرطبي[2] وبه قال السدي[3] ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[4].

وبعضهم يقول: هو الحشر، وهذا الذي اختاره الواحدي[5] ومن المعاصرين الطاهر بن عاشور[6] والسعدي[7] وكل ذلك من الأجل الذي أجله الله  لهم، فيصدق على الموت فهو أجل، وكذلك البعث، والنشور، والحشر أيضًا، فكل ذلك من الأجل؛ ولهذا قال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [الأنعام: 128] فذكر الحشر، ثم ذكر هذا الخطاب لهم، وما أجابوا به، قالوا: ربنا استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، فهو هذا الحشر الذي صاروا إليه، فيمكن حمل الآية على المعنيين، بلغنا أجلنا بالموت، والحشر، وإذا أردنا أن نرجح أحد المعنيين فكأن الحشر أقرب للقرينة في الآية - والله أعلم -.

"إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأنعام: 128] قيل: الاستثناء من الكاف، والميم في مَثْوَاكُمْ (فما) بمعنى (من) لأنها، وقعت على صنف من الجن، والإنس، والمستثنى على هذا من آمن منهم، وقيل: الاستثناء من مدّة الخلود، وهو الزمان الذي بين حشرهم إلى دخول النار، وقيل: الاستثناء من النار، وهو دخولهم الزمهرير، وقيل: ليس المراد هنا بالاستثناء الإخراج، وإنما هو على وجه الأدب مع الله، وإسناد الأمور إليه".

هذه الأقوال التي ذكرها هي بناء على إشكال في قوله - تبارك، وتعالى -: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأنعام: 128] هل يفهم من هذا أنهم يخرجون من النار، وهم كفار ؟ والكفار دلت الأدلة على أنه مخلدون فيها، فلا يخرجون منها، فما وجه هذا الاستثناء؟

فاختلفت فيه عبارات أهل العلم، فبعضهم جعله من الكاف من الضمير مَثْوَاكُمْ ولم يجعله من الخلود، فيكون مستثنى من بعضهم، وهم من آمن منهم، فلا يكون مخلدًا في النار، ومن جعل ذلك يرجع إلى الخلود خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ قال بأن ذلك إما باعتبار الانتقال بأحوال من العذاب، كالزمهرير، والواقع أن الزمهرير في النار، وهم خالدون فيها، فمثل هذا لا يخلو من ضعف ظاهر - والله أعلم -.

أو باعتبار أن التعليق هنا هو من باب قوله - تبارك، وتعالى -: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ [الفتح: 27] وقول النبي ﷺ في زيارة المقابر: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون[8] وهو يعلم أنه لاحق بهم قطعًا، والله علم أن النبي ﷺ وأصحابه داخلون المسجد الحرام قطعًا، لا محالة، وقد تحقق هذا، فقال: إن شاء الله، فيكون ذلك من باب التحقيق لا التعليق، يعني أنه لا يكون الشيء إلا بمشيئته، فيكون ذلك من باب التأدب في العبارة، هذا حاصل ما ذكره من الأقوال، سوى القول الثاني: وهو أن الاستثناء من مدة الخلود، وهو الزمان الذي بين حشرهم إلى دخول النار، يعني هو يذكر لهم ذلك في مقام الحشر، يعني إلا هذه المدة التي تسبق دخولهم النار، وهم في محشرهم، ولكن هذا أيضًا لا يخلو من بعد.

وابن جرير - رحمه الله - حمله على مدة اللبث في القبور[9] يعني إلا مدة البرزخ، فإذا حمل ذلك على المعنى الذي سبق من كون ذلك للتحقيق لا للتعليق، فكأن ذلك لا يحتاج إلى شيء من التكلف في المعنى؛ ولأن بقاءهم في القبور، أو في المحشر هو ليس من جملة عذابهم في النار، يعني إذا دخلوها هم في القبور يأتيهم من فيحها، وسمومها، وحرها، ونحو ذلك، لكن دخول النار هذا يكون بعد الحشر، والنشر، فيكون الاستثناء بمكثهم هذا في النار، فهم ماكثون فيها أبدًا، وهو الخلود، فيكون الاستثناء للتحقيق، وليس للتعليق - والله أعلم - وهذا كما في قوله - تبارك، وتعالى -: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود: 106 - 107] وهكذا في أهل الجنة أيضًا: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] فذكر هؤلاء، وهؤلاء، وحكم لهم بالخلود، وذكر الاستثناء، والشنقيطي[10] - رحمه الله - تكلم على هذه الآية، أعني قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ بكلام طويل مفصل في مجالسه في التفسير، وذكر الأقوال فيها، ورد قول من زعم أن ذلك يدل على الخروج من النار، وذكر في بعض الروايات الساقطة، ولا يصح في هذا شيء من الروايات التي يذكرونها مما يدل على فناء النار، وأهلها الذين هم أهلها - أعاذنا الله إياكم من ذلك - لا يخرجون منها أبدًا.

  1.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/117).
  2.  تفسير القرطبي (7/84).
  3.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/117).
  4. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/244).
  5.  الوجيز للواحدي (ص: 375).
  6.  التحرير، والتنوير (8 - أ/70).
  7.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 273).
  8.  أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة، والتحجيل في الوضوء برقم: (249).
  9.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/118).
  10. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/246).