القول الأول في تفسير قوله: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [سورة الأنعام:129] هو رواية معمر عن قتادة: "يولِّى الله بعض الظالمين بعضاً في النار يعني يتبع بعضهم بعضاً، أي يلي بعضهم بعضاً في الدخول إلى النار، فكلما جاءت دفعة فدخلت النار جاءت الثانية بعدها، والثالثة، والرابعة، وهكذا يدخلون النار دخولاً متتابعاً كما قال - تعالى -: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ [سورة الأعراف:38] وهذا - والله تعالى أعلم - خلاف الظاهر المتبادر من الكلام.
والقول الثاني - وهو الأقرب - هو رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، يعني نسلط بعضهم على بعض جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26] أي: أن الله يعاقبهم في الدنيا بأن يأتي للظالم من هو أظلم منه، فيتسلط عليه.
وما من يد إلا يد الله فوقها | ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم |
ابن الزبير حينما كان في أيام إمارته بلغه خبر عمرو بن سعيد بن العاص الذي يلقب بالأشدق، وقد كان معروفاً بأنه ظالم جبار، حيث كان يرسل الجيوش من المدينة إلى مكة لقتال ابن الزبير، حتى ذكر له بعض الصحابة حديث حرمة مكة فقال: نحن أعلم بهذا منك، وكان عبد الملك بن مروان قد وعد عمرو هذا بالخلافة من بعده، لكن عبد الملك بن مروان لما تمكن جعل الأمر لأربعة من أبنائه، فلما خرج عبد الملك من دمشق يريد قتال مصعب بن الزبير وضع الأشدق يده على دمشق، وحصنها، ووضع الرجال على القلاع، وعلى الأسوار، وأغلق الأبواب؛ فعلم عبد الملك بذلك فرجع، وحاصر دمشق، ثم انتهوا إلى صلح، واتفاق وهو أن يكتب عبد الملك لعمرو بن سعيد بن العاص كتاباً أنه هو الخليفة من بعده، وأن لا يُمَس بسوء، وأن لا يتعرض له، فدخل عبد الملك دمشق وبينما هو جالس بين بني مروان بعث للأشدق أن يأتي إليه، فقال له بعض أصحابه: لا تذهب إليه، قال: وماذا عسى أن يصنع؟ - قالها؛ لأنه جبار لا يبالي! - فلبس درعاً تحت ثيابه، وذهب مع خادمه، ودخل عليه؛ فلما رأى بني مروان قد اجتمعوا كأنه توجس الغدر، فقال لخادمه: اذهب إلى أخي وقل له يحضر، قال له: هاه، ما سمع الخادم، قال: قطع الله لسانك، ثم تقدم وقال له: مرحباً، فقال له عبد الملك: تعال فأجلسه عنده، ثم قال: إني قد نذرت نذراً أني إن تمكنت منك أن أضعك في كيس، وأن أقبض مجامعه بيدي، قال له: اتق الله؛ لقد أعطيتني عهداً، فقال من حضر من بني مروان نحن شهود على ذلك، لكن هذا نذر أمير المؤمنين، ماذا عليك أن يفي بنذره، فأخرج عبد الملك الكيس من تحت سريره، وبسطه، فأدخله فيه، فلما شده تلَّه تلَّةً فضربت ثنيته بالسرير فانكسرت، وتدمى فعرف عبد الملك أنه لن ينسى له هذه فقال له وهو في الكيس: اتق الله يا أمير المؤمنين لا يحملنك زهوق عضو مني على إزهاق نفسي، ثم أُذِّن للصلاة فبدأ الناس يطرقون الباب، وعهد عبد الملك بن مروان لأخيه عبد العزيز بن مروان - والد عمر بن عبد العزيز - وهو أخوه لأبيه عهد به إليه ليقتله ويخرج هو إلى الصلاة، فقال له الأشدق: دع قتلي بيد غيرك - لما بينه وبينه من الرحب -؛ فتركه، فدخل عبد الملك بن مروان ووجده لم يُقتل، فعيَّر عبد العزيز بأمه، وأخذ الرمح، وضرب بها الأشدق، فما نفذت فيه، فقال: ودارعٌ أيضاً، فأخذه، وذبحه ذبحاً، ثم قال: ما رأيت طالب دنيا، ولا طالب آخرة؛ مثل هذا، يعني ما رأيت أحداً من طلاب الدنيا، ولا من طلاب الآخرة مثل هذا؛ في بأسه، وشدته.
المهم أن ابن الزبير بلغه الخبر وهو في مكة، فقال على المنبر يلمز عبد الملك بن مروان: إن فلاناً قد قتل فم الذئاب - يعني الأشدق -، وقرأ قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:129] أي أنه استشهد بهذه الآية على تسليط الظالم على الظالم.
والآية تحتمل معنى ثالث وهو أن ذلك من الولاية بمعنى أن قوله: نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا أي: يكونون أولياء بعض كما قال الله عن المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة التوبة:71]، وقال عن المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ [سورة التوبة:67] وقال عن الكافرين من اليهود، والنصارى: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [سورة المائدة:51] فالله - تبارك وتعالى - قال قبل هذه الآية: وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا [سورة الأنعام:128] ثم قال: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا [سورة الأنعام:129] أي: يكونون أولياء لبعض يتناصرون على باطلهم وما أشبه ذلك، وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - بقرينة الآية التي قبلها وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ ولكن السياق قد يشعر بغير هذا - والله تعالى أعلم -، وذلك أن الله قال: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:128-129] فالباء للسببية، والتعليل في قوله: بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فكأن ذلك من باب أن الله يسلط بعضهم على بعضهم بكسبهم السيئ، وعلمهم السيئ، وعلى قول ابن جرير يعني بأعمالهم السيئة صار بينهم مجانسة، وصار بعضهم ولي لبعض، لكن التعليل قد يكون أدل على المعنى الذي قبله وهو تسليط بعض الظالمين على بعض، والله أعلم.