الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَٰتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا۟ شَهِدْنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَشَهِدُوا۟ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا۟ كَٰفِرِينَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [سورة الأنعام:130]، وهذا أيضاً مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة؛ حيث يسألهم - وهو أعلم -: هل بلغتهم الرسل رسالاته؟ وهذا استفهام تقرير".


قد يكون الكلام فيه مقدر محذوف يعلم من السياق فذلك جائز كما قال ابن مالك:

وحذف ما يعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما

يعني يكون الكلام في قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [سورة الأنعام:130] أي: يوم نحشرهم نقول لهم: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [سورة الأنعام:130].
ويحتمل أن يكون هذا شروع في حكاية ما سيكون في المحشر أي أنه انتهى من القضية الأولى التي في قوله: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [سورة الأنعام:129] ثم شرع في ذكر ما يحصل في المحشر من سؤالهم سؤال تبكيت ليقروا على أنفسهم بالظلم، والتمرد، والعتو على الله .

"يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [سورة الأنعام:130] أي من جملتكم، والرسل من الإنس فقط؛ وليس من الجن رسل".


يقول تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ [سورة الأنعام:130] يعني من مجموعكم الصادق على الإنس أي يكون ذلك في بعضهم من الإنس، وأما الجن فليس منهم رسل، بل منهم نُذُر كما قال - تعالى -: وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ [سورة الأحقاف:29].
وبعض أهل العلم يقول: رُسُلٌ مِّنكُمْ أي: ممن هو مجانس لكم في الأمور المشتركة كالخلق، والتكليف، وتوجه الخطاب إليهم، فالجن مكلفون بهذا الخطاب، ومتعبدون لله بالشرائع، فقوله: يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يعني من جملة أهل التكليف ممن يتوجه إليهم الخطاب.
وربما يكون هذا من باب التغليب يعني غُلِّب الإنس على الجن كما يُغلَّب الرجال على النساء في الذكر.
وبعضهم يقول: إن المراد بالرسل في قوله: رُسُلٌ مِّنكُمْ يعني رسل من الإنس، ورسل من الجن، فالرسل من الإنس هم الذين يوحي الله إليهم، ويشرفهم بالنبوة، ويرسلهم إلى قومهم، والرسل من الجن هم النذر الذين يسمعون الحق كما سمعوه من النبي ﷺ، ثم يذهبون إلى قومهم فينذرونهم، فيصدق عليه بهذا الاعتبار أنهم رسل لكن ليس الله هو الذي أرسلهم وإنما جاؤوا إلى قومهم يدعونهم، ويحثونهم على الإيمان الذي عرفوه من رسل الله - والله تعالى أعلم -.

"والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل؛ كما قد نص على ذلك مجاهد، وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف، والخلف.
والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [سورة النساء:163] إلى قوله: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165]".


أول الرسل نوح - عليه الصلاة والسلام -، وجميع الذين أرسلهم الله - تعالى - بعده - عليهم الصلاة والسلام - ليس فيهم أحد من الجن.

"وقوله - تعالى - عن إبراهيم : وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [سورة العنكبوت:27] فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل، ثم انقطعت عنهم ببعثته.
وقال تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [سورة الفرقان:20] وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى [سورة يوسف:109].
ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب، ولهذا قال - تعالى - إخباراً عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ۝ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ۝ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ۝ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سورة الأحقاف:29-32].
وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أن رسول الله ﷺ تلا عليهم سورة الرحمن، وفيها قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ۝ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:31-32]، وقال - تعالى - في هذه الآية الكريمة: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا [سورة الأنعام:130] أي: أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك، وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة.
وقال - تعالى -: وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [سورة الأنعام:130] أي: وقد فرطوا في حياتهم الدنيا، وهلكوا بتكذيبهم الرسل، ومخالفتهم للمعجزات؛ لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا، وزينتها، وشهواتها.
وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أي: يوم القيامة أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [سورة الأنعام:130] أي: في الدنيا بما جاءتهم به الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -".

مرات الإستماع: 0

"ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ [الأنعام: 130] تقرير للجن، والإنس، فقيل: إن الجن بُعث فيهم رسل منهم لظاهر الآية، وقيل: إنما الرسل من الإنس خاصة، وإنما قال: رُسُلٌ مِنْكُمْ لأنه جمع الثقلين في الخطاب".

أي: من جملتكم كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -[1] وبعضهم يقول: يعني ممن هو مجانس لكم في الخلق، والتكليف، يعني أنه مخلوق، ومكلف، أو أنه يعني مجانس لكم من جنسكم في خلقه من الإنس مثلاً، أو أنه من باب التغليب رُسُلٌ مِنْكُمْ قصد الإنس، فغلبهم لكونهم أشرف مثلاً من الجن.

وبعضهم يقول: إن الرسل إلى الجن المراد بهم النذر، لكن المعنى: رسل من مجموعكم، ودلت الأدلة على أنهم من الإنس، ولا يوجد رسول من الجن، ولا يوجد أيضًا رسول، ولا نبي من النساء.

"وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الأنعام: 130] لا تنافي بينه، وبين قولهم: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] لما تقدّم هناك، فإن قيل: لم كرّر شهادتهم على أنفسهم؟ فالجواب أن قولهم: إذ شهدنا على أنفسنا قول قالوه هم، وقوله: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ذم لهم، وتقبيح لحالهم". 

هو هذا يعني هذا التكرار ليس بتكرار محض، وإنما كل موضع له معنى، ومحمل.

فقوله: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ يقول: "لا ينافي قوله: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ" وذلك أنهم في موطن ينكرون، ويقولون: مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم بعد ذلك حينما يختم على أفواههم، وتتكلم جوارحهم، فعند ذلك يعترفون، وينطقون، ولا يستطيعون أن يكتموا الله شيئًا وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] فهذا محمله - والله تعالى أعلم -.

وتكرار الشهادة هو على ما ذَكَر، فهم قالوا: شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام: 130] بعد ما نطقت جوارحهم، وهذه شهادتهم هم، وأما قوله - تبارك، وتعالى -: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ فهذا خبره عنهم على سبيل الذم.

  1. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/340).