يقول - تعالى -: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ أي: إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لئلا يؤاخذ أحدٌ بظلمه وهو لم تبلغه دعوة".
اسم الإشارة ذَلِكَ في قوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى يقول ابن كثير: "أي إنما أعذرنا بإرسال الرسل للناس إلى الثقلين، وإنزال الكتب؛ لئلا يؤاخذ أحد بظلمه" أي أن اسم الإشارة يعود إلى الإعذار بإرسال الرسل.
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: ذَلِكَ يرجع إلى شهادتهم على أنفسهم، يقول: قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ذَلِكَ [سورة الأنعام:130] أي: شهادة هؤلاء على أنفسهم أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [سورة الأنعام:131] يعني هؤلاء أقروا على أنفسهم، واعترفوا، والاعتراف هو سيد الأدلة، فالله لم يكن ليهلك المكذبين، والظالمين؛ بظلم وأهلها غافلون.
قال الحافظ ابن كثير: "لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه الدعوة" هذا تفسير لقوله: بِظُلْمٍ في قوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:131] أي بظلم منه لهم بأن يأخذهم، ويعذبهم، ولم يبعث إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً؛ فيكون ظالماً لهم بتعذيبهم، إنما يكون الإعذار بالإنذار، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان ما يجب عليهم، فإذا تركوا ذلك كانوا مستحقين للعقوبة، فيكون على هذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله -: لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [سورة الأنعام:131] يعني بظلم منه، فيكون ظالماً لهم.
وهناك احتمال آخر وهو أن قوله: بِظُلْمٍ يعني بظلم منهم، أي: أن الله لم يكن ليأخذهم بظلم صادر منهم وهو الشرك كما قال - تعالى -: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13] حتى يبعث فيهم رسولاً، وبعبارة أخرى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم صادر منهم وأهلها غافلون لم تأتهم الرسل، ومن هنا يتبين الفرق بين المعنيين، فعلى المعنى الأول الظلم المنفي صادر من الله أي لا يعذبهم وهو ظالم لهم حيث لم يرسل لهم رسولاً.
والمعنى الثاني أن الله لم يكن ليعذبهم بظلمهم الذي هو بمعنى الإشراك، والكفر؛ وهم غافلون لم يأتهم رسل يبينون لهم ما هم عليه من الباطل، بل إنه يبعث إليهم الرسل، ويحصل لهم التذكير والتنبيه أولاً.
والمعنى الأول لعله هو المتبادر - وهو الأقرب - وهو الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله تعالى -، وهو الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، واحتج عليه ببعض الآيات كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وقوله - تعالى -: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165] - والله أعلم -.