الخميس 03 / ذو القعدة / 1446 - 01 / مايو 2025
ذَٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَٰفِلُونَ

المصباح المنير التسهيل في علوم التنزيل لابن جزي
مرات الإستماع: 0

"ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ۝ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:131-132].
يقول - تعالى -: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ أي: إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لئلا يؤاخذ أحدٌ بظلمه وهو لم تبلغه دعوة".


اسم الإشارة ذَلِكَ في قوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى يقول ابن كثير: "أي إنما أعذرنا بإرسال الرسل للناس إلى الثقلين، وإنزال الكتب؛ لئلا يؤاخذ أحد بظلمه" أي أن اسم الإشارة يعود إلى الإعذار بإرسال الرسل.
وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: ذَلِكَ يرجع إلى شهادتهم على أنفسهم، يقول: قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ۝ ذَلِكَ [سورة الأنعام:130] أي: شهادة هؤلاء على أنفسهم أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [سورة الأنعام:131] يعني هؤلاء أقروا على أنفسهم، واعترفوا، والاعتراف هو سيد الأدلة، فالله لم يكن ليهلك المكذبين، والظالمين؛ بظلم وأهلها غافلون.
قال الحافظ ابن كثير: "لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه الدعوة" هذا تفسير لقوله: بِظُلْمٍ في قوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:131] أي بظلم منه لهم بأن يأخذهم، ويعذبهم، ولم يبعث إليهم رسولاً، ولم ينزل عليهم كتاباً؛ فيكون ظالماً لهم بتعذيبهم، إنما يكون الإعذار بالإنذار، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبيان ما يجب عليهم، فإذا تركوا ذلك كانوا مستحقين للعقوبة، فيكون على هذا المعنى الذي مشى عليه ابن كثير - رحمه الله -: لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [سورة الأنعام:131] يعني بظلم منه، فيكون ظالماً لهم.
وهناك احتمال آخر وهو أن قوله: بِظُلْمٍ يعني بظلم منهم، أي: أن الله لم يكن ليأخذهم بظلم صادر منهم وهو الشرك كما قال - تعالى -: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان:13] حتى يبعث فيهم رسولاً، وبعبارة أخرى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم صادر منهم وأهلها غافلون لم تأتهم الرسل، ومن هنا يتبين الفرق بين المعنيين، فعلى المعنى الأول الظلم المنفي صادر من الله أي لا يعذبهم وهو ظالم لهم حيث لم يرسل لهم رسولاً.
والمعنى الثاني أن الله لم يكن ليعذبهم بظلمهم الذي هو بمعنى الإشراك، والكفر؛ وهم غافلون لم يأتهم رسل يبينون لهم ما هم عليه من الباطل، بل إنه يبعث إليهم الرسل، ويحصل لهم التذكير والتنبيه أولاً.
والمعنى الأول لعله هو المتبادر - وهو الأقرب - وهو الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله تعالى -، وهو الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، واحتج عليه ببعض الآيات كقوله - تبارك وتعالى -: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15]، وقوله - تعالى -: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء:165] - والله أعلم -.

"ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحداً إلا بعد إرسال الرسل إليهم كما قال - تعالى -: وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ [سورة فاطر:24]، وقال - تعالى -: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36] كقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15] وقال - تعالى -: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ۝ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا [سورة الملك:8-9] والآيات في هذا كثيرة".

مرات الإستماع: 0

"ذلِكَ [الأنعام: 131] خبر ابتداء، مضمر، تقديره: الأمر ذلك، أو مفعول لفعل مضمر، تقديره: فعلنا ذلك، والإشارة إلى بعث الرسل".

ويقول بعضهم: هذا يرجع إلى شهادتهم على أنفسهم.

"أَنْ لَمْ يَكُنْ [الأنعام: 131] تعليل لبعث الرسل، وهو في موضع مفعول من أجله، أو بدل من ذلك بِظُلْمٍ فيه وجهان:

أحدهما: أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم، فيكون إهلاكهم ظلمًا؛ إذ لم ينذرهم، فهو كقوله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15]".

هذا الوجه الأول: أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم، فيكون إهلاكهم ظلمًا، حيث لم ينذرهم، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم[1] والشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمهما الله -[2].

"والآخر: أن الله لا يهلك القرى بظلمهم إذا ظلموا، دون أن ينذرهم، ففاعل الظلم على هذا أهل القرى، وغفلتهم عدم إنذارهم". 

القول الآخر: أن الله لا يهلك القرى بظلم إذا ظلموا، فالظلم يكون واقع من أهل القرى، فلا يهلكهم بظلمهم، حتى يبعث الرسل، وينذر هؤلاء، ففاعل الظلم على هذا أهل القرى، والغفلة هي عدم إنذار هؤلاء، وهذا اختاره ابن كثير[3] وابن جرير[4] أي: أن الله لا يهلكهم بشرك من أشرك، وكفر من كفر، فهذا الظلم حتى يبعث فيهم الرسل، وعلى القول الأول: أن الله لم يكن يهلك القرى بظلم منه هو لهم، يعني من غير أن يبعث لهم الرسل، فيكون ظالمًا لهم، فيكون الإعذار، هذا معنى تحتمله الآية، بظلم، وكذلك المعنى الثاني، وكأن بين المعنيين ملازمة، بمعنى أنه إذا أهلكهم من غير بعث الرسل، فإنه يكون ظالمًا لهم، يهلكهم بماذا؟ يهلكهم بظلمهم، وبكفرهم، ومعاصيهم، وجناياتهم، فالمعنيان متحققان، ومتلازمان، فكأن ذلك - والله أعلم - لا يحتاج معه إلى ترجيح.

قال: "حكى الوجهين ابن عطية[5] والزمخشري[6] والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة، ولا يصح على مذهب أهل السنة؛ لأن الله لو أهلك عباده بغير ذنب لم يكن ظالمًا عندهم". 

هذا ليس بمذهب أهل السنة.

يقول: "حكى الوجهين ابن عطية، والزمخشري، والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة" وهو ليس بصحيح، بل على مذهب أهل السنة، يقول: "ولا يصح على مذهب أهل السنة؛ لأن الله لو أهلك عباده بغير ذنب لم يكن ظالـمًا لهم" هذا التعليل الآن هو الذي رد فيه القول الأول، وكل قول من القولين السابقين يصح على مذهب أهل السنة، فإن الله - تبارك، وتعالى - لا يهلك الناس ظلمًا منه لهم، حيث لم يبعث الرسل، ولم ينذرهم، ويبين لهم محابه، ومساخطه، هذا المعنى صحيح، لكن ما هي المشكلة عند هؤلاء؟ فبالنسبة للمعتزلة أن الله - تبارك، وتعالى - عندهم يجب عليه فعل يسمونه العدل، من أصول المعتزلة الخمسة، فيجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، يقيسون الله على الخلق، فيقولون: يمتنع عليه الظلم، وهذا صحيح، لكن ما هو الظلم عندهم؟ يقيسون الله على خلقه، فيقولون: يجب عليه كذا، ويمتنع عليه كذا، والأشاعرة ينفون الحكمة، والتعليل في أفعال الله والتحسين، والتقبيح من ناحية العقل، فيقولون: هما شرعيان، بمعنى لو أن الله جعل الكذب قربة، وطاعة لكان حسنًا، ولو جعل الزنا، والكفر قربة لكان حسنًا، ولو جعل الظلم طاعة لكان حسنًا، ولو جعل الصدق، والوفاء، والعفاف، والأمانة معصية لكان قبيحًا، وهذا الكلام غير صحيح، فكثير من الأعمال، والأشياء كثير منها له حسن، أو قبح ذاتي، تدركه العقول، فأهل السنة يقولون: التحسين، والتقبيح للعقل تعلق بهما، وكذلك النقل، والأشاعرة يقولون: هذا يرجع إلى الشرع فما حسنه فهو حسن، وما قبحه فهو قبيح، ولا مدخل للعقل في هذا، وهذا غير صحيح، وتفسيرهم أيضًا للظلم يقولون: هو التصرف في ملك الغير بغير حق، أو بغير إذنه، وهذا غير صحيح، وأهل السنة، والجماعة الظلم عندهم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهذا يرجع إلى أصل المعنى اللغوي، فهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو عذب المطيع، والمؤمن، والمحسن، ونعَّم الكافر العاصي، فهذا أمر لا يكون، فهو ظلم، وهو ممتنع على الله فالله لا يظلم الناس شيئًا يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا[7] فلا يمكن أن يعذب المؤمنين الطائعين الأتقياء الأبرار، وينعم الكفار الفجار، فهذا حرمه على نفسه، هذا الظلم عند أهل السنة، والجماعة، بينما هؤلاء لما كان الظلم عندهم يفسرونه بتفسير غير صحيح، قالوا مثل هذه المقالة، فهذا الذي ذكره عن أهل السنة هو قول المتكلمين. 

  1.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/248).
  2.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/279).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (3/341).
  4.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (12/124).
  5.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/346).
  6.  تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/67).
  7.  أخرجه مسلم في كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم برقم: (2577).