"وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: 137] كانوا يقتلون أولادهم بالوأد، ويذبحونهم تقربًا إلى الأصنام، وشركاؤهم هنا هم: الشياطين، أو القائمون على الأصنام."
وكذلك كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث، والأنعام نصيبا كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الفقر خشية الإملاق، ووأد البنات، وخشية العار".
والمقصود بالأولاد كما هو معلوم في كلام العرب الذكور، والإناث، وقد يقال: بأن المراد به هنا أحد النوعين، وهم البنات فكانوا يقتلونهن خشية أن تفتقر، خشية الفقر، ثم بعد ذلك تضطر إلى بيع عرضها، فيلحقها، ويلحقهم العار، فالأولاد يكونوا بذلك من العام المراد به الخصوص.
ويحتمل أنهم أيضا ربما قتلوا الذكور خشية الفقر، لكن المشهور أنهم كانوا يأدون البنات وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير: 8].
وقوله - تبارك، وتعالى - هنا: خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء: 31] خوف الفقر، وفي الأنعام: مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام: 151] أي: من فقر واقع، فهذا لا ينافي ما عرف من أنهم يفعلون ذلك أعني قتل البنات خشية العار هم يقتلونها خشية أن تفتقر، ثم تضطر إلى بيع عرضها، فقال الله : نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء: 31].
وهنا يقول: وشركاؤهم هم الشياطين على قوله جماعة من السلف كمجاهد، والسدي أن الشياطين هي التي زينت لهم ذلك، ومن عبد غير الله فهو عابد للشيطان.
يقول: أو القائمون على الأصنام كعمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من سيب السائبة وحمى الحامي، وأول من جاء بالأصنام إلى جزيرة العرب من الشام، وأول من غير دين إبراهيم - عليه الصلاة، والسلام - فشرعوا لهم ذلك، يعني يكون المعنى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، شركاؤهم فاعل، فعلى هذا المعنى يكون هذا التزيين باعتبار أنهم شرعوا لهم هذا، وتسببوا فيه، وحثوا عليه، فأطاعوهم في التحليل، والتحريم، فصاروا بهذا الاعتبار شركاء من دون الله كما قال الله - تبارك، وتعالى -: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ [التوبة: 31] يعني أهل الكتاب اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة: 31] فكان ذلك الاتباع، والطاعة، والتحليل، والتحريم من دون الله كان منهم عبادة، فهؤلاء الشركاء بهذا الاعتبار، وعلى تفسير الشركاء بالأصنام باعتبار أنها سبب القتل إذا كان يفعل ذلك تقربًا إليها، يعني إذا قلنا: بأن الشركاء هم الأصنام، والأصنام لا تنطق، ولا تتكلم، ولا تأمر، ولا تنهى، فباعتبار أنهم يفعلون ذلك تقربا إليها، لكن كأن هذا القائل نظر إلى العموم، وهؤلاء الشركاء هم من يعبد من دون الله، ومن جملة ذلك الأصنام فحمله على هذا المعنى أنهم كانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، لكن إضافة التزيين إلى الأصنام لا يخلو من إشكال.
ويحتمل أن يراد بذلك غُواة هؤلاء الضلال من المشركين، وهذا يرجع إلى قول من قال: بأنهم القائمون على الأصنام، فهم غواتهم بلا شك كعمرو بن لحي، وغيره، فهؤلاء كانوا يشرعون لهم، وهم الذين كانوا ينسأون الأشهر الحرم كما هو معروف إذا جاء الموسم، وفي منى فيقف الواحد منهم، وينسأ الشهر الحرام، يعني يجعل الشهر الحرام بدلاً من المحرم في صفر، ويطيعهم الناس في هذا، وهكذا، وهؤلاء الشركاء على قراءة الرفع التي نقرأ بها هؤلاء هذا يصدق - والله أعلم - على من زين لهم ذلك من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فأطاعوهم في هذا، فكانوا شركاء بهذا الاعتبار، شركاء لله جعلوهم شركاء باعتبار الطاعة، والتشريع، فشرعوا لهم هذه الشرائع الجاهلية، وجعلوا لهم ما ذكر من هذه الضلالات في الحرث، والأنعام - والله تعالى أعلم -.
"وقرأ الجمهور بفتح الزاي من زين على البناء للفاعل، ونصب قتل على أنه مفعول، وخفض أولادهم بالإضافة، ورفع شركاؤهم على أنه فاعل بزين، والشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل."
هذه القراءة واضحة يكون الشركاء فاعل هم الذين زينوا، هم من قام بالتزيين وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ فالمزين هو القتل فهو مفعول به، والفاعل مؤخر، وهم الشركاء.
يقول: وخفض أولادهم بالإضافة يعني إضافة قتل إليه، قتل مصدر مضاف وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، تقول: قتل ولده هذا فعل، فإذا جردت الفعل من الزمان تقول: قتل أولادهم فيجر المفعول بالإضافة، ومحله النصب؛ لأن المصدر يعمل عمل فعله إلا أنه جرد من الزمان، والمصدر هو أحد مدلولي الفعل بمعنى أن الفعل يتضمن الحدث، والزمان، فإذا جرد من الحدث من الماضي، أو المضارع، أو المستقبل - إذا جرد من الزمان - بقي الحدث، لا يتعلق بوقت ماضي، أو حاضر، أو مستقبل لكنه يعمل عمل الفعل قتل.
"وقرأ ابن عامر بضم الزاي على البناء للمفعول، ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله، ونصب أولادهم على أنه مفعول بقتل، وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله، وفصل بين المضاف، والمضاف إليه بقوله: أولادهم، وذلك ضعيف في العربية، وقد سمع في الشعر، والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد."
هنا يقول: وقرأ ابن عباس، وهذه قراءة متواترة سبعية لابن عامر بضم الزاي على البناء للمفعول، (وَكَذَلِكَ زُيَّنَ) فتكون زُين، ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله، يعني نائب فاعل (وَكَذَلِكَ زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ) فقتل مفعول به، أولادهم مضاف إليه، شركاؤهم فاعل، وعلى القراءة الأخرى زين لم يسم فاعله وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ فالقتل هنا نائب فاعل، وإلا فهو في الأصل مفعول به، ونصب أولادَهم التي كانت قتل أولادِهم كانت من قبيل المضاف إليه، وهنا قتل أولادهم على أنه مفعول بقتل، يعني المصدر، وخفض شركائهم على الإضافة، يعني قتل مصدر الذي بعده مضاف إليه فما قيل قتل أولادهم كما هو المتبادر على هذا الإعراب، والقراءة، قتلُ أولادهم فالذي بعده يكون مضافًا إليه، فقال: قتلُ أولادَهم، فما أضاف إليه فهو مفعول به منصوب ظاهرًا، ومحلاً على الإضافة إلى قتل.
يقول: وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله، شركائهم، يقول: وفصل بين المضاف، والمضاف إليه بقوله أولادِهم، وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم جيد على القراءة التي نقرأ بها، وهذا هو المفعول به، وعلى هذه القراءة الثانية يكون أولادهم بالنصب فهو مفعول به لقتل لكنه لم يجر لأن المضاف إليه على هذا هو الشركاء، فهنا فصل بين المضاف، والمضاف إليه، ومعنى هذا أن مُزينا زُين زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن يقتل شركاؤهم أولادَهم (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهِمْ) فقتل هو نائب الفاعل من الذي يقتلهم؟ شركاؤهم، لكنه جاء هنا مجرورا شركائهم باعتبار أنه مضاف إليه، قتلُ أولادَهم شركائِهم، شركائهم هنا فاعل مرفوع محلا، ومجرور لفظًا للإضافة، يعني زينوا لهم أن يقتل شركاؤهم أولادهم، فالشركاء على الأول هو الفاعل.
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شركاؤهم، وهنا أيضا الشركاء هم الذين أيضًا زينوا هذا، هم الذين زينوا هذا فيكون قتل أولادهم شركائهم، فقتل هنا مضاف، وشركائهم مضاف إليه، وهو الفاعل، فجر للإضافة، وإلا الأصل مرفوع، يعني هم من أمر به ... والأولاد مفعول به يقول: وذلك ضعيف في العربية.
يقول: وقد سمع في الشعر، والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد، وتضعيف القراءة بهذه الطريقة سبق تضعيفه يعني الاحتجاج بالعربية، أو يقال ضعيف في العربية، وهل تؤخذ العربية إلا من القرآن، والسنة، وهما أفصح الكلام، فقواعد اللغة كما هو معلوم بنيت على استقراء كلام العرب، وقد يصححون اللغة لقول شاعر مجهول، إلا أنهم يقولون في زمن الاحتجاج، ثم بعد ذلك يأتي في قراءة متواترة ما يقال عنه بأنه ضعيف بالعربية فهذا الكلام غير مقبول، ولا صحيح، لا يكون ضعيفًا بالعربية.
وابن عامر - رحمه الله - هو أعلى القرآن السبعة إسنادًا، وهو أيضًا في زمن الاحتجاج، ومن كبار التابعين إمام كبير في القراءة، ولا يخفى عليه مثل هذا، وأخذ عن جماعة من الصحابة كعثمان، وأبي الدرداء، ومعاوية، وفضالة بن عبيد، فكلامه في اللغة حجة، فكيف بالقراءة، والقراءة سنة متبعة، وقراءته هذه أيضًا موافقة للرسم الشامي، وأيضًا لقواعد العربية، والزمخشري ربما وهن القراءة، وكذلك ابن عطية بمثل هذا، والمؤلف ينقل منهما كثيرًا في هذا الكتاب، وهذا غير مقبول، ولا صحيح، وفي كلام العرب شعرًا، ونثرًا من هذا القبيل ما يدل على خلاف قوله، يقولون: هو غلام إن شاء الله أخيك، ففصل بين المضاف، والمضاف إليه، غلام أخيك، غلام إن شاء الله أخيك، فهذا الفصل أكثر من الفصل بلفظة مفردة.
ونُقل عن الكسائي أنه سمع قول بعضهم: "إن الشاة لتجتر فتسمع صوت والله ربها" هي تسمع صوت ربها ففصل بين المضاف، والمضاف إليه بالقسم، وهذا أكثر من مجرد الفصل بلفظة مفردة، وإلى آخر ذلك مما يذكر في هذا الموضع، ويمكن مراجعة ذلك في مظانه، وينبغي أن تنزه كتب العلم عن مثل هذا التوهين للقراءات الصحيحة المتواترة.
يقول: وذلك ضعيف في العربية، وقد سمع في الشعر، كقول الشاعر:
فزججتها بمزجة |
زجَّ القلوصَ أبي مزادة |
قال: زج القلوصَ أبي مزادة، فالقلوص لم يكن بهذا من قبيل المضاف إليه، إنما قال: زج القلوصَ فهو مفعول به منصوب، وأبي مزادة مضاف إليه، يعني زج أبي مزادة القلوصَ، فيكون زج هنا من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، فأبو مزادة هو الذي قام بالزج، والقلوص ناقة، ففصل بين المضاف، والمضاف إليه كما في هذه القراءة، فالمؤلف يذكر أنه سمع في الشعر، وكلام الله أبلغ من ذلك كله.
"لِيُرْدُوهُمْ أي: ليهلكوهم، وهو من الردى بمعنى الهلاك."
الردى بمعنى الهلاك ليهلكوهم فإن كان التزيين من الشياطين فاللام للتعليل، يعني الشياطين زينت لهم ذلك؛ لإهلاكهم؛ لأجل إهلاكهم فتكون للتعليل، لإهلاكهم، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة، يعني أن السدنة ما فعلوا هذا ليهلكوا قومهم، ولكن يكون عاقبة ذلك، ومآله الهلاك، وإن لم يقصدوا هذا، يعني مثل: عمرو بن لحي، ومن شابهه حينما شرعوا لهم هذا هم لم يشرعوا لهم قصدا لإهلاكهم، ولكن ليردوهم لتكون العاقبة الهلاك، كما قال الله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] هم ما التقطوه من أجل أن يكون لهم عدوا، فهي ليست للتعليل، فهم رجوا أن ينفعهم، أو أن يتخذوه ولدا، ولكن كان عاقبة ذلك أنه سبب لحزن كثير دخل عليهم، وكان عدوا لهم، فهو معنى الصيرورة، والعاقبة.